ارحموا ترحموا

2

الحمد لله الذى انزل الرحمة فى قلوب عبادة والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
الرحمة “
من صفات الحق التي شمل بها عباده ,
فلذا كانت أعلاماً اتصف بها البشر ,
فندب إليها الشارع في كل شيء حتى في قتال الكفار والذبح وإقامة الحجج وغير ذلك ( واغفروا يغفر لكم )
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم
( ارحموا ترحموا , واغفروا يغفر لكم , ويل لأقماع القول , ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون )
أمتع وجدانك بروائع من كلمات سيد المرسلين , فأنت بالروح لا بالجسد إنسان ، وترجم هذا الخير واقعا عمليا في حياتك لتنال مثوبة رب العالمين , وتحس بروعة هذا الدين ، وتفتخر بأنك من أتباع خاتم النبيين , لا من أتباع الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا , وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا … إن في العمل بهذا المنهج النبوي راحة للنفس لا تدانيها راحة , ومتعة للوجدان والضمير لا يستطيع أن يصفها لك أحد بكلمات مهما أوتي من فصاحة وبلاغة إلا بقوله : من ذاق عرف
قال المناوي “
( ارحموا ترحموا ) لأن الرحمة من صفات الحق التي شمل بها عباده , فلذا كانت أعلاماً اتصف بها البشر , فندب إليها الشارع في كل شيء حتى في قتال الكفار والذبح وإقامة الحجج وغير ذلك ( واغفروا يغفر لكم ) لأنه سبحانه وتعالى يحب أسمائه وصفاته التي منها الرحمة والعفو ويحب من خلقه من تخلق بها ( ويل لأقماع القول ) أي شدة هلكة لمن لا يعي أوامر الشرع ولم يتأدب بآدابه ، والأقماع بفتح الهمزة جمع قمع بكسر القاف وفتح الميم وتسكن , الإناء الذي يجعل في رأس الظرف ليملأ بالمائع ، شبه استماع الذين يستمعون القول ولا يعونه ولا يعملون به بالأقماع التي لا تعي شيئاً مما يفرغ فيها , فكأنه يمر عليها مجتازاً كما يمر الشراب في القمع , كذلك قال الزمخشري : من المجاز ويل لأقماع القول وهم الذين يستمعون ولا يعون ( ويل للمصرين ) على الذنوب أي العازمين على المداومة عليها ( الذين يصرون على ما فعلوا ) يقيمون عليها فلم يتوبوا ولم يستغفروا
( وهم يعلمون ) حال أي يصرون في حال علمهم بأن ما فعلوه معصية , أو يعلمون بأن الإصرار أعظم من الذنب أو يعلمون بأنه يعاقب على الذنب
فقوله صلى الله عليه وسلم ( ارحموا ترحموا )
لأن الجزاء من جنس العمل ، فلتكن الرحمة سجيتك والرفق خلقك ، أما تحب أن يرحمك الله , قال صلى الله عليه وسلم
( ارحم من في الأرض , يرحمك من في السماء ) , وقال صلى الله عليه وسلم ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء ) وقال صلى الله عليه وسلم
( من رحم ولو ذبيحة عصفور , رحمه الله يوم القيامة )
وقال صلى الله عليه وسلم ( الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى , ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ) زاد أحمد والترمذي
( والرحم شجنة من الرحمن , فمن وصلها وصله الله , ومن قطعها قطعه الله ) أي ‏الراحمون لمن في الأرض من آدمي وحيوان لم يؤمر بقتله بالشفقة والإحسان والمؤاساة والشفاعة وكف الظلم ثم بالتوجع والتوجه إلى اللّه والالتجاء إليه والدعاء بإصلاح الحال ولكل مقام مقال ,
قال البوني :
فإن كان لك شوق إلى رحمة من اللّه , فكن رحيماً لنفسك ولغيرك ولا تستبد بخيرك , فارحم الجاهل بعلمك , والذليل بجاهك , والفقير بمالك , والكبير والصغير بشفقتك ورأفتك , والعصاة بدعوتك , والبهائم بعطفك ورفع غضبك , فأقرب الناس من رحمة اللّه أرحمهم لخلقه , فكل ما يفعله من خير دق أو جل فهو صادر عن صفة الرحمة
