في ظل حالة التنابذ والتربص العربي العربي، لم تجد بعض البلدان الخليجية بدا لحماية عروشها من إظهار علاقات ود ظلت خفية طيلة سنوات سابقة مع الكيان الصهيوني، ولم تجد تلك الدول التي كانت تصدح من قبل بالهتافات ضد العدو؛ حرجا من استقبال مسؤولين صهاينة حتى مستوى رئيس وزراء، أو رفع العلم الإسرائيلي في عواصم لطالما حرقته، وترديد النشيد الإسرائيلي في عواصم لطالما غنت “أمجاد يا عرب أمجاد”.
الموجة الجديدة للتطبيع التي انطلقت في أواخر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولمدة ثلاثة أيام متتالية، ولا تزال تداعياتها مستمرة حتى الآن، شملت ثلاث دول عربية خليجية، هي سلطنة عمان وقطر والإمارات، بخلاف تعزيز العلاقات (سرا) مع المملكة العربية السعودية و(علنا) مع دول عربية كبرى مثل مصر والأردن.
بدأت الموجة الجديدة بوصول وفد رياضي إسرائيلي إلى قطر يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر، للمشاركة في بطولة العالم للجمباز التي استمرت حتى 3 تشرين الثاني/ نوفمبر، ورغم أن المشاركة الإسرائيلية كانت جزءا من بطولة عالمية استضافتها الدوحة، ولم يكن بوسعها منع أي فريق دولي من المشاركة فيها، إلا أن مجرد عزف النشيد الوطني الصهيوني في الدوحة وظهور العلم الإسرائيلي في سمائها؛ كان كسرا لثوابت عربية برفض التطبيع أيا كان (رياضيا أو سياسيا) مع الكيان الصهيوني، واستعادة لمناخ تطبيعي لم يقاوم كثيرا من قبل بين الدوحة وتل أبيب؛ عبر استضافة الدوحة لمكتب تجاري إسرائيلي في العام 1996 وتم إغلاقه في العام 2000، مع اندلاع الإنتفاضة الفلسطينية، وإن كان ذلك الإغلاق لم يمنع من حدوث مقابلات على مستوى عال بين مسؤولين قطريين وإسرائيليين، لكنها ظلت مستهجنة طول الوقت.
لم يمر يوم واحد حتى حملت الأنباء نبأ زيارة وزيرة الرياضة الصهيونية ميري ريغيف على رأس وفد رياضي إسرائيلي إلى أبوظبي؛ للمشاركة في بطولة جراند سلام أبو ظبي للجودو، وهي ليست بطولة دولية تلتزم فيها الإمارات باستقبال كل الفرق المشاركة، بل هي مجرد مبادرة إماراتية تدعو لها فرقا دولية. وكما حدث في الدوحة، تكرر الأمر في أبو ظبي، حيث عزفت موسيقى النشيد الوطني الإسرائيلي، وارتفع علم الكيان الصهيوني في سماء أبو ظبي. وللتذكير أيضا، لم تكن تلك الزيارة هي الأولى من نوعها، فقد سبقها وزيران هما عوزي لانداو (وزير السياحة السابق) ويوفال شتاينتش (وزير البنية التحتية السابق).
لكن الواقعة الأبرز للتطبيع الرسمي، والتي تمت خلال الأسبوع ذاته، هي زيارة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى سلطنة عمان يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر، ولقاؤه مع السلطان قابوس الذي ظل متواريا عن الأنظار لفترات طويلة سابقة تحت العلاج. وكان بصحبة نتنياهو في زيارته التي لم يعلن عنها سوى بعد انتهائها؛ زوجته سارة، ورئيس الموساد يوسي كوهين، ومستشار الأمن القومي مئير بن شابات، ومدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، يوفال روتم، والمستشار العسكري لنتنياهو، آفي بلوط.
لم يجد قادة السلطنة حرجا في الافتخار بزيارة نتنياهو، والتأكيد أنها ليست الأولى، فقد سبقه رئيس الوزراء الصهيوني الأسبق رابين في العام 1996، مع استمرار اللقاءات على مستويات رسمية متنوعة خلال العشرين عاما الماضية، وإن كان أغلبها بشكل سري.
ضمن هذه الموجة التطبيعية، بلغت علاقات الكيان الصهيوني بنظام السيسي في مصر أوجها، حتى أن معلقا صهيونيا، هو إيدي كوهين، وصف السيسي بأنه أكثر صهيونية منه، وذلك في حديث لشبكة فرانس 24. وفي الأثناء أيضا، لم يجد ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الغارق في فضيحة مقتل الصحفي جمال خاشقجي؛ بدا من الاستغاثة بالكيان الصهيوني لإنقاذه من الحبل الذي يلتف حول رقبته، وهو ما وجد استجابة سريعة من الكيان الذي حرك أذرعه في الولايات المتحدة وفي أوروبا لإنقاذ ابن سلمان. وغني عن الذكر ما تناقلته وسائل إعلام عن زيارة سرية لابن سلمان للكيان الصهيوني قبل أزمة خاشقجي، في إطار تسويق نفسه ملكا للسعودية.
