نعمة الإيمان .. سعادة الدنيا ونجاة الآخرة

download

 

الإيمان يحول الحياة كلها إلى جنة خضراء، كأنما الإنسان في بستان تجري من حوله الأنهار، وتزينه الأزهار، ويستمتع بضلال الأشجار، ويتناول لقطف تلك الثمار، كأنه ما مسه من ضر، ولا لقي في هذه الحياة من عناء، كما أخبر النبي صلي الله علية وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير”. وقال في حديث آخر: “عجبًا لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر، وإن أصابته ضراء صبر، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن”. ففي كل الأحوال هو يرى نور الله عز وجل ويرى حكمة قدر الله عز وجل، ويسلم لأمر الله عز وجل ويبتغي في السراء وفي الضراء رضوان الله عز وجل ويلتمس أجر الله عز وجل، حتى الشوكة يشاكها العبد المؤمن يكفر الله عز وجل بها من خطاياه.. فما أعظم هذه المنة!!

إنها نعمة لا تدانيها نعمة، ولا توازيها منة، عندما ينشغل الناس بجمع الأموال والثروات، وينشغل العبد المؤمن بجمع الأعمال الصالحة والحسنات، يلتمس أجرًا هنا، ويلتمس حسنةً هناك، كما كان أصحاب محمد صلي الله علية وسلم لا يتنافسون على غنائم الدنيا، وإنما -كما في حديث أبي ذر -: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ويتصدقون بفضول أموالهم. جاءت الحسرة في نفوس الصحابة على ذلك الأجر والثواب الذي لا يستطيعونه.

فقال لهم النبي -عليه الصلاة والسلام- مسليًا وفاتحًا آفاقًا وأبوابًا من الخير عظيمة: “أوَليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به؛ كل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة؟” وذكر أبوابًا من الخير عظيمة، ثم ماذا؟ رجع القوم بعد ذلك مرة أخرى فقالوا: يا رسول الله، سمع إخواننا ما قلت ففعلوا مثلما فعلنا. قال: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.

كان القوم إنما همهم أن يجمعوا رصيدًا يحظون فيه برحمة الله عز وجل، ويتأهلون فيه لنيل رضوان الله عز وجل، وأن يشملهم بواسع رحمته، وأن يتغمدهم برضوانه ومغفرته .

وقد ورد في صحيح مسلم عن حال الصحابة أنه أحدهم كان لا يجد الصدقة يتصدق بها، فماذا كان يصنع وقد عذره الله عز وجل؟ قال: فكان أحدنا يحتمل الحمال -عنده قوة بدن- فيعمل حاملاً لا ليتوسع في الرزق، ولا ليرفع من مستوى المعيشة، ولا ليزيد في الأرصدة، ولا ليؤمِّن المستقبل -كما يقول الناس اليوم- ولكن يحمل الحمالة؛ ليجد ما يتصدق به بين يدي الله عز وجل.

ما أعظم هذه النفوس وهذه الغايات! سعادة عندما يقدم لله عز وجل.. سعادة عندما يفرّج كربة أخيه المسلم، سعادة عندما يتابع النبي صلي الله علية وسلم، ثم ما أعظم أن ينشغل الناس بسفاسف القول كذبًا ودجلاً.. نفاقًا وتذمرًا.. وغيبة ونميمة، ولا تزال أنت -أيها العبد المؤمن- مرطبًا لسانك بذكر الله.. مسبحًا لمالك السموات والأرض .. ما تزال تستغفر كما كان المصطفى صلي الله علية وسلم يستغفر في اليوم والليلة سبعين مرة، وفي روايات أخرى مائة مرة.

ما تزال تلهج بذكر الله عز وجل متبعًا وصية رسولك صلي الله علية وسلم “لا يزال لسانك رطبًا بذكر الله”. وكذلك تشنف أذنك، وترطب لسانك بتلاوة القرآن، والناس ساهون لاهون، وفي غيهم يعمهون، وأنت تثلج صدرك، وتطمئن قلبك، وترطب لسانك بتلك الآيات العطرة، في صخب هذه الحياة الزائلة.. في هذه الأعصر التي كثر فيها قول الباطل.

