بقلم: د.سيف الدين عبد الفتاح
كنت، في فترة سابقة قبل ثورة يناير، في عام 2008، قد شاهدت برنامجاً يعالج الأمر الذي يتعلق بظاهرة الغش الجماعي في الامتحانات في مصر، خصوصاً امتحانات الثانوية العامة.
وبدأ هؤلاء من ضيوف البرنامج يناقشون هذا الأمر ويقلبونه، فمن قائلٍ إنّ النظام التعليمي فسد، ومن قائل إن الطالب لم يعد طالباً يطلبُ العلم، لكنه يقوم بكل ما من شأنه أن يحصل على شهادته، حتى ولو من غير استحقاق. وتحدث آخرون عن المناهج ومحتواها، وعن طريقة الامتحان ومستواه.
في كل الأحوال، تطرّق الجميع إلى أسبابٍ هنا وهناك، ينظر فيها تحت أقدامه، لكنه لا يلج الظاهرة في عمقها، وفيما تحت سطحها، باعتبارها تعبيراً عن ثقافة سلطةٍ مستبدةٍ عاتيةٍ، احترفت التزوير وقدّمت للمجتمع أسوأ نموذجٍ، يمكن أن يقتدي به، فصار يمارس عموم الناس كل ما من شأنه أن يحصل على أي أمرٍ، من دون استحقاق.
ظللت وأنا أتابع ذلك البرنامج، وأتابع تلك العوامل والأسباب التي رأى بعضهم أنها خلف ظاهرة الغش الجماعي، وكان البرنامج يسمح للجمهور بالقيام بمداخلاتٍ، وظللت أتصل فترةً طويلةً، إلا أنني لم أنجح في عمل التعقيب. كان تعقيبي الذي أردت أن أبديه يتلخص في كلماتٍ قليلة، “أنّ الغش في الامتحانات هو عينه مثل تزوير الانتخابات، في محاولةٍ مني للفت الانتباه إلى كيف أن الأمر الذي يتعلق بأنظمة الاستبداد وسيرتها ومسيرتها في إحكام هذه العلاقة الاستبدادية، حينما تقوم بذلك، فإنها تقدّم أكبر عدوى للمجتمع، لإمراضه اجتماعيًّا ومجتمعيًّا، وتفسد شبكة علاقته، وتعطل قدراته الحية وتفرز أسوأ ما فيه من قيم سلبية، تحاكي فيها منظومة القيم الاستبدادية، إن كان للاستبداد قيمة، وهو أمرٌ، للأسف الشديد، ساد المجتمع، وصار ديدناً لخطاباته وسلوكياته.
إذاً، ماذا يحدث في المجتمع؟ هل هي ثقافة الغش والتزوير وقد احترفتها السلطة في كل عمل تقوم به، حتى تحكم سياسات وعلاقات الاستبداد، وقديماً قالوا: الناس على دين ملوكهم. وأياً كان الأمر في هذا المقام، فإنه يعبر عن كيف أن السلطة تقوم بقدراتٍ إفساديةٍ للمجتمع، في إطار تحكّمها الاستبدادي، على ما يؤكده ابن خلدون في مقدمته “من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين سطا به القهر، وضيّق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحُمِلَ على الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه، وعلّمه المكر والخديعة لذلك. وصارت له هذه عادةً وخُلُقاً، وفسدت معانى الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمرّن، وهى الحَمِية والمدافعة عن نفسه ومنزله، وصار عيالاً على غيره في ذلك، بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخُلُق الجميل، فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها، فارتكس، وعاد في أسفل السافلين، واستولى عليه التخابث والكيد”.
ينما نؤكد على ذلك، فإننا، في حقيقة الأمر، نضيف إلى منظومة الاستبداد وشبكة الفساد منظومة ثالثة، وهي منظومة الانقلاب، وهي تقوم على قاعدة استخدام القوة واغتصاب حقٍّ بلا مسوغ، ويقوم من خلال قوته أن يضفي شرعنة على غصبه، أو اغتصابه هذه، هي قضية منظومة الانقلاب، فتضيف لهذا الشأن أمراً خطيراً، يتعلق بعمليات البلطجة التي يمارسها النظام السياسي والسلطة في محاولةٍ لإرهاب الناس، وتقديم نموذج يتعلق بتحقيق المصالح طغياناً وعنوةً، فيحاكي بعض من المجتمع هذه البلطجة، في دوائر أضيق، وفي مجالات أكثر محدوديةً، لكنه يحاكي البلطجة نفسها التي تقوم على قاعدة استخدام القوة، للحصول على ما ليس بحقه، معتبراً أنه حقه، فتصير البلطجة حالةً دائمةً وعامةً.
ومن الخطر في ذلك أن يكون التقاضي بعد ذلك تعويقاً للعدالة بالتأخر فيها، أو أنه لا ينتصف للمظلوم، فتنهار معايير المجتمع، وتقدم مجتمعاً على حافة الاقتتال، وكأنه على أعتاب حربٍ، الكل ضد الكل على ما يقوله هوبز. ذلك أن السلطة لم تعد تقوم بوظائفها المنوطة بها، بل صارت البلطجي الأكبر، والفاسد الأكبر، والظالم الأكبر. وكل شيء يمارسه إنما يمارسه من قناة صولجان القوة الذي يغتر به، ويتغطرس، من خلاله، على عموم الناس، إنها قوة الغطرسة في غبائها، وغطرسة القوة في طغيانها.
