وقفات مع سورة القصص

وحياؤهن وبعدهن عن مزاحمة الرجال (ووجد من دونهم امرأتين تذودان…. لا نسقي حتى يصدر الرعاء) ( فجاءته إحداهما تمشي على استحياء)
13. مكان المرأة بيتها وهو حصنها وعفافها وجنتها (قالت إحداهما يا أبت استأجره إن خيرمن استأجرت القوي الأمين)
14. الإعانة على الزواج وتذليل العقبات أمام المتزوجين (فإن أتممت عشرا فمن عندك وما أريد أن أشق عليك(
15. خدمة الغير وعدم انتظارالجزاء ولا الشكر (فسقى لهما)
16كثرة اللجوء إلى الله والتضرع بين يديه (قال رب إني ظلمت نفسي …) (قال رب نجني من القوم الظالمين) (فلما توجه …. قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل) (فقال رب إني لما انزلت إلي من خير فقير)
17الاعتراف بالذنب والخطأ وطلب العفو والغفران (فوكزه موسى فقضى عليه .. قال رب إني ظلمت نفسي .)
18. طلب العفاف بالزواج والسعي للعفة (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن..…)
19الشخص لا يكون عالة على غيره (على أن تأجرني ثماني حجج )(فلما قضى موسى الأجل)
20. طلب مشاركة الغير في الدعوة ومعرفة الطاقات (وأخي هارون هو أفصح مني لساناً فأرسله معي)
21. حفظ الله لعبده الصالح وتأييده له ونصرته وإذلال الأعداء (فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم)
22- إن الملك في علم الله جل جلاله . { ربي أعلم بمن جاء بالهدى من عنده ومن تكون له عاقبة الدار } لا فلاح لظالم . { إنه لا يفلح الظالمون }
23- الظالم وجنوده مصيرهم الهلاك . { واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون * فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم فانظر كيف كان عاقبة الظالمين  .
إن الظالم ملعون دائما وأبدا في الدنيا والآخرة . { وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة }

24- إن طول العمر مضل للأمم ومجتمعاتها . { ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر }.
25- إن التكذيب لله ورسله قد يكون خاصا وعاما بذريعة أو بغير ذريعة { فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل }
26- إن اتباع الهوى مضل . { إنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله }
27- لا هداية للظلمة . { إن الله لا يهدي القوم الظالمين }.
28- إن الهداية الإلهية للمجتمعات الإنسانية بأمر الله عز وجل { إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين }.
29- إن البطر مؤداه الهلاك . { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها }
 30إن مساكن الأمم والمجتمعات الهالكة قليلا ما تسكن من بعدهم { فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا }
31- إن وراثة الملك لله عز وجل وحده . { وكنا نحن الوارثين }.وأن كل ملك زائل . (وما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وزينتها وما عند الله خير وأبقى أفلا تعقلون } .
32- أن التوبة والعمل الصالح نتيجتهما الفلاح . { فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين (

33- أن العلم مهما تطور لا يمكن إيجاد الخلق فيه . { وربك يخلق ما يشاء ويختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون }.
34- الموازنة بين الدنيا والآخرة من رجاحة العقل . { وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا }
34- أن الفساد مؤداه الهلاك في الأمم والمجتمعات . { ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين }
35- أن التطور والتقدم في المعارف لا يعني الخروج من الهلاك الساحق بالكفر والظلم . { أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا }
36- أن الإجرام لا يحتاج إلى إيضاح . { ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون } و الظالم لا ناصر له  . { فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين }
37- إن الحسنة والسيئة لهما جزاء محدد من الله عز وجل لكل المجتمعات . { من جاء بالحسنة فله خير منها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون }
38- أن النصر الإلهي لا بد أن يأتي لمن آمن وعمل بالكتاب . { إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد }
39- إنه لا يجوز أن يكون المؤمن ظهيرا للكافر . { فلا تكونن ظهيرا للكافرين }
40- أن كل الكون زائل ولا يبقى إلا الله عز وجل(كل شيء هالك إلا وجهه }و الحكم لله عز وجل{ له الحكم }.