يبقى المسلم متميزًا؛ لأنه لا يفتر ولا ينأ عن ذكر الله عز وجل، ويشعر بمدى التوجيه الإلهي الرباني الذي جاء مؤكدًا ومطلقًا؛ مما يدل على آفاق واسعة من هذا الأمر العظيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]. أي لا حد له ولا منتهى ولا وقت ولا زمان، ولكنه في الليل وفي النهار.. تسبيح في الغدو والآصال.. ذكر ودعاء لله عز وجل تستفتح فيه يومك وتفتح لك فيه أبواب الرضا، وأبواب الهناء، وأبواب الرزق وأبواب السعادة في الدنيا، وتختم به ليلك ونهارك ويومك، فإذا بك تطمئن في كنف الله، وإذا بك تبيت في حفظ الله، وغيرك قد تسلطت عليه المردة والشياطين، وذاك يمسه جن، وذاك يركبه شيطان وأنت محفوظ بإذن الله عز وجل، ما أعظم هذه السعادة! وما أجل هذه النعم والمنن!

والناس في ليلهم صاخبون، وبعضهم في المعاصي غائصون، ويحيون السهرات الماجنة، ويعيشون مع الأفلام الداعرة، وأنت -أيها العبد المؤمن- في خلوة من صخب الحياة إلى هدوء الليل، وقمت تختلس تلك الركيعات بين يدي الله عز وجل في ذلك الوقت الذي هو أعظم وقتًا، وفيه أعظم منة، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام: “ينزل ربنا إذا بقي الثلث الأخير من الليل فينادي: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ وذلك الدهر كله”.

فكيف يحظى أولئك الغافلون وأولئك العاصون بهذه المنن؟ إنهم عنها -والله- لمحرومون، وأنت إن كنت من أهل الليل.. إن كنت من أهل مناجاة الأسحار.. إن كنت من أهل ذرف الدموع في تلك الأوقات الفاضلة، المكثرين من التلاوة والأذكار، المداومين على الدعاء والاستغفار؛ فإنك حظيٌّ وحريٌّ بأن تنال موعود النبي صلي الله علية وسلم: “أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا جنة ربكم بسلام”.

ما بال الناس يستيقظون وعلى وجوههم قتر وفي جباههم تجهّم؟! والمؤمن الوحيد كما أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- هو الذي ينشرح صدره، ويبدأ يومه بهذه العبادة والمناجاة لله عز وجل، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم “يضرب الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة يقول: نم عليك ليل طويل. فإذا استيقظ وذكر الله انحلت عقدة، فإذا قام وتوضأ انحلت الثانية، وإذا صلى انحلت عقده كلها وأصبح نشيط النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان”.

أنت- أيها العبد المؤمن- بيدك مفاتيح السعادة، بين يديك خيرات وثروات عظمى، فيها سكينة النفس، وطمأنينة القلب، ولذة الحياة، وحسن القول، وجميل ما يصنع، وأحسن ما يعمل من الأعمال الصالحة، فما أعظم هذا التميز وهذا التأهيل الذي يمكن للعبد المؤمن أن يكون فيه فريدًا بين كل من لم يكن على منهج الله عز وجل؛ وما بالنا حرمنا هذه النعم؟ لأننا لم نرتبط بها حق الارتباط، ولم نؤدها حق الأداء، لم نشعر بتلك اللذة التي كان النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول فيها: “وجعلت قرة عيني في الصلاة”.

منتهى السعادة، منتهى السرور، منتهى الانشراح، منتهى الإقبال واللذة في تلك العبادة! فأي أحد لا يحب الإقبال على ما يسره مما يحبه ويميل إليه قلبه؟! إنه إذا وجد شيئًا يحبه أقبل عليه وتعلق به، وبذل لأجله كل شيء، ولذلك كان -عليه الصلاة والسلام- إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة فإذا بالطمأنينة، وإذا بالسعادة، وإذا باليقين الراسخ ينبعث في القلب من جديد، ويحيي في النفس حياةً قوية راسخة؛ ولذلك كان يقول رسول الله صلي الله علية وسلم: “أرحنا بها يا بلال”.

فلنرتح من تعب الحياة، ومن سخطها في ظل العبادة والخشوع والخضوع لله عز وجل؛ فإن هذا طريق -بإذن الله عز وجل- موصِّل إلى سعادة الدنيا، وإلى نجاة الآخرة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...