نأتي بعد ذلك إلى الظاهرة الخطيرة التي تتعلق بتسريب الامتحانات ودولة التسريبات، ماذا “هل هي ثقافة الغش والتزوير وقد احترفتها السلطة في كل عمل تقوم به؟” يمكن أن نسمي هذه الظاهرة التي تتعلق بمتوالية الغشّ الجماعي، بدءاً من تسريب الامتحانات التي غالباً ما يكون وراءها أصحاب سلطةٍ وقوةٍ يحاولون أن يمرّروا ذلك لمصلحة آباءٍ فاشلين وأبناء فاشلين. إنه اغتصاب لما ليس من حقهم باعتبار أنه حقهم، وسترى، في كل مرة، أن وراء ذلك فنانا كبيرا أو موظفا كبيرا أو لواء كبيرا أو أي كبير.
يتعلق الأمر بنا هنا بشبكة تسريبٍ، تحاول أن تستفيد من ذلك الوضع، إنْ فساداً وإنْ إفساداً. ومن هنا، تكون تلك التسريبات، في حقيقة أمرها، هدماً لكل معيار، وحينما تحاول أن تفهم الأمر، فيرد عليك صاحب هذا الفعل الفاسد المفسد بأن الأمر يسير هكذا في عموم البلاد، ويطلب منك ألا تحدثه عن أخلاقٍ وقيمٍ، فالكل يحاول أن يقتنص أكبر قدر من كعكة الفساد. ماذا يمكن أن ترد على مثل هؤلاء، إنه يقول إن الفساد والظلم صارا أمرين يتعلقان بثقافة سلطةٍ وثقافة مجتمع. ومن هنا، كان كلامي منذ البداية “أن الغش في الامتحانات هو بعينه تزوير الانتخابات” من السلطة.
يتعانق مع فكرة التسريبات أمر يتعلق بتسريباتٍ أخرى، تسريباتٍ من داخل أجهزة الحكومة والمؤسسات الأمنية الكبرى وأعتاها. هذه المرة، أشير إلى تسريباتٍ حدثت من مكتب وزير الدفاع (المنقلب لاحقاً) ومدير مكتبه عباس كامل. هذه التسريبات إنما كانت تدل على اختراق لمؤسسات مهمة في الدولة، والوصول إلى تسجيل تلك المكالمات، إلا أنها كانت تدلّ، من ناحية أخرى، على هشاشة هذه الأجهزة، وعدم قدرتها على تأمين أي شيء. ومن ثم، أستغرب استغراباً شديداً من هؤلاء الذين خرجوا علينا باقتراحات أن يتولى الجيش ومؤسساته أمر التعليم وامتحاناته. نسي هؤلاء أن تلك المؤسسات كانت من الهشاشة، وصادفت تسريباتٍ أخطر من تسريبات الامتحانات، وكشفت المستور عن بعض ما يدور، وكان ذلك تعبيراً، في حقيقة الأمر، عن عدم أهلية تلك المؤسسات، للقيام بأدوار أمنية وتأمينية لحماية الأمن القومي، وأن هذه الأجهزة قابلة للاختراق، تتسم بالهشاشة، فكيف يمنع التسريبات من تسربت معلوماته ومحادثاته من خلال تسريبات ما زالت تلاحقه.
وهناك تسريبات أخرى على وزن الإرهاب المحتمل “تسريبات محتملة”، أعني حالة الإهمال والعجز والإغفال لكل صنوف المراقبة والمتابعة والمساءلة ضمن الأجهزة العامة للدولة، ونتحدّث حديث الزيف والغطاء عن مكافحة الإهمال والانحراف والفساد، “التسريب المحتمل” هو من مفاعل نووي، يزمع هؤلاء أن يشيّدوه وفق اتفاقاتٍ ومعاهداتٍ. ولكن، ألا يكون من المحتمل في ظل حالات الفساد المنتشرة والإهمال الممتد والإفساد الذي يلف كل شيء أن يحدث تسريبٌ من ذلك المفاعل النووي المزمع إنشاؤه، هل من خطر قادم، يمكن أن يطول البلاد والعباد؟
في ظل أجواء التسريبات التي تشير من كل طريق إلى استبداد وفساد وإهمال وعجز وهشاشة وضعف صارت الأمور ثقافة سلطة ومجتمع يحاكي هذه الثقافة الفجة، وصارت البلطجة عنصراً أساسياً في الحصول على ما لا يُستحق، سنرى ذلك المشهد الأخير حينما أراد هؤلاء أن يقيموا لجاناً لأبناء الضباط والقضاة وكل صاحب شأن، حتى يمارسوا الغش الجماعي براحتهم. يا سادة، إنه الغش والتزوير والتسريب في حماية السلطة الغاصبة التي تحترف التزوير، إنْ لم تعرفوا ذلك، فأنتم لا تعرفون كيف تسهم السلطة المستبدة الفاسدة في إفساد المجتمعات.