سأل رجلٌ مهمومٌ حكيمًا فقال: أيها الحكيم لقد أتيتك ومالي حيلة مما أنا فيه من الهمِّ؟ فقال الحكيم: سأسألُك سؤالين وأريد إجابتهما! فقال الرجل: إسأل؟ قال الحكيم: أجئت إلى هذه الدنيا ومعك تلك المشاكل؟ قال: لا! قال الحكيم: هل ستترك الدنيا وتأخذ معك المشاكل؟ قال: لا! فقال الحكيم: أمرٌ لم تأتِ به، ولن يَذْهَب معك، الأجدر ألّا يأخذ مِنْكَ كل هذا الهمّ، فكن صبورًا على أمر الدنيا .. وليكن نظرك إلى السماء أطول من نظرك إلى الأرض يكن لك ما أردت .. وابتسم دائمًا .. لأن رزقك مقسوم .. وقدرك محسوم .. وأحوال الدنيا لا تستحق الهُمُوم .. لأنها بين يدي الحيّ القيوم.
هي أمَةٌ أو جارية مصرية لسارة ويوجد في التراث الإسلامي ما يؤيد ذلك وهي مكرمة في الإسلام، إنها والدة النبي إسماعيل. وذكر ابن كثير أنها كانت أميرة من العماليق وقيل من الكنعانيين الذين حكموا مصر قبل الفراعنة، إنها بنت زعيمهم الذي قتله الفراعنة، ومن ثم تبناها فرعون، وعندما أراد فرعون سوءًا بسارة دعت الله فشلَّت يداه، فقال فرعون: اِدْعِي ربك أن يشفي يداي وعاهدها أن لا يمسها، ففعلت فشفى الله يديه، فأهدى إليها هذه الأميرة القبطية المصرية إكرامًا لها وليس خادمة كما يدعي اليهود في كتبهم، فآثرت سارة أن يتزوجها إبراهيم لأنها كانت تعلم أن إبراهيم كان يريد أن يكون له ذرية، فتزوجها، وهكذا حقق الله دعوة إبراهيم عليه السلام فحملت منه “فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ” سورة الصافات 101، بإسماعيل عليه السلام، إنها السيدة هاجر.
ولدت هاجر اسماعيل عليه السلام عندما بلغ إبراهيم عليه السلام السادسة والثمانين من العمر، وبلغت سارة سن اليأس من الانجاب، فتعاظمت غيرة سارة وبات إبراهيم عليه السلام في حيرة من أمره، كيف يستطيع التوفيق بينهما وهو في هذا العمر شيخ كبير.
وبدأ إبراهيم عليه السلام يناجي ربه، ويطلب أن يعينه ويساعده، فبشره الله بولد آخر تنجبه سارة “فَبَشَرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ، قَالَتْ يَاوَيْلَتَى ءَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَئٌ عَجِيبٌ، قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ” سورة هود 71- 73.
وبعد خمس سنوات من ولادة إسماعيل عليه السلام أنجبت سارة إسحاق عليه السلام وهكذا صار لإبراهيم ولدان: اسماعيل من هاجر، وإسحاق من سارة، ولحكمة أرادها الله، وتحاشيًا لما قد يقع بين الزوجتين وولديهما من الخلاف والمشاحنات أمر الله سبحانه خليله إبراهيم أن يخرج بإسماعيل وأمه هاجر، ويبتعد بهما عن سارة، التي اغتمت كثيرًا وثقل عليها أمر هاجر وولدها إسماعيل، بعد أن صار لها ولدًا.
أذعن إبراهيم لأمر ربه، فخرج بهاجر وابنها إسماعيل، وهو لا يدري إلى أين يأخذهما، فكان كل ما مرّ بمكان أعجبه فيه شجر ونخل وزرع قال: إلى ههنا يا رب؟ فيجيبه جبريل عليه السلام: إمض يا إبراهيم، وظل هو وهاجر سائرين، ومعهما ولدهما إسماعيل حتى وصلوا إلى مكة، حيث لا زرع هناك ولا ماء إلا حرّ الشمس.