التطبيع الرسمي مع العدو الصهيوني هو أمر معتاد، فقد بدأته مصر منذ العام 1979 بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، وتبعتها دول أخرى، مثل الأردن في اتفاقية وادي عربة 1994، وافتتح الكيان الصهيوني مكاتب تجارية في قطر والبحرين منذ منتصف التسعينيات، وكانت هناك علاقات مع الحكومة المغربية أيضا، لكن في المقابل، كانت هناك حالة رفض شعبي عربي عارم للتطبيع رغم كل الجهود التي بذلتها الحكومات لتسويق التطبيع شعبيا، وكانت الصورة الأبرز لذلك في مصر التي لا يجرؤ أي إسرائيلي أن يتجول في شوارعها بحرية حتى هذه اللحظة. وقد كان رفض التطبيع خيارا شعبيا قويا منذ اللحظات الأولى لمحاولة تسويقه، إذ انتفضت المظاهرات ضد التطبيع تردد شعارا ظل ساريا حتى اليوم “بنرددها جيل وراء جيل.. بنعاديك يا إسرائيل”، كما أصدرت الجمعيات العمومية للنقابات المهنية جميعها قرارات برفض التطبيع ومعاقبة المطبعين، وحين حاول نقيب الصحفيين الأسبق مكرم محمد أحمد، المقرب جدا من المخلوع مبارك، إلغاء قرار رفض التطبيع، تصدى له الصحفيون في جمعيتهم العمومية، ورفضت نقابة الصحفيين المصرية الانضمام لعضوية الاتحاد الدولي للصحفيين بسبب وجود نقابة إسرائيلية فيه، كما رفض إتحاد العمال المصري الانضمام للاتحاد الدولي الحر للعمال نظرا لعضوية الهستدروت الإسرائيلي فيه. وظهرت مظاهر الغضب بشكل اكثر صرامة بعد ثورة يناير، حيث حاصر المتظاهرون السفارة الإسرائيلية واقتحموها وأنزلوا العلم الإسرائيلي.
وبعد انقلاب الثالث من تموز/ يوليو، ورغم أن نظام السيسي خطا خطوات تطبيعية واسعة مع الكيان الصهيوني طلبا لحمايته، إلا أن الحالة الشعبية ظلت رافضة للتطبيع في مجملها، ولم يشذ عن ذلك سوى احتفال السفارة الإسرائيلية بشكل علني بما يسمى عيد الاستقلال، بحضور شخصيات مصرية إعلامية وسياسية وفنية. والحقيقة أن هذه الشخصيات كانت تشارك من قبل في احتفالات السفارة التي كانت تتم بطريقة سرية، ولم يكن أي من هؤلاء المشاركين يمتلك الجرأة لنشر صورته في الاحتفال الذي كان يتم غالبا داخل شقة السفارة. ورغم ذلك، استمر الرفض الشعبي والنقابي للتطبيع، فلم تستطع أي نقابة مهنية او عمالية إلغاء قراراتها السابقة، رغم تحكم رجال السيسي في قيادتها حاليا، بل إن مصر تشهد حاليا ولادة مجموعات جديدة مناهضة للتطبيع بعد غياب رموز المجموعات القديمة في السجون أو المنافي..
وعلى الرغم من مسارعة الدول الخليجية في موجة التطبيع الجديدة، إلا أن الجانب المضيء أيضا هو تصدي الشعوب الخليجية لهذه الموجة بشكل علني أيضا، حيث ظهرت على الفور في الدوحة مجموعات رافضة للتطبيع عبرت عن نفسها علنا (شباب قطر ضد التطبيع)، وشهدت بعض الجامعات القطرية ندوات ومؤتمرات ضد التطبيع، بحضور أعضاء بمجلس الشورى القطري وكتاب وصحفيين قطريين، وهو ما تكرر في سلطنة عمان أيضا، وبدرجة ما في الإمارات التي غرد بعض مثقفيها برفض التطبيع.
المؤشر المهم في متابعة مسار التطبيع هو القبول أو الرفض الشعبي، وليس الإجراءات الحكومية التي تعبر عن أنظمة غير ديمقراطية بطبيعتها؛ لم تصل إلى الحكم عبر صناديق الانتخابات، وتجد سندها ودعمها في تل أبيب وليس بين شعوبه.، وطالما أن الشعوب العربية لا تزال ترفض التطبيع حتى الآن، وطالما أن الصهاينة لا يمكنهم التحرك بأمان في شوارعنا العربية، فإن أمتنا لا تزال بخير.