مجدي مغيرة :
لم يخطر على بال أنصار الشرعية أن التاريخ سيخلد اعتصامهم برابعة ، لم يخطر على بالهم أنهم يحفرون مجرىً جديدا لتاريخ مصر ومعها العالم العربي ومسيرة مصرالمستقبلية ومعها العالم العربي ، بل لا أبالغ إذا قلت : ومعهم العالم كله ،حفروا مجرىً جديدا بصمودهم وثباتهم وتضحياتهم ودمائهم .
كل من خالط المعتصمين أيقن تماما ألا مجال للتراجع أو التخاذل ، كان شعارهم الذي ترجموه على أرض الواقع : “نحن قوم لانستسلم ننتصر أو نموت ” ، وقد أيقنت حينها أن كل من سيحاول أن يقنع المعتصمين بالانسحاب ( حتى لو كان قادة الاعتصام أنفسهم ) ، فإنما فقط يُسْقِطُ نفسَه من أنظارهم ، وينتحر أمامهم انتحارا معنويا.
كذلك لم يخطر على بال الطغاة أنهم سطَّروا بغبائِهم وفجورِهم أنهم يحفرون قبورهم وقبور أمثالهم بأيديهم ، وسيختفون من مسرح الأحداث ربما لزمن طويل ، وربما للأبد .
قد يظن القارئ الكريم أنني أحلم ، أو أنني أعيش حالة من إنكار الواقع ، أوأعيش في حالة من الأماني العِذَاب التي لا وجود لها إلا في الأحلام …أحلام اليقظة وأحلام المنام .
لكن سنن الله تقول لنا غير ذلك ، ووقائع التاريخ تقول لنا غير ذلك .
آفة البعض أنهم يعتقدون أن ما حدث هو نهاية المطاف ، آفتهم أنهم نسوا سنن الله في الأمم والمجتمعات .
تخبرنا الآيات الكريمة من كتاب الله في سورة الروم بهزيمة الفرس للروم ، ووفق فهْم ورؤية المراقبين والمتابعين والمحللين وقتها ، فقد قرروا أن لن تقوم قائمة للروم بعد هزيمتهم الساحقة على يد الفرس ، وأن الامبراطورية الفارسية صارت هي القطب الأوحد في العالم ، لكن القرآن الكريم نزل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم بغير ما رأوا وبعكس ما توقعوا ، نزل القرآن ليخبر الجميع أن الرومَ المنهزمين سينتصرون بعد هزيمتهم ، وأن الفرس المنتصرين سينهزموا ، وحدد مكان المعركة ، بل وزمانها لكن بشيئ من الغموض ، إذ عبر عن التوقيت بكلمة “بضع” الدالة على العدد ما بين { 3-9 } .
حينئذ ضحك المشركون ، واستهزأ الكافرون ، لكن الأحداث صدقت قول كتاب الله ، وقامت معركة أخرى بين الفرس والروم استعاد فيها الروم كرامتهم ، وانتصروا على غريمهم الشرس كسرى فارس .
ثم بين القرآن الكريم سبب فشل الناس في توقعاتهم ، حيث بين أنهم فسروا الأحداث وفق أسباب الدنيا ، ونسوا أسباب الآخرة ، ونسوا إرادة الله تعالى التي لايردها رادٌّ ، ولا يحول دون حدوثِها حادثٌ ، فقال تعالى : { الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) } من سورة الروم .
الآن بعد ثلاث سنوات من المذبحة نرى الفشل هو عنوانُ كلِّ شيئٍ في مصر ، الآن نرى اعتراف من ندموا ، ونرى خيبة من طمعوا ، ونرى يأس من أمَّلوا خيرا من العسكر ، واعتقدوا أن الشعب سيأكل المَنَّ والسَّلْوى حينما يُذبحُ الإخوان وينمحي كلُّ أثرٍ لهم من مصر .
الآن نسمع الناس يتحدثون علنا عن ضرورة ذهاب العسكر جميعهم ، واختفاء حكم العسكر جميعهم ، يتحدث الجميع عن ضرورة سيادة العدل ، وعن ضرورة حفظ كرامة الإنسان مهما خالف الناسَ برأيه .
أيقن الناس ُ الآن أن الحفاظ على لقمة العيش لاتكون إلا بالحفاظ على الحرية والكرامة ، ولاتكون إلا بسيادة العدل والمساواة ، وبأن يعبر كلَّ إنسان عن رأيه بكل حرية دون قيد أو شرط ، فالدول لايعمرها إلا أبناؤها الأحرار ، ولا يحميها غير أبنائها الذين تشربوا معاني الشرف والكرامة ، أما العبيد فإنهم يخرِّبون من حيثُ يظنون أنهم يعمِّرون .
من المحزن أن الله تعالى خلق الإنسانَ وكرمَّه ، ووفر له كل أسباب الحياة العزيزة الشريفة ، فقال تعالى في سورة الإسراء :{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70) } لكن الإنسان بجهله أهان نفسه ، واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ، فهل آن لنا أن نستعيد كرامتنا التي وهبها الله لنا .