وائل قنديل :
تقول النكتة التي راجت في زمن حسني مبارك إن “أبو العربي”، الشخصية الشهيرة في حكاوي مدينة بورسعيد، كان دائم المباهاة بين أقرانه بأنه صديق الرئيس، ويجالسه ويحاوره كثيراً في قصره، ثم أعلنت وسائل الإعلام أن مبارك سيزور بورسعيد بعد أسبوع، فوقع “أبو العربي” في ورطة، وأدرك أن صورته بين أصدقائه وجيرانه على المحك، خصوصاً عندما جاءوه مهنئين بزيارة صديقه وجليسه الزعيم. تفتق ذهن “أبو العربي” عن حل سريع، قاده إلى أن يسافر إلى القاهرة، ويقف على أبواب قصر الرئاسة مهدّداً بالانتحار، إن لم يقابل السيد الرئيس لأمر خطير، يهدّد حياته، ونجحت الحيلة وأدخلوه على مبارك، فتوسل إليه أن يحقق له أمنية عمره الوحيدة: أن يلوح له بيده، وهو يمر بموكبه في الطريق ببورسعيد أمام الناس.
في اليوم الموعود، وقف “أبو العربي” في مكان بارز، وبالفعل تقع عين حسني مبارك عليه، فيرفع يده لتحيته، تحيةً خاصة، من بعد أمتار، وسط ذهول الجميع، فما كان من “جحا بورسعيد” إلا أن صاح بصوتٍ مرتفعٍ، سمعه المحيطون به “كتر السلام يقل المعرفة، ما احنا كنا مع بعض امبارح”، ليتحول “أبو العربي” بعدها إلى شخصيةٍ مرموقةٍ في المجتمع البورسعيدي، يحسب لها الجيران والمعارف ألف حساب.
شيء قريب للغاية من نكتة “أبو العربي” يجري مع عبد الفتاح السيسي في زياراته الخارجية، إذ تنطق الصور والوقائع بأن حضوره يكون باهتاً وركيكاً، حد الإهانة لتاريخ ومكانة الدولة التي يمثلها، عنوةً، فتهرع أذرعه الإعلامية والدبلوماسية لصناعة حكاياتٍ وهمية، مثيرة للأسى، عن الزعيم الأسطورة الذي يتصارع زعماء العالم على نيل رضاه.
غير أن اللوثة، هذه المرة، مع رحلة نيويورك 2016، ليست قادمة من إعلامٍ ينتمي لمدرسة “الاستحمار”، فيروّج حكاياتٍ مجنونةً عن وقوف زعماء العالم في طوابير، أطول من ناطحات السحاب، لمصافحة عبد الفتاح السيسي في نيويورك، والتقاط صورة “سيلفي” معه.
نحن بصدد حالة جنون رسمي، تتدحرج من الأدوار العلوية في الدبلوماسية المصرية، هبوطاً إلى مستنقعات البرامج التلفزيونية، لتعلن أن “الزعيم” رفض طلباتٍ متعدّدة من دول كثيرة، من بينها تركيا وقطر، لكي يفوز قادتها بدقائق وصورة مع السيسي.
لم يحدث في تاريخ الدبلوماسية المصرية أن وصل الأمر بجهات رسمية إلى الإيعاز لوسائل إعلام بترويج أخبار كوميدية عن أن الإقبال تاريخي على مقابلة الزعيم، على هامش اجتماعات الأمم المتحدة، حتى إنه رفض طلبات عديدة لازدحام الجدول.
كان من الممكن اعتبارها “شطحةً”، أو اجتهاداً مما أسميته قبل ذلك “إعلام مصر في طورها “العكاشي” الذي اندلع قبل أكثر من ثلاثة أعوام، غير أن الأمر يتطوّر ويستفحل، حتى تجاوز مرحلة الكوميديا التجارية الرخيصة، وبلغ حد الخلل العقلي، والجنون الرسمي، وبعد أن كانت المسألة محصورةً في شخصٍ مولعٍ بتقمص شخصياتٍ هاربةٍ من فصول الفانتازيا، في كتب التاريخ الصفراء، تحولت إلى سياق عام من الهزل، تذوب فيه الفوارق بين ما يصدر عن الدبلوماسية وما “ينشع” من ملاهي الـ “توك شو” الليلية.
تتحول مصر تدريجياً إلى “دولة فوتوشوب”، مجرد تكوينٍ فوق رمال ناعمة على شاطئ بحرٍ صاخب، مع أول موجةٍ تنهار الأكاذيب والأوهام، ليرفع الستار عن زعامةٍ كرتونيةٍ مصنوعة في ورش إعلام بلغ من العبط عتياً، يحاول أن يعتصر من حكايات السابقيْن، عبد الناصر والسادات، ما يكفي لرسم صورة “جنرال معاصر كبير”.
هذا المشهد عرفته فرنسا مع انقلاب 1851 الذي تقمّص فيه بونابارت الصغير شخصية بونابارت الكبير، الحقيقي، وقد عبر عنه كارل ماركس، في كتابه “الثامن عشر من برومير” بالقول: “إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء. وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط في تحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم، في خلق شيء لم يكن له وجود، عند ذلك بالضبط، في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد، نراهم يلجأون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي، لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء، والشعارات القتالية والأزياء لكي يُمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكّري الذي اكتسى بجلال القدم وفي هذه اللغة المستعارة”.
ثم يضيف عن “بونابارت الصغير” الذي يشبه عبد الفتاح السيسي في الحالة المصرية “مع ما هو عليه من قلة البطولة، اقتضى إخراجه إلى حيز الوجود بطولة وتضحية وإرهاباً، واقتضى حرباً أهلية ومعارك بين الشعوب”، مستعرضاً تاريخاً من المحاكاة القسرية، حتى يصل إلى ذلك “المغامر الذي كان يخبئ ملامحه التافهة المنفّرة تحت القناع الحديدي لنابوليون الميّت”.