لطائف من السورة الكريمة

1-قوله تعالى)إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (
ـ إن من دهاء ومكر العدو أو الحاكم الظالم الجائر أن يجعل أهل الدولة التي يتسلط عليها شيعًا ، يستعين بإحداهن على الأخرى ، وذلك الديدن تجده اليوم في تسلط العدو على العراق ، وكيف استفاد من جعل أهلها شيعًا ، فاستضعفوا طائفة على حساب قوة طوائف أخرى .
ـ عبَّر عن الذبح بالفعل المضارع المضعف ( أي المشدد ) ، وفي ذلك فائدتان:الأولى : أن المضارع يفيد حدوث هذا الذبح وتجدده مرة بعد مرة ، كلما جاءت موجبه ، وهو ولادة المولود الذكر من بني إسرائيل .
الثانية : أن في التضعيف إفادة التكثير ، أو المبالغة في هذا الفعل .
ـ قابل الأبناء بالنساء – ولم يقل البنات مثلاً، وفي ذلك سرٌّ لطيف ، فإنه  يستفاد من إبقاء البنات إلى أن يكبرن ، ويصرن نساءً يستطعن الخدمة عند فرعون وقومه ، أما في حال صغرهن فلا يُستفاد منهن

وفي مقابلة الأبناء بالنساء سر لطيف آخر، حيث لم يقل القرآن  ( ذكورهم أو رجالهم )وإنما قال (أبناءهم)، وفي ذلك زيادة تشنيع علي فرعون وطغيانه، وتأكيد للجرم الذي ارتكبه بحق أبناء صغار مواليد، وليس بحق بني إسرائيل عموما.
ـ إن الفساد في فرعون متأصل ومستمرٌّ ؛ لذا جاء التعبير عن إفساده بالجملة الاسمية الدالة على الثبوت والاستقرار ( إنه كان من المفسدين ) ، وأكِّدت هذه الجملة بحرف التأكيد ( إنَّ) .
2- قوله تعالى(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُون )
ـ جاءت الأفعال : (نريد ، نمن ، نجعلهم ، نمكن لهم )على صيغة واحدة ، وهي الفعل المضارع المبدوء بنون العظمة ، والدال على الاستقبال ، وفيها إشارة إلى الاختيار الإلهي المحض لهؤلاء القوم في أن ينصرهم الله ويمكنهم ممن اضطهدهم وآذاهم ، لكن متى حصل لهم ؟
لقد عاشوا أول أمرهم مضطهدين من فرعون وقومه ، ثمَّ أنقذهم الله بموسى وهارون ، ولكن ذلك الجيل الذي عاش حياة الذل لمَّا يتأدب بأدب النبوة ، ويتربَّى بتربية الرسالة الموسوية ؛ إذ لما طُلِب منهم ـ بعد خروجهم من مصر ـ أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم ترددوا ، وراجعوا موسى في ذلك ، حتى انتهى بهم الأمر إلى أن يقولوا (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون ) . يا للخزي والعار لقوم يقولون لنبيهم هذا القول .
إن هذا الجيل المهزوم لم يكن له شرف حمل الرسالة ، والحصول على الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم فترة من الزمن ، فضرب الله عليهم عقوبته بالتيه في صحراء سيناء أربعين سنة ، عاشوا فيها ، فمات من مات من جيل الهزيمة ، ووُلِد جيل عاش شظف العيش ، ومارس شدائد الحياة الصحراوية ، فكان الفتح على يديه بعد أن انتقل موسى وهارون إلى الرفيق الأعلى في زمن التيه ، فانظر ؛ كم الفرق بين الوعد وتحقيقه ؟ ولكن الناس يستعجلون النصر .


وإذا تأملت واقعنا اليوم وجدتنا نعيش شيئًا من واقع تلك الأمة المخذولة التي ضُرب عليها التيه ، واستكانت للراحة والدعة ، وكرهت معالي الأمور التي لا تأتي إلا بعد الكدِّ والجدِّ والتعب ، فلا ترانا نزاحم على القوة العظمى ، ونقنع بالدون والهوان ، ، والله غالب على أمره ، والأمر كما قال تعالى(وإن تتولوا يستبدل قومًا غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم )، ولن يأتي ذلك إلا بالتغيير) إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ( ، فإذا حصل ذلك جاء الجيل الذي أشار اله إليه بقوله تعالى(فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ( ، فأسأل الله العظيم أن لا يحرمنا فضله ، وأن يجعلنا ممن يُؤتاه .