أراد إبراهيم عليه السلام أن يترك هاجر وولدها إسماعيل، في ذلك المكان القاحل المقفر، حيث لا دار ولا طعام فيه ولا شراب، إلّا كيسًا من التمر وقربة صغيرة فيها قليل من الماء كانوا قد حملوها معهم عند بدء رحلتهم، فخافت هاجر على نفسها الجوع والعطش، وعلى وليدها الهلاك، فتعلقت بإبراهيم عليه السلام تريد ألاّ تتركه يذهب، وراحت تسأله إلى أين تذهب يا إبراهيم وتتركني وطفلي في هذا المكان الذي ليس فيه أنيس، ولا زرع ولا ماء، ألا تخاف أن نهلك أنا وهذا الطفل جوعًا وعطشًا؟ رق قلب إبراهيم وتحير في أمره، ولكنه تذكر أمر الله له، فماذا يفعل وهو إنما ينفذ ما أمره به ربه، وألحت هاجر في السؤال، وظل إبراهيم عليه السلام منصرفًا عنها يناجي ربه، ويأتي الجواب جازمًا حاسمًا لا تردد فيه ولا تراجع: إن الله هو الذي أمرني بترككم في هذا المكان، وهو لا شك لن يضيعكم، فلاذت أم إسماعيل بالصمت، ورضخت هي الأخرى لما أراده الله ثم قالت: إذن لا يضيعنا.
ورفع إبراهيم عليه السلام يديه بالدعاء متضرعًا إلى الله وهو يَهِمُّ بالعودة: “رَبَّنَا إِنِي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مَّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ” سورة إبراهيم 37، ثم همَّ عائدًا إلى بلاد الشام حيث سارة، وقلبه يهوي إلى مكة وإلى ولده إسماعيل، ولا حيلة له إلاّ الدعاء والتضرع.
نفد التمر والماء من بين يدي هاجر، واشتدت حرارة القيظ فعطشت هي وابنها، وراح يتلوى من الجوع والعطش فلم تعد هاجر تطيق رؤية طفلها على هذه الحال، فراحت تنظر إليه وعيناها لا تدري ماذا تفعل، أتترك ولدها يموت جوعًا وعطشًا، لن تقف مكتوفة الأيدي أمام هذا المصير، فلابد أنها ستجد الماء، فالله لن يضيعها هي وطفلها، وقامت هاجر في الوادي في “موضع السعي أيام الحج”، انطلقت هاجر تبحث عن الماء في كل اتجاه، وكان الصفا أقرب جبل إليها، فصعدت عليه وراحت تنظر يمنة ويسرة، وفي كل ناحية فلاح لها على المروة سراب ظنته ماءً، نزلت عن الصفا، ولكن لم تجده شيئًا، فوقفت منهكة تنظر وتتفحص فلاح لها سراب في الجهة الأخرى على الصفا وكأنه الماء فعادت مهرولة إلى الصفا ولكنها لم تجد هنالك شيئًا.
وهكذا كل مرة، حتى فعلت ذلك سبع مرات وطفلها لم يفارق مخيلتها، ولم تطيق أن يغيب عن ناظريها، فلما كانت في المرة السابعة، وقد اشتد بها العطش، وأخذ منها التعب، وأنهكها المسير، دون أن تعثر على الماء، نظرت إلى طفلها فإذا الماء ينبع من تحت قدميه، فأتته مسرعة وراحت تجمع حوله الرمل وهي تقول زم زم، ثم أخذت تشرب من الماء حتى ارتوت وانحنت على إسماعيل لتسقيه.
فارتبطت بالمسبب (الله سبحانه وتعالى) لا بالسبب (السعي والاستشراف)، فالسعي والاستشراف لم يأتي بالماء ولكن وجدت الماء تحت قدم الوليد لأنها قالت: لا يضيعنا الله، فكان لوقع لا يضيعنا الله قيمة، وصدقت قضيتها.
ودلَّ ذلك على اليقين بالله الخالق الرازق وعدم الفتنة في السبب المباشر لأن المرأة والوليد ليس لهم من أسباب الحياة إلاّ الرجل، والرجل تركهم فالمسألة لا تتعدى الأسباب إلاّ بوحي من المسبب، فاستغاثت بالخالق عن المخلوق، إمرأة في مثل سنّها وفي مثل وحدتها مع وليدها، أراد الله أن يقول لها ليس بسيعك واستشرافك، ولكن بضربة من رجل وليدك الضعيفة.
قال الله تعالى لمريم: “وَهُزِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ” سورة مريم 25، يا مريم زاولي السبب، فهذا العمل لا يستطيع أقوى الرجال أن يقوم به وهو هز جزع النخلة، ولكن لبقاء السببية والمسبب معًا، فحينما تجد الماء تحت رجل وليدها لتفعل السبب وتؤمن بالمسبب فظلت هذه شعيرة من شعائر الحج.
ونذكر أنه كانت هناك إمرأة كبيرة في السن بائعة دجاج على طرف قصر كسرى، فقالوا: إن كسرى يريد أن يضم إليه قطعة الأرض التي تفرش عليها هذه المرأة العجوز إلى باحة القصر، ذهبت المرأة كي تحضر خيط لتربط الدجاج، وقبل أن تمشي قالت: اللهم أستودعك دجاجي، أمر كسرى الحاشية أن يزيلوا الدجاج والفراش، فعادت المرأة، فلم تجد أثرًا لفراشها ودجاجها، فقالت: يارب أنا كنت غائبة، واستودعت دجاجي عندك، فدخل ابن كسرى فقتل كسرى.
