العشر من ذي الحجة .. مدرسة إيمانية

تحتاج النفس البشرية المؤمنة إلى استثارات إيقاظية قوية كلما لفها الكسل عن الطاعة، وأقعدها الميل إلى المتاع.

وفي غمرة الزحام الدنيوي المتكاثر من الملهيات والمغفلات والمكتسبات المادية المحضة، تتطلع نفس المؤمن إلى حالة إيمانية ترفعها عن الأرض، وترفرف بها إلى عنان الأفق الرباني الرحب.

وتمر على النفس أوقات وأيام تكون فيها أقرب ما تكون إلى العودة إلى الله وبناء عهد جديد معه سبحانه، وتعد هذه العشر من ذي الحجة أنسب ما يكون لتلك الأوبة وخلاص التوبة.

والمنهج الإسلامي التربوي جعل من استغلال تلك الأيام وسيلة ناجعة لتربية إيمانية موجهة، ودفعة قلبية روحانية صالحة، تغسل فيها القلوب العاصية من درنها، وتئوب فيها النفوس المقصرة إلى بارئها، وتأوي الروح فيها إلى حياة شفافة نقية لا تلوي على شيء غير الطاعة والإيمان.

الأيام العشر .. جماع الخير
لقد جمعت تلك الأيام العشر الخير من أطرافه، فهي خير الأيام وأعلاها مقامًا.

أقسم بها الله سبحانه في كتابه بقوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2]، إذ يقول جمهور المفسرين: إن مقصودها عشر ذي الحجة.

ورفع النبي صلى الله عليه وسلم شأن العمل الصالح فيها أيما رفعة، حين قال: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -يعني أيام العشر-» (أخرجه البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه).

وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: «ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ولا أعظم أجرًا من خير يعمله في عشر الأضحى» (رواه الدارمي عن ابن عباس وحسنه الألباني).

وأمر فيها صلى الله عليه وسلم بكثرة الذكر، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد» (أخرجه أحمد عن ابن عمر).

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، فقد أخرج النسائي وأبو داود وصححه الألباني عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر؛ أول اثنين من الشهر وخميسين”. قال الإمام النووي عن صوم أيام العشر: “إنه مستحب استحبابًا شديدًا”.

وأمر بصيام يوم عرفة، فقد روى مسلم عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة، فقال: «يكفر السنة الماضية والباقية»، وروى الطبراني عن ابن عمر أنه قال: “كنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نعدله بسنتين” (وصححه الألباني).

يقول الإمام ابن حجر في فتح الباري: “والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة؛ لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي الصلاة والصيام والصدقة والحج، ولا يتأتى ذلك في غيره”.

وكان التابعي الجليل سعيد بن جبير “إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه”، وروي عنه أنه قال: “لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر”؛ يريد قراءة القرآن وصلاة الليل.

وقال ابن رجب الحنبلي: “لما كان الله سبحانه قد وضع في نفوس عباده المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين”.

وسُئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان أيهما أفضل؟

فأجاب: “أيام عشر ذي الحجة أفضل من أيام العشر من رمضان، والليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي عشر ذي الحجة”.

وقال ابن القيم مقارنًا بين فضل تلك الأيام: (خير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر، كما في سنن أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر». ويوم القرّ هو يوم الاستقرار في منى، وهو اليوم الحادي عشر. وقيل: يوم عرفة أفضل منه؛ لأن صيامه يكفر سنتين، وما من يوم يعتق الله فيه الرقاب أكثر منه في يوم عرفة؛ ولأنه سبحانه وتعالى يدنو فيه من عباده، ثم تباهي ملائكته بأهل الموقف).

لقد جمعت هذه العشر حقًّا الخير من أطرافه، فصارت بحق جماعًا للخير، فما من عمل صالح إلا ويستحب فيها، وما من أيام هذا العمل الصالح فيها خير منها.. فهي خير محض للنفس الطاهرة النقية، وهي دورة روحية إيمانية تتبوأ من العام مكان الصدارة من حيث خيرية الأيام.