3ـ   في قوله تعالى 🙁ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) دلالة على أن نصر الله للمؤمنين ، ومكره بالكافرين ، لا يمنعه ما يدعيه الأعداء من اتخاذ التدابير اللازمة لردع العدوان ، والحذر الشديد ، وسد كل الثغرات التي قد ينفذ منها المؤمنون . فهم يتوقعون ويحذرون ويدرسون ويضعون الخطط المستقبلية لمنع وقوع أي اختراقات لصفوفهم ، ولكن الله يريهم فوق هذا كله من أوليائه المؤمنين ما كانوا يحذرونه منهم ، ويظنون أنهم لا يصلون إليه ، وقد وقع بالفعل ما كان يحذره فرعون ، فهلك ومن معه على يد من كانوا يتوقعون منه ذلك وهم بنو إسرائيل ، ونصر الله موسى ومن معه ، وكذلك ينصر الله أوليائه في كل زمان ومكان.


وفيها أيضاًَ أيضاً دلالة على أن الظالم الطاغية لا يصنع شيئاً بمفرده ، وأنه لا يصل إلى ظلم الناس ، والتسلط عليهم إلا بمعونة ومظاهرة من بطانة تعينه على الظلم ، وتزين له الباطل ، كما فعل هامان وزيره ، وجنوده الذين يستجيبون له في ظلم الناس وقهرهم ، والتسلط عليهم. وهذا حال الطغاة في كل زمان ومكان ، فلو وجد الظالم من يمتنع عن الاستجابة لأمره بالباطل ، ومن ينصحه ويرده للصواب ، لما وصل لكثير مما يحصل له . وقديماً قالت العامة في أمثالها : قيل لفرعون : ما الذي فرعنك ؟ قال : لم أجد من يردعني !

وفيها أيضاًَ دليل على أن الذل الذي يلحق بالحاكم الظالم، لا يسلم منه أعوانه وجنوده، فكل من كان عونا للظالم فهو زائل بزوال الظالم.
وفيها أيضاًَ إشارة إلى أن من الإهانة للطاغية الظالم وأعوانه ، أن يبقيهم الله حتى يروا بأعينهم نهايتهم وذلهم ، وتمكن أهل الحق من الأمر ، واستخلافهم في الأرض. وهذا أبلغ في إهانتهم وعذابهم من إهلاكهم قبل تمكين جنود الله من زمام الأمور ، وليس الخَبَرُ كالمعاينة.

وفي الفعل ( نُري ) قراءتان : ( نُرِي ) ( يَرَى ) ، ومؤدى المعنيين في القراءتين واحد ، فهو سبحانه يريهم فيرون ، فالفعل من الله ابتداء تقدير ، ومنهم تحقق وحدوث .

4ـ في قضاء الله لطف وخفاء عجيب لا يمكن إدراكه إلا بعد وقوعه ، فانظر كيف توعَّد فرعون وهامان وجنودهما ، فقال(ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون )، فقدَّر الله ـ من حيث لا يشعرون ، ولا يستطيعون ردَّ قضائه مهما بلغوا من قوة أو علم ـ أن يكون بيت فرعون حاضنًا لعدوِّه الذي سينهي أمره ، فبالله عليك ، أترى قوة في الأرض تستطيع إدراك هذا القدر قبل وقوعه ، فتتقيه ، وتأمل ما يقال ـ بغض النظر عن دقته وصحته ـ من مساعدة أمريكا للأفغان في حربهم على الروس ، وكيف انتهى الأمر بأولئك أن حاربوا أمريكا التي كانت تمدهم بالسلاح ، ولله فيما يقدر أسرار ولطائف .
ولو قرأت في التاريخ ، ونظرت في قصص من حولك ، لوجدت مثل تلك الصورة ، فكم من امرئ أنعم على عبد من عباد الله ، وكان ذلك العبد سببًا في هلاكه وزوال أمره وموته ؟

