وائل قنديل :
هل تعرف الفرق بين المصيبة والمصيبة الأعظم؟
الأولى أن معرفة سيادة اللواء أركان حرب مدير إدارة المتاحف العسكرية بمصر، عن تاريخ العسكرية أقل كثيراً عن معرفة جنرال الكفتة بطب الأمراض المستعصية.
أما المصيبة الأعظم فهي أن مستضيفه ومحاوره على شاشة التلفزيون المصري لم يملك القدرة، أو الجرأة، أو الإرادة، التي تدفعه إلى ارتكاب حماقة مراجعة وتصويب الكوارث المعرفية والتاريخية، التي تدفقت منه، من عينة “أن معركة حطين كانت بين الملك رمسيس الثالث والحيثيين، وأن معركة عين جالوت كانت بقيادة الناصر صلاح الدين، وحرّرت القدس”.
أنت هنا لست أمام علامات نكسةٍ علميةٍ وثقافيةٍ وهزيمةٍ معرفية، فقط، بل الأفدح أنك أمام حالة احتفاء بالبلادة وتقديس للجهل، وعبادة عمياء للعسكرة، جعلت المذيع يقابل هذه الجريمة في حق التاريخ، وفي حق العلم، وفي حق مصر، بابتسامة رضا، بلهاء، تعني شيئين، لا ثالث لهما:
إما أن المذيع يشاطر سيادة اللواء عدم المعرفة بالتاريخ، ويرفل معه في بلهنية الجهل اللذيذ، فلم يلمس فيما ورد على لسانة أي خطأ.. أو أنه يدري أن ضيفه يفتح رشاش تخاريفه على المشاهدين. لكن، لأنه “عسكري” فلا رد لكلامه الجهول، أو حتى سؤاله اللطف فيه، باعتباره، عند جوقة إعلام السلطة، في منزلة القضاء والقدر.
هذا الذي جرى يكفي وحده لتتعرف على مصير البلاد والعباد تحت حكم السادة الجنرالات المدجّجين بالجهل والخرافة، من الذين رضوا بجهلهم، ورضي جهلهم بهم، ووجدوا من يصفق ويهلل لهذا الرضا المتبادل، خوفاً من سيف المعز، أو طمعاً في ذهبه.
هنا، لا فرق بين عبد الفتاح السيسي وعبد العاطي كفتة ولواء المتاحف، على مستوى المرسل، ولا فرق كذلك بين هذا المذيع وذلك الأديب العالمي، الذي رأى في السيسي أيزنهاور، والنائب الجديد عمرو الشوبكي، وريث عضوية ابن مرتضى منصور، والعائد بدكتوراه العلوم السياسية من أميركا، معتز بالله عبد الفتاح، على مستوى المتلقي والمروج.
تفرض السخرية نفسها هنا: إذ يأتي تفجر بحار المعرفة الفاسدة عند جنرال المتاحف متزامناً مع غرق مركب الفارّين من “نعيم العسكرة” في هجرةٍ غير شرعية إلى أوروبا، وذلك بعد ساعات من وقوف السيسي، مختالاً (لو سقطت نقطة حرف الخاء لن يهتزّ المعنى) بما يقوم به حزبه/ جيشه، من أعمال لحماية أوروبا من المهاجرين غير الشرعيين الأوغاد. وبناءً عليه، لا ينبغي لأحد أن يحاسبه على جرائمه ضد الإنسانية، واغتياله الحريات العامة والخاصة، لأنه لا صوت يعلو على صوت معركة الدفاع عن أوروبا والعالم ضد أشرار العالم الإسلامي، الذين يفرّون من جحيم الجنرالات المستبدّين في اتجاه الشمال.
يأتي هذا البؤس مع انطلاق حملةٍ عسكريةٍ جديدة تحت شعار”الجيش هو الحل” جرى التخطيط، والتمهيد لها، منذ فترة طويلة، وتتأسّس على عقيدةٍ زائفةٍ تقول إنه لا أحد يعرف ويفهم أكثر من العسكريين، ولا أحد أدرى بشؤون الحكم والإدارة من جنرالات الجيش. وعلى ذلك، لا بد من عسكرة جميع الوظائف العليا في مصر، إنقاذاً لها من الضياع.
تنطلق الحملة من أن الجيش هو “أبو قراط” في الطب، و”ابن الهيثم” في الفلك والهندسة، و”طه حسين” في التعليم، و”توماس إديسون” في الكهرباء، و”غراهام بيل” في الاتصالات، و”سقراط ” في الفلسفة، وأن “السيسي” تفوق على المعلم الأول، أرسطو، باعتباره “طبيب كل الفلاسفة”.
لم يحدث في تاريخ مصر أن تحوّل جيشها إلى مادةٍ للسخرية، كما في واقعتين اثنتين، الأولى بعد نكسة يونيو/ حزيران 1967 حين أفاق المصريون على أن جيشهم تلقى هزيمةً مروّعة، نسفت كل الأغنيات والقصائد والخطب النارية التي كانت تعدهم بتكسير عظام إسرائيل، وإلقائها في البحر.. والثانية في فترة ما بعد انقلاب عبد الفتاح السيسي وسيطرته على السلطة، مع فارق جوهري بين الواقعتين، إذ في الأولى بقي الجيش كمؤسسة عسكرية الطابع، على الرغم من انكفائه المؤلم، مما أتاح له لملمة روحه المبعثرة والوقوف مرة أخرى. أما في الثانية، فقد تغيرت صورة الجيش، لتصبح مزيجاً من كونه مؤسسة خاصة مملوكة للفريق الحاكم، وأيضا تحوّل إلى حزب سياسي، وكيان اقتصادي، مستقل بذاته في المجتمع، ينافس الجميع، ثم سرعان ما ضجّ بهذا التنافس، وأراد أن يهيمن على كل مفاصل الحياة.
وما دام الجيش قد قرّر أن يلعب في كل شيء، من تجارة أجهزة التكييف والزيت والسمن وحليب الأطفال، وصولاً إلى تجارة العلم ومنافسة المدارس الدولية، وقنوات التلفزة والإنتاج الدرامي، فالمنطقي أن يحترم قاعدة السوق “الزبون دائماً على حق”، لكن الذي يحدث أن الذين هبطوا بهذا الكيان المقدس من وضعية “الجيش المقاوم” إلى”الجيش المقاول” جاهزون، طوال الوقت، لاتهام من يعترض على رداءة السلعة وغطرسة البائع بخيانة الوطن والتآمر عليه.
وهل هناك مؤامرة على مصر أكبر من أن ينحدر مستوى وعي قادتها العسكريين بالتاريخ والجغرافيا إلى هذا الحضيض؟
وهل ثمة إهانة للجيش أكثر من أن يغرقونه في كل شيء، إلا الحياة العسكرية، على النحو الذي تعرفه الدول المحترمة؟
من يحب الجيش حقاً يهتف من أعماق قلبه “يسقط حكم العسكر”.