بين الحج والثج
أما من وفقه الله لحج بيته فقد وفقه إلى خير ما يحب، وقد اختاره ليغسله من ذنوبه ويرجعه -إن أخلص نيته وأحسن حجه- كيوم ولدته أمه، ويسّر له أن يفتح سجلاًّ جديدًا أبيض يبتدئ فيه عهدًا إيمانيًّا جديدًا.

فثياب الإحرام تخرجه من حيز رؤية المتاع وتضعه في حيز رؤية الكفن، فلا زينة خداعة، ولا شهوة مغفلة، ولا صراعًا أحمق على الدنيا الزائلة، فالكل في ثوب الإحرام سواء، تمامًا كما هم في الثوب الأخير، والكل خائفون من الذنب راجون الرحمة التي وسعت كل شيء.

وليعلن المؤمنون يوم الحج إعلانًا عالميًّا -في وقت تنزف فيه الأمة وتسيل دماؤها- أن شعوب المسلمين في كل أنحاء الأرض هم على قلب واحد، ومنهج واحد، وهدف واحد.. يعبدون ربًّا واحدًا، يرجون رحمته ويخافون عذابه، فليخسأ عندئذ الشيطان وأولياؤه، وليعتزّ كل مسلم بدينه، ذاك الدين الذي يعلو؛ إذ إنّ الله مولاه وأعداؤه لا مولى لهم..!!

وفي ذات الوقت الذي يثجّ فيه الحجيج دماء هديهم.. وينهر المضحون دماء أضاحيهم يوم النحر، وتعلو في الآفاق أصوات التكبير.. يقدم الشهداء الصالحون في كل ربوع الأرض دماءهم ونفوسهم طيبة رخيصة لوجه الله ربهم، فتبتسم شفاههم عند آخر أثر للروح، ويستقبلون الآخرة يثج منهم الدم.. اللون لون الدم.. والريح ريح المسك.

كيف يستغل المربون أيام العشر ؟
تعد أيام العشر من ذي الحجة فرصة تربوية يستطيع كل مربٍّ أن يستغلها في التوجيه إلى معالي الفضائل والأخلاق، كما يستطيع أن يجعلها منطلقًا صحيحًا لتجديد نفسي سنوي لمتربيه ومتعلميه على مستوى الإيمان والتوبة والعمل الصالح، ونحن نقترح أن يكون ذلك من خلال بعض المحاور الأساسية:

أولاً: صناعة البيئة الإيمانية:
فالمنهج الإسلامي يساعد المربي في تلك الأيام على تهيئة البيئة الإيمانية، وصناعة الجو الإيماني العام المؤثر على الأفراد المراد توجيههم.

فالصيام والتكبير والذكر وعدم الأخذ من الشعر أو الأظفار -للمضحين- وارتفاع أصوات التلبية من الحجيج في شتى الأماكن تنقلها الإذاعات ووسائل الإعلام، وشراء الأضاحي والاستعداد ليوم النحر… كل ذلك يساعد المربي على إكمال الجو الإيماني المطلوب.

ودور المربي هنا هو استغلال ذلك بأعمال دعوية تكون ذلك الجو الإيماني الصالح، فيدعو متربيه إلى لزوم المساجد لأوقات قد تطول بعض الشيء وينتظرون من خلالها الصلاة بعد الصلاة، ويتلون من خلالها القرآن، ويتحينون الفرصة عند الإفطار في كل يوم للدعاء الصالح والمناجاة.

كما يمكن المشاركة في بعض الأعمال الجماعية التي تنشئ روح التضحية والبذل كالاجتماع على صناعة طعام للصائمين، ودعوة الفقراء لذلك الطعام الذي قد أعدوه بأنفسهم وتعبوا في إعداده، وتعاونوا على الإنفاق عليه من أموالهم الخاصة.