5- قوله تعالى(وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ )
ـ لقد جاء الولد المختار من بني إسرائيل الذي سيكون هلاك فرعون وقومه على يديه ، جاء وهم يقتلون الأبناء ، فانظر لطف الله ، ورعايته ، ودقيق قدره في تخليص موسى عليه السلام من القتل ؟
ـ أرأيت لو كنت متجرِّدًا من معرفة هذا الخبر ، وقيل لك : إن امرأة وضعت ابنها في تابوت ، وألقته في النهر ، تريد له الأمان ، أفكنت ترى ذلك من العقل والحكمة في شيء ؟! إن هذا الموضوع لو كان عُرِض عليَّ وعليك ، لقلنا : إنه مجانب للعقل والحكمة.لكن الذي أمر بذلك هو من يعلم السرَّ وأخفى ، ألقته في اليمِّ ، وسار التابوت برعاية الله له ، فهو الذي أمر ، فأنَّى لمخلوق أن يؤذي هذا الرضيع ، وتابوته يتهادى بين مياه النهر ؟!
ـ إن في إرضاعها لموسى أول الأمر سرًا لطيفًا ، وهو أن هذا الطفل سيتذكر ذلك الثدي الذي أرضعه الحليب أول مرة ، فإذا عُرض على المراضع لم يأنس بها ، وانتظر ما بقي في ذاكرته الطفولية من ذلك الثدي الأول ؛ إنه إلهام الله ، وتقديره الخفي الذي لَطُف فدقَّ ، ولَطَفَ فرفق .
ـ اشتملت الآية على لطائف من تنويع الخطاب ، ففيها أمران ( أرضعيه ، فألقيه ) ، وفيها نهيان ( لا تخافي ، ولا تحزني( ، وفيها بشارتان ( رادُّه ، وجاعلو).
ـ اشتمل النهيان على الماضي والمستقبل ، فقوله : ( لا تخافي ) أي عليه فيما يستقبله من قدر ، وقوله ( ولا تحزني ) على فقده
ـ تأمَّل البشارتين كيف جاءتا مؤكَّدتين تأكيدًا بليغًا يتناسبان مع موقف تلك الأم المفطورة في ولدها) إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين )فإن للتوكيد ، ومجيء (رادوه ، وجاعلوه ) على اسم الفاعل بدلاً من الفعل لتكون الجملة اسمية ، فتدل على الثبوت .
يالَقلب تلك الأم المسكينة ، ألقت ابنها في اليم ، وأصبح قلبها خاليًا من كل شيء سوى ذكر موسى ، فكادت ـ ولم تفعل ـ أن تخبر بأنه ابنها ، وليكن ما يكن ، لكنَّ لله أمرًا لابدَّ أن يمضي على تقديره ، فربط على قلب الأم ؛ ثبَّتها وصبَّرها حين لات صبر ، ثم بدأت تفعل الأسباب ، فقالت لأخته : اتبعي أثره ، وانظري أمره ، فكان ما كان من رجوعه ، وتحقق وعد الله لها ، فيالها من فرحة عاشتها أم موسى ، وهنيئًا لها البشارة الثانية بالرسالة .

6في قوله تعالى :(يستضعف طائفة منهم ..) إشارة إلى أن هناك من لم يقع عليه الاستضعاف ، ولم ينله تأثير هذا الإرهاب الذي مارسه فرعون على بني إسرائيل ، إما لقوة يقينهم وصبرهم ، وإما لأسباب أخرى ، وهؤلاء هم الذين يحفظ الله بهم توازن المجتمع من الانهيار ، والهزيمة النفسية. وهذا من رحمة الله بالمؤمنين ، وحفظه لهم ، فلو تمكن العدو والظالم من هزيمة الجميع نفسياً لما كان هناك بقية للقيام والنهوض والمقاومة ، ولله الحكمة البالغة ، ولعل تربية موسى عليه الصلاة والسلام في بيت فرعون قد أبعدت عنه ذلك الشعور بالضعف والهزيمة النفسية ، مما مهد لقيامه بأمر الله سبحانه وتعالى بعد ذلك  ( يرى بعض العلماء أن الطائفة المشار إليها، هم بنو إسرائيل، فإن الله سبحانه قد قال: (علا في الأرض وجعل أهلها شيعا)، فقد مايز فرعون بين أهل الأرض، فاستضعف بعضهم فقتّل أبناءهم، واستحيا نساءهم، وهم بنو إسرائيل، وطائفة أخرى – وهم قومه – لم يستضعفهم، ولم يصنع بهم مثل ما صنع بغيرهم، فلم يكن ذلك لقوتهم أو إيمانهم، وإنما نتيجة للسياسة التي اتخذها.
وتقسيم الحكام للشعوب إلى شيع وطوائف حاصل اليوم لدى كثير من الطغاة المعاصرين، فطائفة يرجى منها خدمة الطاغية، سواء كانوا من قرابته أو معاونيه، وهؤلاء لهم عناية ورعاية خاصة، وهم ممكنون مخدومون.. وطائفة أخرى يخشى منها على الطاغية فيلجأ الطاغية لاستضعافهم وجعلهم في الخدمة.)

