أخوك الأسير صامد.. فماذا عنك؟!

بقلم: عامر شماخ

كلمات وجيزة قالها له أحد الخارجين -مؤخرًا- من سجون العسكر، جعلته يفقد النوم، ويدور حول نفسه دوران النادم، صاحب النفس اللوامة. كان يسأل هذا الخارج توًا عن صاحبهما المشترك الذى اختطف من عمله المرموق منذ ثلاث سنين، وتركه يعانى المرض فضلا عن معاناة الأسر وفظاظة السجان، وهو الرجل القرآنى، رقيق الحاشية، سليم الصدر، من لا يُسمع له صوت ولا يُرى منه إلا صنائعُ المعروف ومبادرات الخير.

قال له الخارج توًا: لقد تركت صاحبنا صامدًا ثابتًا -بفضل الله- فما تغيرت روحه التى عهدناها فيه، وما مسّ قلبه المنشرح شىء من يأس أو حزن أو قنوط، بل هو هو، بخجله المفرط، وأدبه وعلمه وثقته فى ربه ثقة من يقبض على شىء بيده، ووالله لقد سمعته يقول: إنا إن شاء الله على الحق المبين، والصراط المستقيم، وإنا على يقين أنا الغالبون، مهما ادلهمت الأمور وبدا أن الباطل قد انتصر، فإنما هو كيد ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى..

لم يكن يتوقع أن تكون هذه الكلمات التلقائية القليلة عن هذا المقيد المسجون، سوف تستفرغ دموعه حتى الشهيق، وأن تجعله يراجع سيرته ومسيرته خلال الثلاث سنوات الفائتة، وكيف صار الآن وكيف صار صديقه الصدوق، زميل الدراسة، رفيق الدعوة.. ما أوجعه بعد هذه المكالمة أنه نظر لنفسه فوجد أنه صار مثل كثيرين ممن لا يحملون همّ الوطن أو أزمات الدعوة؛ إذ بعدما وقع ما وقع فى يوليو 2013 وكان نشيطًا متحمسًا مندفعًا غاضبًا، باذلا وقته وماله، مؤمنًا بقضيته العادلة مدافعًا عنها- بدأ مع مرّ الأيام وكرّ السنين يفتر حماسه، ويقل نشاطه، وبدأ يسمع لمن وقف فى وجوههم بالأمس، فكأن شيئًا وقع فى نفسه أجج فيها صراعًا، فلم يخرج من هذا الصراع إلا بالانكفاء على عمله، وتوديع الأحباب، وتغيير مكان الإقامة، وقطع الصلة مع من كانوا أهله دون أهله… حتى جاءته هذه المكالمة..

لقد أدرك بعدها أنه لا يصح إلا الصحيح، وأن النفوس التى ذاقت الخير وشرفت باللحاق بركب الصالحين لا يحق لها أن تختبئ، أو تنكمش أو تبخل، ولو فعلت لعاشت نكد الدنيا ولو ملكتها بحذافيرها، وأدرك كذلك أن شرف الداعية أن يكون داخل صفه فى كل حين؛ رخاء أو بلاء، وهو يعلم أن حلقات الحياة سلسلة لا تنتهى، وهى ليست على نمط واحد، وليست كلها شرًا، والأنفع دنيويًا وأخرويًا أن تكون فى صف الحق وأهله ولو بدا لك أن أصحابه هم الخاسرون، فتلك قاعدة ربانية لا يطرأ عليها تبديل أو تعديل، كيف لا وهناك منادٍ يذكر فى كل حين: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس: 62)إن الذى صمد فى الأسر صمد بتوفيق الله أولا، ثم بما قدم من عمل، وما بذل من جهد، وبما عقد من نية على جهاد الظلم، ومقاومة الباطل والوقوف فى وجوه المستبدين الغاصبين من لا يرقبون فى مؤمن إلا ولا ذمّة، وهو لم يثبت ولم يحتفظ بتلك الروح الشفافة المتوهجة إلا لعظم الدين فى قلبه، ووقر القرآن فى عقله، ونظره المتدبر فى سيرة المصطفى وسلفنا الكريم، وما آلت إليه أحوالهم وما شرفوا به من ترداد ذكرهم، واتخاذهم قدوات، وحيازة نصر الدنيا ونعيم الآخرة..

ولو فعل الذى فى الأسر كما فعل صاحبنا لما بقى للدين من يدافع عنه، ولما بقى للوطن من يحمى أرضه، ولصار هيكلا عظميًا هدته الأمراض وأرهقه السجان، ولماتت روحه وضاقت نفسه، ولقبل بما يمليه عليه المجرمون حتى يتنازل عن مبادئه -وربما عقيدته.

إنما يعلم هذا الأسير أنه ورفاقه هم صمّام الأمان لهذه الدعوة، وأنه واحد من الطائفة التى شرفها الله بالقيام على الحق وإن خذلهم الخلق، وأنه لولاهم لفسدت الأرض، ولهدمت مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا؛ فهو لذلك قائم على نفسه، يهذبها، ويدربها، ويربيها على المعانى الغالية، وعلى الصبر والتضحية، والثبات والتجرد، فما وجد فى النهاية إلا نفسًا طيعة، منقادة إلى حيث يوجهها، فهو فى همّ دينه، وفى شغل دعوته ووطنه، لم ينس كما نسى أخوه الطليق أن هناك حاكمًا مسلمًا عادلا اختطف بعد أن اختاره الشعب، وأن هناك دعوة حوربت، وأن هناك مساجد عطلت، ونفوس أزهقت، وأعراض انتهكت و……..، لم ينس كل هذا، ولن ينساه؛ ذلك أنه صاحب عقيدة سليمة، ودعوة رشيدة، وعقل تدبر فيما حوله، وقلب انشغل بالله ولم ينشغل بغيره، فدلّه الله إلى طريق الحق، فاتبعه ولم يخش شوكه ووحله ووحشته، ووعورته لأنه يدرك أن تلك المكاره إنما هى حتم لمن أراد أن يصل، ولمن أراد الثبات، وليست هناك حيلة للوصول إلى نهايته إلا بالمرور عليها، فإذا ما انتهت رأى نور الله وفضله عليه وعلى من معه.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...