ماذا بقي لعبد الفتاح السيسي، سوى الجيش والشرطة وجنرالات متقاعدين، في السياسة والإعلام والبيزنس؟
مادا بقي له سوى بعض “المصطفى بكري” وبعض “الحمدين صباحي”، يواصلون أداء مهامهم، التاريخية، في محاولة ابتذال المشهد، وتفريغه من مضمونه؟
قبل ساعات من انطلاق تظاهرات الغضب، أول أمس الجمعة، تحدث السيد حمدين صباحي إلى إبراهيم عيسى، على الهواء مباشرة، مقدماً وصلة انحناء جديدة أمام عظمة السيسي، حين قال بوضوح مشين إن “الشعب المصري ذكي ويريد دائمًا القوي الأمين”، قبل أن يعلن أنه “سيقف بجوار عبد الفتاح السيسي في الترشح لولاية ثانية في حالة انخفاض الأسعار وخروج الشباب من السجون ومشاركتهم في الحياة السياسية”، متابعًا: “لو عمل كده هنقوله الله ينور”.
تلك هي القصة، كما يريدها هذا النوع من المعارضة التي لم تعد تليق بها كلمة “مستأنسة”، تلك التي شاعت في زمن حسني مبارك، والتي لا يتجاوز خلافها مع نظام فاسد وفاشل حدود المناكفة والمشاكسة في مساحات صغيرة من الهامش، ولا تقترب من صلب الموضوع أبداً.
من هنا، تأتي عظمة ما جرى في جمعة “مصر ليست للبيع” التي أحيت الأمل في نفوس الحالمين بالتغيير الجذري، والانعتاق من نظامٍ، أثبتت الأيام أن بقاءه يعني مزيداً من الانهيار والتقزم والإهدار الكامل لقيمة مصر التاريخية والجغرافية.
كان العنوان: “التصدي لجريمة التفريط في الأرض”، غير أن الموضوع كان أعمق من ذلك وأشمل، كان الموضوع الأساسي هو: الشعب يريد إسقاط النظام، وكان الهتاف: ارحل.
هنا، يتم استدعاء وجوه المعارضة المبتذلة، للقيام بوظيفة تحويل مجرى الغضب الشامل إلى قنواتٍ فرعية صغيرة، تهبط بالمسألة من الحلم بالتغيير الجذري إلى الرجاء في تفضل الزعيم البياع بطرح موضوع “تيران وصنافير” للاستفتاء، أو التراجع في قرار التنازل، أو البيع.
بالضبط، هذا ما كانت تفعله المعارضة إياها مع حسني مبارك، عقب انطلاق فعاليات يناير/ كانون الثاني 2011، من خلال لعبة تخفيض الأسقف، ليصبح المطلوب أن يُجري الزعيم “القوي الأمين” أو “صاحب الضربة الجوية” بعض الإصلاحات، ويسمح ببعض المساحات الإضافية للمعارضة في الصورة، التفافاً على مطلب الجماهير بإسقاط النظام، والتخلص من بلادته وتفريطه في تراب البلاد وأرواح العباد.
أسقطت تظاهرات أمس أسطورة الزعيم الجماهيري، وأكّدت أننا بصدد زعامة وهمية، أو كارتونية هشة، ليس فقط بالنظر إلى ضخامة الحشود وتنوعها السياسي والمجتمعي، وإنما لأن متغيراً إنسانياً هائلا قد وقع، بحيث يمكن اعتبارها “جمعة استعادة الحالة الإنسانية”، حيث تمرد من يعرفون باسم “المواطنين الشرفاء” على تلمود الهمجية والفاشية الذي وضع نصوصه الجنرالات وعبأوهم بها، فلم نسمع عن حكايات الإجرام الشعبوي التي تمارسها مليشيات البلطجة، المدعومة من النظام، ضد المتظاهرين، ولم نشاهد “مليشيات الحشد السيسي” تعتدي على الجماهير بالأسلحة البيضاء والسوداء، كما رأيناها في مناسباتٍ عديدة، برزت فيها أنياب الثورة المضادة.
هذا يعني، في تقديري، أن التآكل في طبقة الإيمان الأعمى بجنرال حمدين صباحي “القوي الأمين” بلغ مراحل متقدمة للغاية، جعلته يفرّ مع شبابه المزيف إلى عمق صحراء البحر الأحمر.
غير أن المشهد الأروع كان هذا التمرد من جماهير الثورة على دعاوى ودعوات الفصل العنصري الحقير بين مكونات الشعب المصري، صاحب الحلم الواحد، والمداخل المتعددة لتحقيقه، فحضرت مصر بكل ثرائها، ليبقى المشهد، في مجمله، جميلاً وفاتناً، إذ بدا وكأن الناس عطشى للتوحد، وجائعون لتلك الحالة الخلابة في 2011، إذ استعاد الشارع كثيراً من ألق بواكير الثورة وبهائها، وتراصت الصفوف والتحمت الإرادات وتعانقت الأحلام مجدداً في محاولة استنقاذ ثورة استبدت بها رياح التباطؤ والتواطؤ والتلعثم وانعدام الرؤية واختفاء القدرة على المبادأة والمبادرة.
شكراً لكل من شارك في وضع مصر على الطريق إلى “جمعة الغضب” في 25 أبريل/ نيسان 2016، وعلى الجميع أن يعي، من الآن فصاعداً، أن الشعب المصري هو الجهة السيادية الأولى في هذا البلد. والشكر الأكبر لجنرالات الفاشية الذين انتشروا في الفضائيات، يجرّدون الشعب المصري من آدميته، فيفجرون ينابيع غضب إضافية، تجعل التطلع إلى إسقاط عصابة الحكم البليد هو واجب الوقت، وتقول إن العد التنازلي يشتعل بالسرعة القصوى.