7أن الطغاة يبذلون كل ما في وسعهم للحفاظ على كراسيهم، فلا يتورعون عن أي فعل، ولا يتحرجون من أي جريمة في سبيل ذلك، حتى ولو أدى ذلك إلى سفك دماء الأبرياء دون أي ذنب ارتكبوه، بل دون أي شبهة، ولا يوجد في قاموس الطغاة (ولا تزر وازرة وزر أخرى)، بل إنهم يعاملون الإنسان على الظن، وإن كان هذا الظن بنسبة ضئيلة جدا، وهذا ما صنعه فرعون: (يقتل أبناءهم)، فهاهو فرعون يقتل الصبيان، خشية أن يكون في بني إسرائيل من يكون زوال ملكه على يديه، دون أن يميز بين شخص وآخر، فقتل أعدادا كبيرة، لخشيته من شخص واحد.
كما أنه لا يوجد في قاموس الحكم الذي لا يلتزم بالمنهج الإسلامي، لا يوجد في قاموسه أمور محرمة، فكل الوسائل مباحة ما دامت لحماية الحاكم، وقد قال فرعون: (ذروني أقتل موسى)

8قوله سبحانه: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض) لم يذكر الله سبحانه مَن سيمن عليهم ويمكنهم في الأرض بأسمائهم، وإنما ذكرهم بوصفهم (الذين استضعفوا)، وفي هذا سر لطيف، فإنه من الطبيعي أن ينتقل الملك من قبيلة إلى أخرى، ومن شخص إلى شخص، ولكن أن ينتقل الملك إلى الطبقة المستضعفة المغلوبة على أمرها فذلك أمر لا يتوقعه البشر بعلمهم القاصر، فالتمكين سيكون للمستضعفين في الأرض.
وفي هذا بيان حكمة الله سبحانه في نزع الملك من طائفة إلى طائفة، وعبرة في تحول الملك وزواله من قوم إلى قوم، ويشهد لذلك قوله سبحانه: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء)، وقوله سبحانه: (وتلك الأيام نداولها بين الناس).

9  – (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) فيها تحذير من التعلق باللأسباب المادية ونسيان المسبب سبحانه ،فإذا رأى الناس السبب متشوشا ( أي الأسباب غامضة وغير مواتية )، شوش ذلك إيمانهم، لعدم علمهم الكامل، أن اللّه تعالى يجعل المحن الشاقة والعقبات الشاقة، بين يدي الأمور العالية والمطالب الفاضلة. فاللّه يقدر على عبده بعض المشاق، ليُنيله سرورا أعظم من ذلك، أو يدفع عنه شرا أكثر منه، كما قدر على أم موسى ذلك الحزن الشديد، والهم البليغ، الذي هو وسيلة إلى أن يصل إليها ابنها، على وجه تطمئن به نفسها، وتقر به عينها، وتزداد به غبطة وسرورا.
10-  (لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(

أن الإيمان يزيد وينقص. وأن من أعظم ما يزيد به الإيمان، ويتم به اليقين، الصبر عند المزعجات، والتثبيت من اللّه، عند المقلقات. وأن من أعظم نعم اللّه على عبده، و [أعظم] معونة للعبد على أموره، تثبيت اللّه إياه، وربط جأشه وقلبه عند المخاوف، وعند الأمور المذهلة، فإنه بذلك يتمكن من القول الصواب، والفعل الصواب، بخلاف من استمر قلقه وروعه، وانزعاجه، فإنه يضيع فكره، ويذهل عقله، فلا ينتفع بنفسه في تلك الحال.
 11- ( قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ  فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا ألِلْمُجْرِمِينَ (هذا يفيد أن النعم تقتضي من العبد فعل الخير، وترك الشر.
12-  (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (إني مفتقر للخير الذي تسوقه إليَّ وتيسره لي. وهذا سؤال منه بحاله، والسؤال بالحال أبلغ من السؤال بلسان المقال. واستحباب الدعاء بتبيين الحال وشرحها، ولو كان اللّه عالما لها، لأنه تعالى، يحب تضرع عبده وإظهار ذله ومسكنته.

