بقلم: عامر شماخ
عاد صديقى الخمسينى القديم يتحدث عن إحباطاته، ولوم وتقريع أنصار الشرعية، وعاد يبرر لنفسه القعود عن مواجهة الانقلابيين، بعدما كان شعلة من الحماس والإيجابية، قال: لم يعد لى رغبة فى الحديث عن الشرعية، ولم يعد لى طاقة فى التحرك لأجل هذه القضية خصوصًا أن الدنيا كلها تقف مع العسكر، وتساندهم، وتدعمهم بالقول والفعل..
قلت: ما هكذا يكون المسلم يا صديقى، بل المسلم من يعمل فلا يملّ، ومن لا ييأس أو يكلّ، ومن يبحث عن الحكمة فى الأمور كلها، فأنى وجدها فهو أولى الناس بها، وبعد كل هذا ينتظر أمر الله فى قضيته وشأنه، والله يقدر الخير بلاشك لأولىائه وسالكى درب رسله وأنبيائه، الذين لا يغترون بقوة، ولا يعرفون البطر ورئاء الناس، ولا يقعدون، ولا يعجزون، ولا يقصرون فى شأن من شئون دينهم ودنياهم، ولا يفترون عن ذكر الله، طائعين، أوابين منيبين..
يا صديقى!! إنك لن تجد فى التاريخ كله أحدًا انتصر طوال حياته، ولن تجد -فى المقابل- أحدًا انهزم طوال حياته، بل الأيام دول، ولو دامت لأحد ما وصلت إلينا، بل لتوقفت الحياة، وهذا محال إلا أن يقضى الله أمرًا كان مفعولا، حتى الأنبياء -صديقى!!- خضعوا لهذا القانون السماوى العادل، فقد قتلوا وسجنوا وهاجروا من ديارهم، وأحرقوا وأغرقوا فما أثناهم ذلك عن الجهر بالحق والتزام الصدق، ومواجهة الجبابرة الطغاة وأقوامهم الفسقة الذين غرهم حلم الله وصبره على أمثالهم من الفجرة الظالمين..
ما كنت أرغب أن أراك مذبذبًا يا صديقى، وأرجوك أن تعود لما كنت عليه، وأمامك القاعدة الذهبية: (عرفت فالزم)، والحق -يا صديقى- أبلج، صحيح أنه قليل الأنصار ضعيف الإمكانات، لكن لتعلم أن تلك طبيعته؛ كى ينضوى تحت رايته -فقط- أصحاب الضمائر الحية والقلوب العامرة، الذين يقبلون التضحية ويفدون الحق بأموالهم وأنفسهم، أما لو بدا قويًا فتيًا فلن يكون هناك تمييز، بل سينضم إليه الجميع -منذ البداية- رغبة ورهبة، وهذا على غير ناموس الكون.
إن الجهاد الحقيقى يا صديقى، هو ما يكون خالصًا لله، ليس لصاحبه فيه نصيب، من مال أو جاه أو منصب أو سمعة، وهو ما يكون فى المواطن التى يستحق أن يكون فيها جهاد، وليس فى مواطن الحمية والجاهلية وفى أوقات الدعة والراحة، والمجاهد -يا صديقى- ليس شرطًا أن يكون ذا إمكانات عريضة أو (فتوة) أو قائد رأى، إنما المجاهد ما وقر الإيمان فى قلبه فغذيت به جوارحه، فصار مجاهدًا أينما حل، من دون تكليف، أو رياء، ودون نظر إلى ما سوف يصيبه، بل هو عازم على رأى، وهو قادر على إنفاذه، ولو فقد روحه، ولو خسر دنياه جميعها..
إن غزوة أحد ليست كباقى الغزوات، بل هى (أم الغزوات) ورائدة المعارك، وما جرى للمؤمنين فيها وفى حنين درس عظيم، ليس لتخدير الصف كما يزعم البعض، لكن لإثبات أن المؤمن أمره كله له خير، وأن عنوانه: التحدى والصمود، وأنه لا يخشى إلا الله، ونفسه المطمئنة لا يعتريها ما يعترى نفوس الآخرين.. ابحث فى وقائع السيرة النبوية وفى هاتين الغزوتين تحديدًا، أحد وحنين، ستجد أن المنهزمين اليوم منتصرين غدًا -هذا بفضل القرآن وتربية النبى >- وأن النفوس التى أصابها القرح لم تقعد ولم تخذل، ولم تتحدث حديث النساء الأنان الشاكى الباكى الآسى، إنما هى نفوس كبار لا تهن ولا تحزن، وتشعر -دائمًا- بالعزة والعلو، وتثق أن تلك هنات وجروح طفيفة يعالجها كرّ الأيام، وذلك أمر الله، ومن يرض بقضاه يشف صدره ويعجل باستجابة ما تمناه.
اذكر يا صديقى الصحابى عبد الله بن مسعود الذى رفع صوته بالحق فى الملأ من أهل مكة -والمسلمون وقتها مستضعفون- فقاموا عليه فأدموه، وهو الضئيل الجسم من لا قبيلة له تحميه، ثم يغدو للجهر بسورة الرحمن على رءوس أولئك الجهال المشركين الذين كانوا آلهة فى قومهم، غير آبه لما ينتج عن ذلك من آثار..
لا عذر لقاعد -يا صديقى- فى مواجهة العسكر الانقلابيين، وليس هناك مبرر مقبول للابتعاد عن المعركة؛ لأن ما جرى وما يجرى جريمة ليس من المقبول الانشغال بها بأحاديث فرعية وقضايا جانبية، فإن من أضاعوا الوطن وحاربوا الدين وفعلوا الأفاعيل بالوطنيين الحقيقيين، يستحقون أن يحاربوا، وكلٌ على قدر جهده وطاقته، فإن اتقاء النار قد يكون بشق تمرة إنفاقًا فى سبيل الله، ودخول الجنة قد يكون بشطر كلمة فى حضرة وسطوة سلطان ظالم.. فلتقلها يا صديقى، واعلم أن معك مولاك، يحفظك ويتولاك.