بقلم: د. عز الدين الكومي
بصرف النظر عن أنّ ثورة يوليو كانت ثورة أم انقلابا، وأن الضباط الأحرار هم قاموا بها، مع وجود ظهير شعبي، من القوى الوطنية الموجودة في ذلك الوقت، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين؛ فإنّ الذي يعنينا بالدرجة الأولى هو: كيف أصبح حال البلاد بعد مرور ستة عقود ونصف على اندلاعها!!.
الرئيس محمد نجيب أول رئيس مصري، بعد ثورة يوليو، في كتابه “كنت رئيسًا لمصر” والذي طالب الجيش بالعودة إلى ثكناته، وإقامة حياة مدنية، لكن العسكر لم يرضوا بذلك، وقاموا بالتخلص منه، وبدؤوا يستولون على ثروات مصر وإفقارها اقتصاديا وإضعافها في جميع المجالات !! يقول: قال لي السادات أنت حر طليق، لم أصدق نفسي هل أستطيع أن أخرج وأدخل بلا حراسة؟ هل أستطيع أن أتكلم في التليفون بلا تصنت؟ هل أستطيع أن أستقبل الناس بلا رقيب؟؟؟!! وبجانب هذه الأحاسيس كانت هناك أنات ضحايا الثورة الذين خرجوا من السجون والمعتقلات، ضحايا القهر والتلفيق والتعذيب، وحتى الذين لم يدخلوا السجون ولم يجربوا المعتقلات، ولم يذوقوا التعذيب والهوان كانوا يشعرون بالخوف، ويتحسبون الخطى والكلمات!! وعرفت ساعتها كم كانت جريمة الثورة في حق الإنسان المصري بشعة، وعرفت ساعتها أي مستنقع أَلقَينا فيه الشعب المصريّ؛ فَقَد حريته، فَقَد كرامته، فَقَد أرضه، وتضاعفت متاعبه، المجاري طفحت، المياه شَحّت، الأزمات اشتعلت، الأخلاق انعدمت، والإنسان ضاع!!
بهذه الكلمات لخص محمد نجيب الحالة المزرية التي وصل إليها الشعب المصري في ظل الثورة والثوار، وحكم العسكر !!
فقد لاحظ محمد نجيب بعض السلوكيات الخاطئة التي يرتكبها بعض الضباط في حق الثورة وفي حق الشعب الذي وثق بهم، فكان أول شيء فعله ضباط القيادة أنهم غيروا سياراتهم الجيب وركبوا سيارات الصالون الفاخرة، وترك أحدهم شقته المتواضعة واستولى على قصر من قصور الأمراء، حتى يكون قريبا من إحدى الأميرات التي كان قصرها قريبا من القصر الذي استولي عليه!!
وعن حالة الفراغ الدستوري التي حدثت بعد رحيل الملك فاروق، يقول : حدثت سجالات قانونية ليس هدفها احترام القانون، فقد فصلوا قانوناً حسب الحاجة, فَبْركوا القانون, وبعد أقل من أسبوعين على رحيل الملك كنا نسير في طريق تكييف القوانين الذي انتهى بنا إلى هاوية اللاقانون بعد ذلك!!
ومنذ ذلك التاريخ ومصر تحكم بطريقة العزبة الخاصة، حيث تفصيل القوانين والدساتير، وفق رغبة الحاكم المستبد، الذي يعتبر نفسه مع زمرة العسكر وصيًّا على الشعب!!
وعن تعيين ثمانية عشر من اللواءات وكبار الضباط في وظائف مدنية ودبلوماسية بعد الثورة يقول: فتولد داخلي إحساس بأننا فتحنا باباً أمام باقي الظباط ليخرجوا منه إلى المناصب المدنية ذات النفوذ القوي والدخل الكبير، لقد اخترق العسكريون كل المجالات وصبغوا كل المصالح المدنية باللون الكاكي!!
وإذا أنعمنا النظر في كلام محمد نجيب؛ نجد أن أهداف الثورة السبعة التي كنا ندرسها في المرحلة الابتدائية، وهي: القضاء على الاستعمار . القضاء على الاحتكار وسيطرة رأس المال. القضاء على الإقطاع . إقامة جيش وطني . إقامة عدالة اجتماعية. إقامة حياة ديمقراطية سليمة . وبعد مرور ستة عقود ونصف لم يتحقق منها شيء، اللهم منح ضباط وأمناء الشرطة لقب البشوية !! فلا عدالة اجتماعية، ولا حياة ديمقراطية، وجيش مصر الوطني يرابط فى الأسواق ومنافذ البيع، ويصنع المكرونة والبيتي فور والغريبة، وأن مصر أصبحت على يد طغمة العسكر الحاكمة، الأولى في الفساد والجهل والفقر والأمراض والأوبئة والظلم والقمع، وتاريخ من الهزائم العسكرية، وبعد أن كانت مصر الأولى عالميا في تصدير القطن؛ أصبحنا نشحت (نتسوّل) الملابس المستعملة والبطاطين القديمة، وأصبح ملايين المصريين متغربين في كل أرض بحثاً عن لقمة العيش وهروباً من الفقر، بعدما كانت مصر محط أنظار المهاجرين من أوربا وآسيا للعمل في كل المجالات ابتداء من المطاعم والمقاهي، وإنشاء البنوك ومحلات البقالة، واليوم الشباب المصري يغرق في عرض البحر محاولا الهجرة بطرق غير قانونية إلى اليونان وإيطاليا،، وأخيراً وزيرة العمل المصرية قامت بزيارة لبلاد الخليج لاستجداء فرص عمل للخادمات المصريات!!
ويكفي أن أعظم جريمة اقترفتها الثورة وضباطها الأشرار؛ أن مصر كانت في يوم 23 يوليو 1952 تمتلك ودائع وسندات في بنوك انجلترا تقدر بخمس مائة مليون جنيه إسترليني، واليوم مصر تعيش على القروض والهبات والمنح والعطايا، من بلاد الخليج وغيرها!!
والغريب أنه مازال هناك مَن لا يخجل مِن الدفاع عن ثورة يوليو، مِن رافعي شعارات الناصرية والقومجية، والتي أشبعتنا كلاما عن العدالة الاجتماعية، حتى بعدما ظهر عوارها، وأن قصدها هو كيفية البقاء والحفاظ على الكراسي واستمراريتها إلى الأبناء، والأحفاد، والشعوب المغلوبة على أمرها تمشي كالقطعان، وتنساق خلف الشعارات الجوفاء، وتصفق وترقص بدون وعي، وهذا يذكرني بإحدى النكات بمناسبة يوليو؛ وهي أن مقدمة برنامج على الناصية “آمال فهمي” اقتربت من أحد المواطنين وقالت له: إحنا دلوقت بنحتفل بذكرى “ثورة” 23 يوليو، يا ترى تقدر تقول لنا رأيك في الثورة؟ فقال المواطن: الثورة دي حاجة عظيمة جدا، يا ريت نعمل واحدة كمان !!