خريف الغضب.. شتاء الجنون

يذهب السياسي المعارض إلى الاعتقال، فتندلع المعركة العبثية، في تكرار ممل: فريق يشمت، وفريق يشتم الشامتين، فلا يبقى ثمّة جهد حقيقي ومحترم في التصدي للكارثة، إذ تتبدّد الطاقة في ملاسنات واشتباكات، يعلو صخبها فيغطي على الموضوع الأساس.

ابتلعت ماكينة الطغيان المستشار هشام جنينة، القاضي والرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، فذهب الرفاق إلى معركة المشمتة والمشتمة، كل يغترف من بئر الماضي، ويستخرج ما يكفي لتحويل القصة من لحظة استشعار إلى ألم، ولخطر يحرق ما تبقى من مساحات إنسانية، إلى مناسبة للانتحار السياسي والأخلاقي.

وهكذا، لا أحد يعلم ماذا يجري مع المستشار جنينة في غيابة المعتقل، ولا أحد فكر في وسيلة لمنع امتداد ألسنة الجحيم، فقط انشطرت ردود الأفعال بين فريق أدمن السباحة في بحيرات التشفي، متزلجًا فوق محفوظات مكرورة وممجوجة عن “ضرب الظالمين بالظالمين” والشرب من كأس الظلم ذاته، بينما الفريق الآخر يستسلم لجلد فرق الشماتة والتشفي، ومحاولة إظهارهم مجموعة من المجانين الذين يعطلون المشروع الوطني الجامع، وبين الطرفين ينهض أشخاص يمارسون طقوسًا كاذبة لحكمة مدعاة، وكهنوت إيديولوجي، فيستغرق أحدهم في بيان أخطاء ما جاء على لسان القاضي المعتقل، حتى يوشك أن يرميه باختلال الفكر.

وقبل أن يهدأ غبار الاقتتال الذاتي داخل صفوف المعارضة، وتبدأ حركة فعلية للدفاع عن هشام جنينة، تلقي منظومة الطغيان بكمية جديدة من وقود الحريق، فتمتد يدها لاعتقال رئيس حزب مصر القوية عبد المنعم أبو الفتوح، بعد حوار تلفزيوني عبّر فيه عن آراء، من الطبيعي أن تكون موضوعًا للاتفاق والاختلاف السياسيين بين مكونات الحالة السياسية المصرية، فتندلع الملهاة مجددًا بين الطرفين: شماتة ومشتمة ومعايرة بالماضي، وحذفًا من الحاضر والمستقبل، حيث تتبدد الطاقة كلها في ممارسة لعبة الانتحار، بينما لا أحد يفكر في شيء مؤثر وفعال، يمكن أن يكبح سعار السلطة، واندفاعها المجنون إلى التهام الجميع.

تتجاوز سلطة عبد الفتاح السيسي في جنونها حالة “خريف الغضب” الذي قضى على أنور السادات، لتدشن “شتاء الجنون” الذي يلتهم كل ما في طريقه، مع فارقٍ أساس أن المعارضة الوطنية في زمن السادات كانت أكثر نضجًا واستشعارًا للمسئولية مما تراه الآن، ناهيك عن أن سلطة عبد الفتاح السيسي تبدو وكأنها تعرف عن معارضتها أكثر مما تعرف المعارضة عنها، ومن ثم تجيد تصنيع هذا المناخ المسمم الذي تجد سلطة القهر ضالتها فيه، فتستخدم كل مليشياتها الإلكترونية في تأجيج الحريق، فيبتلع الفريقان الطعم، وينسى جنينة، وينسى أبو الفتوح، ويتفرّغ الجمعان للانتحار. وفي قلب المعمعة، تسقط القضية الأساسية، وهي أن الاعتداء على حرية الإنسان عمل حقير، يستوجب التصدّي له، كما أن الشماتة في الاعتداء على حرية إنسان عمل أحقر، يستحق أيضًا مواجهته، لكن محاولة ابتزاز الناس سياسيًا بمأساة الاعتداء على حرية إنسان يبقى عملاً أكثر جنونًا وانحطاطًا.

والمحزن أن هذه التراجيديا القاتلة منصوبةٌ ومشتعلةٌ منذ أربعة أعوام، من دون أن يبذل أحد ربع الجهد المبذول في الانتحار، في محاولة التحرّر من ردود الأفعال المجنونة. وفي ذلك قلت سابقاً إن من الممكن أن تظل ثوريًا و”شرعاويا” حتى، دون أن تشمت أو تتشفى في مأساة شخصيات، استعملها مشروع الانقلاب في الدعاية له، ثم ابتلعها الاعتقال أو اختطفها الموت.

وليس ذلك ممكنًا فقط، بل أحسب أنه ما يجب أن يكون، إذا كنا نعتبر أنفسنا حقًا بصدد الدفاع عن مكتسبات حضارية وإنسانية، بددتها رياح 30 يونيو السامة.

وأكرر أنه إذا كان أوغاد الفاشية المجتمعية يستدرجون المعارضة إلى “حافة الهولوكوست”، من خلال العمل على فصل الثوار والمعارضين عن المجتمع، فلا يجب أن تستسلم المعارضة لهذا السيناريو الشرير، وترضى أن يعزل كل فصيل منها نفسه داخل “جيتو” يخاصم الجميع، ويوفر هدايا مجانية لسلطة الانقلاب، من خلال الاستغراق في مشاعر السخط والشماتة والتشفي، في كل مصيبة تنزل بأحد من مجتمع الانقلاب، بينما قائد سلطة الأوغاد يواصل أداء أدواره العاطفية الركيكة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...