خرج النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرا من مكة إلى المدينة، ليس معه إلا الصِّديق أبو بكر، والدليل الذي يهديهما الطريق، وهو مشرك، وقد أعد النبي كل ما في وسعه من الأسباب ليعمي الأمر على قريش التي رصدت جائزة كبرى لمن يأتي بالنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه حيين أو ميتين، وكان من الأسباب التي اتخذها حتى لا يجده الكفار: أن اختار غارا قريبا من مكة، هو غار ثور، في جهة غير جهة المدينة المهاجر إليها، ليبقى فيه أياما قليلة حتى يهدأ الطلب والبحث عنه، لكن المشركين استطاعوا في بحثهم أن يصلوا إلى الغار الذي اختبأ فيه هو وصاحبه، ووقفوا أمامه. وقال أبو بكر: يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا! فقال له الرسول: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟! لا تحزن إن الله معنا” .
وفعلا .. كانت معية الله هي التي أنجتهما من براثن المشركين، واعتبر القرآن هذا نصرا. قال تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة:40].
واليقين الثاني كان حين غادر الغار، ومر هو وصاحبه ورفيقه ببعض العرب،
فسمع الفارس المغامر سراقة بن مالك الجعشمي بالجائزة، ودارت في رأسه الأحلام بالنوق الحُمْر المائتين، جائزة قريش: للرسول مائة، ولرفيقه مائة، ويلحق بالنبي وصاحبه، لكن النبي صلى الله ليه وسلم، وقد انقطعت به الأسباب، يلجأ إلى مسببها، رافعا يديه لرب عوده أن يكون معه، ويقول: “اللهم اكفنا سراقة”. فما إن أتم دعاءه: حتى غاصت قوائم جواد سراقة في الأرض، وأدركه الوهن، وينظر إليه الرسول قائلا له كلمات ملؤها اليقين: “يا سراقة، كيف بك إذا ألبسك الله سواري كسرى؟”. فيتعجب الرجل، ويقول: كسرى بن هرمز؟ فيقول: “نعم”.
يعد صلى الله عليه وسلم بسواري كسري لصعلوك من صعاليك العرب، وهو الذي خرج متخفيا هو وصاحبه، لكنه اليقين بنصر الله، وأنه لا يخلف الميعاد.
وفي غزوة بدر، وقد تلاقى الجمعان، وجيش قريش ثلاثة أضعاف جيش المسلمين، ومعهم من العدة والعتاد أضعاف ما مع المسلمين، وكانت حال المؤمنين كما وصفها الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123]. لكن النبي صلى الله عليه وسلم، يثق في موعود ربه، ويرى نهاية المعركة رأي العين حتى إنه يقول لأصحابه: “هذا مصرع فلان”. قال أنس: ويضع يده على الأرض: “هاهنا، هاهنا” قال: فما ماط أحدهم عن موضع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي غزوة الأحزاب، التي ذكر الله تعالى من شأنها: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب:10-12].
{ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
قريش وغطفان ومن معهم من الأحزاب تحزبوا على رسول الله في عشرة آلاف مقاتل، والنبي لا يأمن غدر اليهود، والصحابة قد أصابهم الضيق والجوع، ودعاية المنافقين تحاول أن تعمل عملها، لتوهن النفوس، وتُضعف العزائم، وتفرق الصفوف، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبصر النصر أقرب من منتهى بصره، ليس نصرا على هذه الأحزاب التي ينتظرون، ولكنه نصر على كبرى دول العالم وقتها، فيقول لأصحابه وقد عرضت لهم صخرة لا تأخذ فيها المعاول في مكان من الخندق، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول بيده، وقال: “باسم الله”. فضرب ضربة وقال: “الله أكبر، أُعْطِيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأبصر قصورها الحمر من مكاني هذا”. ثم قال: “باسم الله”. وضرب أخرى، فقال: “الله أكبر، أعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا”. ثم قال: “باسم الله”. وضرب ضربة أخرى فقال: “الله أكبر، أعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا”.
والله، إن نصر الله قريب، وقد لاحت تباشيره، وظهرت بواكيره، لكن النصر صبر ساعة، النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، ومع العسر يأتي اليسر يرونه بعيدا.
نحن مؤمنون بأن الله سيمن علينا بمنته، ويأخذ عدونا بقدرته.
{وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } [النمل:50-53].