–  13- و قد أجاد صاحب الظلال الشهيد سيد قطب – تنزيل آي الذكر الحكيم على واقع الأمة الإسلامية المعيش ، و استخلاص الدروس و العبر منها ، و إلحاقا لما تقدم بيانه أنقل بعض ما اقتطفته من تفسير ” الظلال ” مما له تعلق بالموضوع ، قال بعد أن ذكر أن الله عز و جل قد حكى في القرآن الكريم عن بني إسرائيل – و ما وقع لهم و كذا ما وقع منهم – أكثر مما حكى عن غيرهم من الأمم الماضية – • ليحذر الأمة المسلمة من الوقوع في مثله ، حتى لا تسلب منهم الخلافة في الأرض ، و الأمانة التي ناطها بهم ، فلما فعلوا ما وقع فيه بنو إسرائيل ، و طرحوا منهج الله و شريعته ، و حكَموا أهواءهم و شهواتهم : ضربهم الله بما ضرب به بني إسرائيل من قبل من الفرقة و الضعف و الذلة و الهوان ، و الشقاء و التعاسة – إلا أن يستجيبوا لله و رسوله ، و إلا أن يخضعوا لشريعته و كتابه ، و إلا أن يفوا بعهد الله و يذكروا ما فيه لعلهم يهتدون .
و هذا الذي ذكره هو حال أمتنا اليوم في مشارق الأرض و مغاربها : فرقة و ضعف ، و ذلة و هوان ، حتي استبيحت أرضنا و بلادنا – و ما فلسطين و البوسنة و العراق و الشيشان و كشمير و غيرهم منا ببعيد – كما استبيحت مقدساتنا ، بل أحد أعز مقدساتنا – المسجد الأقصى المبارك ، و غيره مما لايعد و لايحصى ، و كذا استبيحت و انتهكت أعراض نسائنا و أخواتنا و بناتنا ، بل و أمهاتنا بل جداتنا في البوسنة و في العراق وكشمير و غيرهم – و أصبح اليهود أذل خلق الله سادة علينا و يحتلون أرضنا و يغزون بلادنا متى شاءوا ، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
و في مثل ذلك قال :* حتى إذا انتفعت الأمة بالبلاء ، و جازت الابتلاء ، و خافت فطلبت الأمن، و ذلت فطلبت العزة ، و تخلفت فطلبت الاستخلاف – كل ذلك بالوسائل التي أرادها الله و بشروطه التي قررها – تحقق وعد الله الذي لا يتخلف ، و لا تقف في طريقه قوة من قوى الأرض جميعا  .

ولينصرن الله من ينصره ألا إن الوعد قائم ، و الشرط واضح و قائم كذلك ،
فلنف بالشرط ليتحقق الوعد ، و إلا فلا

