وائل قنديل :
يُسقِط المستشار حسن فريد، رئيس محكمة جنايات القاهرة التي تنظر قضية “فض رابعة العدوية”، آخر أوراق التوت عن النخب السياسية والإعلامية التي تحاول غسل يديها من دماء حرّضت على إسالتها في “رابعة العدوية” وأخواتها.
فجّر رئيس المحكمة مفاجأة، تؤيد رواياتٍ كانت تساق، من دون توثيق، حين أكد أن النائب العام الراحل هشام بركات لم يصدر أمراً بفض الاعتصام، وأن أمره جاء بخصوص ضبط الجرائم التي ترتكب بالاعتصام.
تنقل هذه الشهادة، الرسمية، النقاش حول كارثة فضّ الاعتصامات من كونها، فقط، مجازر ارتكبتها سلطة غير شرعية، بقصد إنهاء عصر الجماهير، بوصفها قوة ضاغطة، ومانعة للاستبداد، إلى اعتبارها، بالقدر ذاته، جريمة نخبة، من السياسيين والمثقفين والإعلاميين، كان إسهامها في إراقة الدماء أكبر بكثير ممن ضغط على الزناد، مفرغاً الرصاص في أجساد الضحايا، أو أمر ببدء المذبحة، أو اختار لها ساعة الصفر.
إسهام هذه النخب المنحطّة، من سياسيين ومثقفين ملء السمع والبصر، كان أضخم، ذلك أنهم لعبوا الدور الأكبر في الضغط على السلطة، لكي تفضّ الاعتصام وتبيد المعتصمين، وكلما كانت تلوح بادرة حل سياسي، تصعّد هذه النخب من ابتزازها واتهامها الأمن بالتقصير والتراخي وتعريض مصلحة البلاد للخطر، بتباطؤها في فض الاعتصامات.
والحاصل أن الاعتصام الذي سخرت منه تلك النخب الدموية في البداية، واعتبرته مجرّد تجمع صغير لمجموعة من المجانين، في إشارة مرور صغيرة، قد فاجأ الجميع بقدرته على التمدّد والاتساع، حتى صار يحاصر سلطات الانقلاب، أخلاقياً وسياسياً، على نحو أشد وطأة من حصار المجنزرات والبلطجية للمعتصمين، إذ، وبمرور الوقت، نجحت هذه “الإشارة الصغيرة” فى فرض واقع سياسي على جميع الأطراف، وأثبتت أن مغامرة الثلاثين من يونيو لم ولن تمر كنزهة أو نزوة عابرة من المتعطشين للقفز على السلطة واختطافها.
وقد سجلت في الليلة السابقة لجريمة فض الاعتصام، تحت عنوان “هلاوس ليلة الفض”، أن حزمة الأكاذيب المستخدمة في تشويه وشيطنة الاعتصام تحولت إلى نوع من الهلاوس، مع التسريبات الخاصة بتحرك القوات لافتتاح الحرب ضد الاعتصام، إذ استدعت جوقة الانقلاب كل احتياطيها من الهلاوس القديمة والجديدة والمجدّدة، وراحت تردّد ما ثبت كذبه وزيفه قبل ذلك من عينة أخبار وحواديت الجثث الطافية فوق مياه محيط رابعة الأطلسي، أو المدفونة تحت الكرة الأرضية، إلى آخر هذه المحفوظات الكاذبة عن جهاد النكاح وحد الحرابة وأسلحة الدمار الشامل، ما يكشف عن حالةٍ من الإفلاس الفكري والأخلاقي داخل معسكر الانقلاب.
وتحتفظ ذاكرة الدم بنماذج من بعض النخب، تجاوزت مرحلة “العسكرة” التقليدية، لتطل في ثياب رادوفان كاراديتش، زعيم الصرب صاحب أكبر سلسلة من مجازر الإبادة الجماعية في القرن الماضي.. والذي كان أديباً وطبيباً متخرجاً في جامعة كولومبيا، قبل أن يصير داعية قتل وإبادة.
وأكرّر أننا عشنا، في تلك الأيام الصعبة، نوعاً من الليبرالية المتوحشة، لا يستشعر أصحابها وخزاً لضمائرهم، وهم يوفرون الغطاء السياسي والأخلاقي لقرار حكومة الانقلاب بمحو اعتصامي ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر من الوجود، بل يذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، حين يتهم الأجهزة الأمنية بالتراخي، لأنها تصمت على هؤلاء الأوغاد المعتصمين بأطفالهم وبناتهم ومسابحهم وتهجداتهم ودعائهم على القتلة، وعلى من صفق وابتهج للقتل من مصاصي الدماء المختبئين خلف تهويماتهم الفكرية الفاسدة.
رصدت وقتها أن أحد الليبراليين العواجيز، المفصول مبكراً جداً من كلية الشرطة في نهاية الستينيات، لأسبابٍ هو يعلمها، لم يخجل من نفسه، وهو يطالب بالأحكام العرفية وحظر التجول والسحل لمن يعترض.
وكان هناك من الليبراليين من قبل على نفسه أن يمارس الكذب والتضليل، وهو يبرّر القتل الجماعي لمصريين، مسقطاً من حساباته كل ما سبق وبشّر به بأن القيم والمبادئ لا تتجزأ، وأن امتهان كرامة وحق إنسان واحدٍ في الحياة، تعني امتهاناً للإنسانية وقتلا للكرامة، ليحدثك بالمنطق التجاري الوضيع، مردّداً عباراتٍ منحوتة من قاموس الطغيان والتوحّش، مثل “لا مانع من التضحية بمجموعة كي ينعم المجموع بطيب العيش”، أو أن يثغو آخر بأنه لا بأس من إراقة دماء، ثمناً لتطهير مصر من أعدائها المصريين، ورفع رايات علمانيتها.
في الإجمال، يمكن توصيف مأساة “رابعة العدوية” بأنها تلك المذبحة التي نفذتها سلطة، بناءً على طلب، أو استجابة لتحريض، أو استغلالاً لضغوط، من غلاة الفاشية في مجموعات من النخب السياسية الفاسدة، حفرت قنوات، بمخالبها، وطلبت من السلطة أن تملأها بالدماء، وقد قبضت أثمان تحريضها على الدم، مناصب في مؤسساتٍ ومجالس تدّعي دفاعها عن حقوق الإنسان، وتحاول التخلص من ملامح “دراكيولا” التي كانت تتسابق على إظهارها أيام الاعتصام، وترتدي أقنعة القديسين والرهبان والدعاة والوعاظ الآن، وتشعل النار في “أرشيفاتها” المكتوبة بأحبار العنصرية السوداء.
وأزعم أن شهادة المستشار رئيس محكمة جنايات القاهرة، بالإضافة إلى شهادة، لا يزال يحجبها الدكتور محمد البرادعي، نائب ما يسمى “رئيس الجمهورية المؤقت” في تلك الأثناء، تصلحان لمخاطبة الضمير العالمي، كي يتم فتح تحقيق في واحدةٍ من أبشع مجازر القرن.