الحج عرفه

download

 

{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ }البقرة
جاء فى الحديث ـ ( أنظروا إلى عبادى جاءونى شعثاً غبرا من كل فج عميق أشهدكم يا ملائكتى إنى قد غفرت لهم )
انظر إليهم وتأمل وتخيل الملايين الآتية من بعدهم كل عام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين ، هذه الأعداد الضخمة والأفواج الهائلة كلها نتيجة جهد فرد واحد ، وعمل فرد واحد فى عصور مختلفة … فهذا إبراهيم عليه السلام ينادى فى الناس بالحج وهو فرد واحد ، وتمثل هذه الملايين الاستجابة لندائه … أنظر إلى خاتم الرسل محمد وهو فرد واحد يواجه عالماً بأجمعه وكوناً بأكمله … ثم تكون هذه الملايين ثمرة جهده وحصيلة عمله .
وفي الموكب الإلهي ، وفي الركب الروحاني ،
وفي مسيرة الإيمان ، تتوجهون إخواني وأخواتي الحجاج بين الزحام المتكاثف ،
وسط الجموع الصاخبة ، وخلال الكتل الزاحفة ، قاصدين عرفات ،
متجردين من الملابس إلا من إزار ورداء أبيضين يتساوى فيهما الغني ذو المال الوافر والجاه العريض بالفقير والمسكين ؛ لنتذكر جميعًا ذلك الكفن الذي يلُفّنا عند وداعنا الأخير. إن هذا الزحام المائج يذكرنا كذلك بيوم الحشر وما فيه ، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .
في عرفات تذوب الطبقية ، وتتلاشى التفرقة ، وتتجسد المساواة الحقة ، المساواة الصادقة ، المساواة الخالية من كل تكلف أو خداع ، المساواة التي فقدت في العالم المتحضر ، وضاعت في دنيا المدنية الزائفة .
عند الصعود إلى عرفات يتسابق الحجاج ويتنافسون . يتسابقون إلى ربهم ،
ويتنافسون في كسب رضاه . في عرفات ينسى المؤمن الدنيا وما فيها من متاع ، ويهجر الحياة بما تحويه من ترف وملذات ، لا يهمه لفح الهجير ، أو وهج الشمس ، ولا يمنعه شدة برد ، أو هطول مطر ؛ لأنه خرج من نطاق البشرية إلى رحاب الروحانية ؛ لأنه انسلخ من المادية إلى عالم المعنويات ؛ لأنه تجرد من تربيته ليصعد إلى الملأ الأعلى من الملائكة ، وينتظم في صفوف الأبرار .
في عرفات لا يقع البصر في مكان ، إلا ويرى عابدًا يتبتل ، ومذنبًا يتوجع ،
ومؤمنًا يخشع ، ومصليًا يركع ، وعاصيًا ذا عين تدمع ، فكأنه بحيرة قدسية تغسل الآثام ، وتمسح الخطايا ، وتمحو السيئات .
ولم لا أيها الإخوة والأخوات ؟!
والله تعالى يتجلى لأهل الموقف بالرحمة والغفران ،
ويباهي بهم ملائكة الأرض والسماء ،
ويشهدهم أنه قد غفر لهؤلاء الذين أتوا من كل فج ضاحين غبرا شعثا !
لم لا ،
وهذا اليوم أفضل الأيام على الإطلاق ! لم لا وإبليس ما رؤي في يوم أغيظ ولا أحقر ولا أدحر منه في هذا اليوم ، إذ يرى ما ينزل الله على العباد من رحمات !
لك الله يا عرفات !
يومك يوم نور
، ويوم رحمة
. يوم بركة
، ويوم عطاء .
يوم تبتسم فيه الآفاق ،
وتشرق الأكوان ،
ويعم الغفران ،
فيندحر الشيطان .
إذا تذكرت ذلك أخي الحاج الكريم “
فألزِمْ قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل ، لتحشرَ في زمرة الفائزين المرحومين ، وحقِّق رجاءك بحسن الظن بالله ؛ فالموقف موقف إجابة ؛ ولذلك قيل: إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له . وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج ، وغاية مقصوده ، فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد .
كأني بكم أيها الإخوة الحجاج تسألون عرفات عن هذه الأمجاد التي اعتلت ذروته ،
وتلك الكتائب الأولى التي عاشت على سطحه فترة من الزمن ، وكأني بالجبل الرحيب يقول : كانوا أبطالاً أفذاذًا وجنودًا بواسل . كانوا أنقياء أطهارًا ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعًا سجدًا ، يبتغون فضلاً من الله ورضوانًا ،سيماهم في وجوههم من أثر السجود . فرضي الله عنهم ورضوا عنه ، وذلك هو الفوز العظيم .
كأني بالجبل الأشم يذكّرنا أيها الأحبة بالقائد الأعظم ، بالزعيم الأكبر ، بالمرشد الملهم ،. محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
وهو يلقي أسمى خطاب في الوجود ، وأخلد حديث على صفحات الزمان ، وأظهر دستور عرفه التاريخ في حجة الوداع . يرسم للبشرية طريق خلاصها ، وسبيل مجدها ، ودروب سعادتها ، ويسكب في أذن الدنيا أصدق قانون ، فيه صلاح المجتمع ، وكرامة الإنسان ، ويتلو عليهم قول الله تعالى
 الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا .
نسأل الله أن يجعلنا في يوم عرفة من المغفورين .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...