–   من خصائص السورة

إن في سورة القصص ربطا متواصلا لماضي التاريخ وحاضر الدعوة ومستقبل الأمة.
إن النص القرآني في سورة القصص يمكن وصفه بأنه نص متحرك المعاني والدلالات بمعنى أنه يصلح في جملة معانيه وجملة دلالاته لفهم أدق للإيمان الواحد والمصير الواحد والمآل الواحد .
كانت سورة القصص إحدى السور التي امتازت ببناء الجملة الطويلة وتعداد آلاء الله عز وجل وتأسية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما مضى وتلك بعض خصائص السور المكية .
تبرز في سورة القصص إرشاداتها الوعظية ردا على جميع أولئك الذين رفضوا تحكيم شرع الله وحاولوا الخروج على السنن والحدود الإلهية .
أبرزت سورة القصص معالم تكون الأمة والدولة والمصير الذي يصيب الطغاة بقوته ، أو بماله
إن المعنى العام في سورة القصص يؤكد تأكيدا كليا على أن أي قوة عسكرية أو أي فساد وطغيان ، وأي اقتصاد أريد به الإفساد في الدنيا ، إنما يكون مآلهم إلى الهلاك.
بشرت سورة القصص برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وللأمة من بعده بحتمية النصر الإلهي مها طال الزمن أو مهما استبد الطغاة بطغيانهم .
إن الأهداف العامة في سورة القصص تؤكد على أن وراثة الأرض لا تكون إلا للمؤمنين وأنه لا بد من مآل ورجوع إلى الوطن والأمة في أحلك أوقات الأزمات وهو وعد إلهي تحقق وسيتحقق
تحتوي سورة القصص على أسس متكاملة لقواعد بناء الدولة في المنظور السياسي والأخلاقي وهي بذلك تنطق بالواقع وتقدم الصورة المثلى للدولة لئلا تظاهر كافرا ، أو طاغية ، أو تغتر بهما .
إن القيم الأخلاقية في السورة هي منظومة سلوكية تجعل الإنسان الملتزم بها يتخلق بأخلاق القرآن الكريم
إن تطور تفسير القرآن الكريم في ربطه للماضي بالحاضر بين قدامى المفسرين ومحدثيهم ودارسي النص القرآني كليا وجزئيا أبرز لنا أن سورة القصص ما زالت تحتمل تفسيرات حديثة تنطق بالواقع المعاصر وهكذا فإن إلحاح العالم الإسلامي في تصريحاته وخطبه على تشبه دولة فرعون بالولايات المتحدة الأميركية وقادتها بقائدها ، يمكن أن تجد بعض جوانب الصحة في القراءة المعاصرة لسورة القصص .
إن سورة القصص كانت لها أغراض ومقاصد تتناسب مع فترة نزولها ، والبيئة التي نزلت فيها
تضمنت سورة القصص صورا بلاغية وحكمة في استخدام الجمل

– إن هناك مجموعة من دلالات التوحيد التي أظهرت أن الله سبحانه وتعالى هو الذي بيده كل شيء وهو المتفرد بالوحدانية وأنه هو المؤثر في هذا الكون ، ودلالة وصف المرأة التي كانت في سورة القصص أمّاً وزوجة في إيمانها بالله عز وجل ، وقد أبرزت أن قيمة الزمن في السورة قيمة متجددة ، ثم أبرزت دلالات التربية والسلوك ، وتحتوي على قواعد شمولية سبقت العلم الحديث .
إن الشخصية الإسرائيلية اليهودية في سورة القصص تتراوح بين ثلاثة أقسام هي : الذلة والضعة . الاعتداء والبغي .الكفر بالمال والحسد .
إن للمال مفهوما وغاية في سورة القصص فمفهومه أنه يصيب الحياة الدنيا وغايته الاستعانة به على الحياة الدنيا وليس نتيجة الوجود بحد ذاته عن علم ، أو عن غير علم .
إن أسلوب الدعوة في سورة القصص يظهر كيف أن التدريج في خطاب الدعاة ، إنما يقر الإيمان في النفوس رويدا رويدا ..
إن الإيمان بمعنى الإقرار بالقلب واللسان في سورة القصص هو نتيجة للهداية التي تنسب لله عز وجل وحده .
أبرزت سورة القصص شخصية فرعون الذي حارب موسى ـ عليه السلام ـ وبينت أنه حكم في الأرض وفرق أهلها وذلك مطابق للاكتشافات الأثرية الحديثة ..

–  إن للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ صورة متكاملة تنبض في النصف الثاني من سورة القصص من خلال دلائل القرآن على صدقه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وإيمان طوائف أهل الكتاب بدعوته ـ صلى الله عليه وسلم ـ على وفق معالم الهداية البيانية ، والهداية التوفيقية .
إن هنالك تشابها بين قصة موسى ـ عليه السلام ـ إبان بعثته ، وما تعرض له من أذى مع فرعون موافقا لما جرى لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إبان دعوته وما جرى له مع فراعنة قريش .
إن هناك سننا إلهية في نظرية سقوط الحضارات تبرز واضحة في سورة القصص مع القواعد الكلية لنظم المجتمعات .
إن العولمة الحديثة تشبه في اعتمادها على الكفر والعلم كنوز قارون المعتمدة على الكفر بالله تعالى ، وما نسبه لنفسه من علم وأن مآل الجميع إلى التفكك .
إن في سورة القصص مبشرات بانتصار الإسلام على كل من حاربه من قبل ومن بعد ، وتبعا للقياس بأحاديث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهذه المبشرات ينبغي أن تبرز كلما أصاب الأمة الوهن ، لأن الوعد الإلهي متحقق لا محالة ..

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...