كما يمكنه أن يجتمع بهم فيتلو عليهم آيات وأحاديث تأمر بالصدقة والبذل والعطاء وسير الصالحين في التصدق في سبيل الله، ثم يأمرهم بالخروج للتصدق (كل على حدة)، ويذكّرهم باستحضار النية الصالحة وإخفاء الصدقة.

كما يمكنه أن يذكرهم بحديث أبي بكر الصحيح يوم أن قام بأربعة أعمال صالحات، هي: الصيام، واتباع الجنائز، وعيادة المريض، والتصدق بصدقة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال عنه لمّا عرف ذلك منه: «ما اجتمعن في رجل في يوم إلا غفر الله له». فيتشبهون بفعل أبي بكر -رضي الله عنه- في جمع تلك الأعمال الصالحات الأربع في يوم… وغير ذلك.

ثانيًا: الدعوة إلى تغيير النفس والخلق والعادات من السلب إلى الإيجاب:
تناسب هذه الأيام العشر أن يجدد المربي دعوته لمتربيه أن يقوموا بعملية تغيرية لأنفسهم وأخلاقهم السيئة أو السلبية وعاداتهم المرفوضة إلى نفوس نقية للخلق جميعًا، وأخلاق تتشبه بأخلاق نبيهم صلى الله عليه وسلم، وعادات إيمانية طيبة، خالعين أخلاق وعادات الجاهلية والنفعية وما يتعلق بحب النفس والرغبة في العلو على الآخرين.

وينبغي أن يوجه المربي توجيهه نحو ذم خلق الكبر والعجب، مذكرًا إياهم كيف أمر الشرع أن يستوي الناس في الحج في ثيابهم وسلوكهم وكلامهم وأهدافهم، وأن يتركوا الدنيا والعلو فيها، وكيف يستوون في الرغبة فيما عند الله يوم عرفة، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما يوجههم نحو السيطرة على النفس وعلى شهواتها ورغباتها وترك الترفه والتنعم ما استطاعوا إلى ذلك والاخشوشان؛ عملاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «البذاذة من الإيمان»؛ وتشبهًا بالمحرمين الذين لا يجوز لهم الترفه بحال، ولا التنعم بشيء من المتاع الممنوع منه المحرم، بل ضبط للنفس ورباطة للجأش وبُعد عن شهوات الفرج والجنوح نحو المعاصي {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ} [البقرة: 197].

ثالثًا: التوجيه نحو التعاون والاعتصام ووحدة الكلمة:
ففي العشر من ذي الحجة تبين معاني الاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق، فالمسلمون جميعهم كل عام يرغبون في حج بيت الله تعالى، والحجيج يمثلون أعظم الصور الواقعية من التعاون والاعتصام بذات المنهج وذات الهدف في مشارق الأرض ومغاربها، والذين لم يقدر الله لهم الحج لهذا العام فهو يشارك الحجيج مشاعرهم القلبية، وترفرف روحه من حولهم داعيًا ربه أن يلحقه بهم في قابل.

والمربي ها هنا يدعو متربيه لنبذ الخلاف والتفرق والسعي للوحدة، وعدم استحقار العمل الصالح من أحد أيًّا كان، ورؤية العاملين لله جميعهم على ثغور مستهدفة، فيدعو لهم، ويرجو لهم النصرة، ولا يخذلهم ولا يسلمهم، بل يدعو لهم وينصرهم بما استطاع، ويناصحهم فيما رآه خطأ منهم، ويوجههم بالحسنى فيما خفي عنهم.

إنها أيام صالحات مباركات ينتظرها المؤمنون الصالحون؛ ليخلعوا ربقة الارتباط بالدنيا عنهم ويتحرروا من قيد الشهوة وقيد الأماني البالية، ويسطروا سجلاًّ من نور، فلا مادية تكسر حاجز الشفافية، ولا معصية تدنس الطاعة، بل ذكر وخشوع وتوبة وبكاء، فيرون الكون كله حبورًا وشفافية، ويمتزج النور بالسعادة، والأمل بمعنى الصدق، وتصبح الجنة هي المطلب والإخلاص هو المرتجى، وحسن الظن بالله هو كهف الأمنيات.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...