وقوله صلى الله عليه وسلم ( واغفروا يغفر لكم )
هذا كقوله تعالى ( وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) النور
قال الشنقيطي :
فيه الأمر من الله للمؤمنين إذا أساء إليهم بعض إخوانهم المسلمين أن يعفوا عن إساءتهم ويصفحوا , وأصل العفو : من عفت الرياح الأثر إذا طمسته , والمعنى : فليطمسوا آثار الإساءة بحلمهم وتجاوزهم والصفح , قال بعض أهل العلم : مشتق من صفحة العنق , أي أعرضوا عن مكافأة إساءتهم حتى كأنكم تولونها بصفحة العنق , معرضين عنها ( ألا تحبون أن يغفر الله لكم ) دليل على لأن العفو والصفح عن المسيء المسلم من موجبات غفران الذنوب , والجزاء من جنس العمل
وقوله صلى الله عليه وسلم ( ويل لأقماع القول ) أي الذين لا يعون أوامر الشرع ولا يتأدبون بآدابه ، قال جل ذكره
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَْـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179 والذين يغفلون عما حولهم من آيات الله في الكون وفي الحياة , والذين يغفلون عما يمر بهم من الأحداث والغير فلا يرون فيها يد الله … أولئك كالأنعام بل هم أضل ..فللأنعام استعدادات فطرية تهديها , أما الجن والإنس فقد زودوا بالقلب الواعي والعين المبصرة والأذن الملتقطة , فإذا لم يفتحوا قلوبهم وأبصارهم وأسماعهم ليدركوا ,
إذا مروا بالحياة غافلين لا تلتقط قلوبهم معانيها وغاياتها ,
ولا تلتقط أعينهم مشاهدها ودلالاتها , ولا تلتقط آذانهم إيقاعاتها وإيحاءاتها … فإنهم يكونون أضل من الأنعام الموكولة إلى استعداداتها الفطرية الهادية …ثم هم يكونون من ذرء جهنم ! (9) ,
وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ , وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ , إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ) الأنفال 20-22 جعلهم تعالى من جنس البهائم لصرفهم جوارحهم عما خلقت له ، ثم جعلهم شرها لأنهم عاندوا بعد الفهم , وكابروا بعد العقل , وفي ذكرهم في معرض التشبيه بهذا الأسلوب غاية في الذم
وقوله صلى الله عليه وسلم ( ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون ) وهؤلاء الأشرار على النقيض من أهل الخير الذين قال تعالى فيهم ( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ , أُوْلَـئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) والفاحشة أبشع الذنوب وأكبرها , ولكن سماحة هذا الدين لا تطرد من يهوون إليها من رحمة الله , ولا تجعلهم في ذيل القافلة ..قافلة المؤمنين ..إنما ترتفع بهم إلى أعلى مرتبة …مرتبة المتقين ..على شرط واحد , شرط يكشف عن طبيعة هذا الدين ووجهته ..أن يذكروا الله فيستغفروا لذنوبهم , وألا يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون أنه الخطيئة , وألا يتبجحوا بالمعصية في غير تحرج ولا حياء .. وبعبارة أخرى أن يكونوا في إطار العبودية لله , والاستسلام له في النهاية , فيظلوا في كنف الله وفي محيط عفوه ورحمته وفضله
والإسلام لا يدعو بهذا إلى الترخص , ولا يمجد العاثر الهابط , ولا يهتف له بجمال المستنقع ! كما تهتف [الواقعية] إنما هو يقيل عثرة الضعف , ليستجيش في النفس الإنسانية الرجاء , كما يستجيش فيها الحياء ! فالمغفرة من الله ــ ومن يغفر الذنوب إلا الله ؟ ــ تخجل ولا تطمع , وتثير الاستغفار ولا تثير الاستهتار , فأما الذين يستهترون ويصرون فهم هنالك خارج الأسوار , موصدة في وجوههم الأسوار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...