إن الإيمان متمثلاً في قصة هاجر رجلٌ يستودع الله امرأته ووليده في صحراء من غير حول لهما ولا قوة، في واد غير ذي زرع، وأم تريد الماء لها ولوليدها هو استبقاء الجمع بين سببية الأسباب بالجوارح، وبين سببية الحق في القلوب. قال تعالى: “إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله” سورة البقرة 158، كان ذلك حتى يقطع المسلمون صلتهم بالجاهلية، ويذكرهم ربهم بأنكم ستسعون بين الصفا والمروة جبلين ولكنكم ستسعون بالنية، فقداسة هذه الأماكن أقدس من أصنامهم (أساف على الصفا ونائلة على المروة)، وتلك شعائر معالم العبادة ويلاحظ فيه المكانية، فإن إساف ونائلة من شعائرهم وليس الصفا والمروة.
وقال تعالى: “أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ” سورة النمل 62، فأين دعاءك يا من أنت في ضيقٍ، أو همٍّ، أو كربةٍ من كربات الدنيا، أن استمساكك بالأسباب والمسبب، وليس بالأسباب فقط، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة: [يا دنيا اشتدي على أصفيائي حتى يزدادوا شوقًا إلى لقائي].
وهنا في تعامل إبراهيم عليه السلام في هذا الموقف مع ربه، عندما وضع إمرأته ووليده في واد لا ماء فيه، ولا زرع، ولا أي إنسي، وذلك أمر لا يعقل، لكن إبراهيم عليه السلام قام بتطبيق أمر الله سبحانه وتعالى حتى وإنْ كان مخالفًا للعقل، يقول الإمام على: (لو كان الدين بالعقل، لكان المسح أسفل الخف أولى من أعلاه)، وكان إبراهيم سبَّاقًا إلى ربه القادر الرحمن الرحيم، قال وهيب بن الورد: (إن استطعت ألّا يَسْبِقُكَ إلى الله أحد فافعل).
وقال موسى عليه السلام وهو محاصر، والبحر من أمامه هو ومن معه وفرعون وجنوده من خلفه: “إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ” سورة الشعراء 62 ، وعن أنس رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر الصديق قال: (قلت يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، قال: يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) أخرجه البخاري.
يا صاحب المشكلة أو الهم، وَلِمَا تَغْتَمّ، وأنت تعلم أنه كلما زاد قربك من الله، كلما كان هناك ارتقاء في الابتلاء، كما حدث مع سيدنا إبراهيم عليه السلام، عندما كُلِّفَ بأهون تكليف وهي الرؤيا “إني أرى في المنام” ، وكان من الممكن أن يميت الله إسماعيل دون تدخل من أحد، أو أن يسلط عليه غير إبراهيم فيقتله أو يذبحه، ولكنه كان بأشق تكليف على إبراهيم بأنه هو الذي يقوم بذح إبنه “أني أذبحك”، وعندما يذبح إبنه بسكين فما هي الخواطر التي تأتي في رأس إبنه من ناحية أبيه؟! ولكن إبراهيم أراد أن يشرك إبنه في الثواب “فانظر ماذا ترى”، واشترك الإبن في الرضا “افعل ما تؤمر”، والرضا هنا هو رفعٌ للقَدَر، وزيادةٌ في الفضل أنعم الله على إبراهيم بولد آخر هو اسحاق، ويقول سبحانه: “فلما أسلما” لموافقة الأب والإبن ورضاهما بِقَدَرِ الله، ففداه الله بذبحٍ عظيمٍ، فهل لنا بعد ذلك إلَّا الله؟ وهل لك أخي وحبة قلبي إلّا الله؟ قم وتوضأ وصلِّ ركعتين فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمرٌ قام إلى الصلاة، وعن رجل من الصحابة قال: [كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرحنا بها يا بلال] أخرجه الطبراني. فأبواب السماء للتوبة والقبول تُفَتَّحُ لك أخي المسلم وقرَّة عيني، هل لنا إلا الرضا بما قسمه الله لنا، فالرضا يرفع القَدَرَ، وليكن تنافسنا على كل خيرٍ، على الجنة التي عرضها السموات والأرض، قال تعالى: “وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ” سورة المطففين 26، فتلك هي المنافسة الحقة، ونقول كما قالت السيدة هاجر: (إذن لا يضيعنا)، فلن يضيعنا الله أبدًا.