عزت النمر :
على مدار سنتين حاولت أن أكتب عن مذبحة رابعة وعجزت نفسي واستعصى عليَّ قلمي؟!.
لست مشغولاً في حقيقة الأمر بتفسير ذلك العجز وإن كنت أستميح لنفسي فيه عذرا وسببا.
أما العذر هو أنني لم أشهد هذه الأحداث فقد كنت حبيس سجن الوثبة في الإمارات من قبل الإنقلاب بشهر ولم أخرج إلا بعده بعدة أشهر حينما تم تسليمي إلى أمن الدولة المصري بمطار القاهرة.
الغياهب والزنازين الإنفرادية لسجن الوثبة سيئ السمعة حالت بيني وبين الحياة وما فيها، فلم أعلم بالانقلاب ولا أحداثه ولا ما تلاه من جرائم والمذابح إلا بعد الانقلاب بشهور طوال.
فكان عذري أنني لم أعش هذه الأحداث, وحُكيت حكايتها لي مجتمعة فاختلطت فيها التواريخ والتراتيب. وتملكني الذهول حينئذ لمَّا سمعت تفاصيلها.
أما عن السبب فإنني أجد في نفسي عزوفاً وعدم رغبة في المشاركة في هذا البكائيات المستحقة وتداول تلك الروايات الدامية الحزينة.
ما أجده في نفسي حقاً هو رغبة عارمة لأن أوجه حديثي إلى الشباب في ذكرى هذا الحدث الفارق.. وهذا أمر ذو شجون في كلا شقيه سواء أن تتحدث مع الشباب أو حين تخوض في ذكرى رابعة وأخواتها.
وأبدأ حديثي بسؤال الى الشباب بعد سنوات ثلاث من مذبحة رابعة .. أين أنتم من رابعة؟!
أتفهم أن تبكي النساء ــ وليس كل النساء مازلت تبكي ــ فهل مازلتم تبكون؟!..
أتفهم أن ينكسر خاطر كثير من كبار السن والعجائز ـــ بعضهم قد تجاوز ذلك ـــ .. فما بال خواطر أصحاب الهمم.. هل مازالت كسيرة؟!
أتفهم أن إحباطاً قد نال من كثير من واهني العزم وقليلي الحيلة.. فكيف بمن هم مظنة العزائم.. حدثوني عن عزمكم وإرادتكم؟!
إذا جاز لي أن أخاطب الأيتام والأرامل بأنه لا عزاء فوق ثلاث.. فبأي لسان أخاطبكم وأحادثكم؟!
سنوات ثلاث كاملة يمكن أن تقضيها المرأة تبكي راحلاً لأنه كان شريفاً وشفوقاً وعظيماً.
لكن للرجال شأن آخر.. فلا يجب أن يعيش الرجال طويلاً في سرادقات العزاء ..
أهل البدع وعشاق التباكي هم من أحدثوا في العزاء “الأربعين”.. هؤلاء ليسوا منا ولسنا منهم.
أما شباب نتأمل فيهم إصلاحاً لحالنا وتقويماً لأوضاعنا فننتظر منهم أن يكونوا ـــ في عزاءات الأمة ـــ أعجل من ذلك وأحكم..
اذا انشغل الكبار والعجائز بالماضي وهذا دأبهم.. فأين أنتم يا شباب من المستقبل وهو واجبكم وحقكم؟!
اذا شُغِل القوم بالحسابات المعقدة وأقعدتهم الحِكمة والحرص على التاريخ.. فما الذي يشغلكم؟!
اذا حَبَسِت العبرات هؤلاء وأولئك وأعجزتهم.. فستسألون أنتم عن جلدكم وحماستكم..
أينت هي حماستكم؟! وفيم تصرفون فُتُوَتكم وهِمَمكم وعزائمكم؟!
أين أنتم من الميراث الخالد الذي تركه الراحلون في رابعة والذين لا يزال الجميع يبكونهم؟!
شهداء رابعة ـــ وغيرها ـــ الأبطال لم يتركوا ميراثاً من الحوارات أو النظريات أو التلاوم والجدل.
إنما تركوا وصايا بالتضحية والعطاء وخَلَّفُوا ميراثاً من العمل والأمل .. فأين أنتم من هذا وذاك؟!..
إياكم أن تصرفوا حماستكم في لوم الكبار وأصحاب الحسابات.. فلهم في موقفهم عُذِر!!.
إياكم أن تنتظروا من الآخرين أن يرسموا لكم دوركم .. ففيم شبابكم إذن ؟!
إياكم أن تقعدوا في صالة انتظار التكليفات .. فليست مكاناً يليق بكم!!
إياكم أن تعودوا من المحرقة بالبحث عن عُذْر.. فمن يبحث عن دور وإقدام وفتح إن أنتم بحثتم عن عذر؟!
إياكم أن تنتظروا مني في هذا الخطاب الحَالِم أن أدلكم على الطريق!!
ستنتظروا إذن كثيراً .. فلست إلا واحداً من القَعَدة أو في أحسن الأحوال من أصحاب الحسابات!!
أنا فقط أدُلكم على أنفسكم وأصرف أبصاركم إلى حيوية الشباب فيكم، وأستنهض فيكم ذاتية المبادرة وأطالبكم أن تُفَاجِئوا الجميع بأفكار غير تقليدية تأتي بحلول حاسمة تفض المشهد وتفرض كلمة الفصل فيه.
وأُذَكِّركُم أن .. وسائل التواصل الاجتماعي ليست لذرف العَبَرات أو بث الشجون ولا لجمع اللايكات والتعليقات والتفاخر بأعداد المتابعين!!،
إنما هي ــ عند أصحاب الهِمَم ــ لتجميع الطاقات واكتساب الخبرات واكتشاف المهارات وفتوح الأفكار وتكوين الأرصدة وإنشاء واعتماد بنك للأهداف.
فهل تعرفون ذلك وتسعون اليه وننتظركم؟! .. أم يكون لنا في دعاء العاجز الى السماء ساحة انتظار وطول أمل؟!
الراحلون من أمثالي والقاعدون من جيلي وأصحاب حسابات الحكمة من هؤلاء وأولئك حَوَّلُوا رابعة إلى حائطاً للمبكى.. فهل أنتم قادرون يا فتية الثورة وشباب الوطن .. أن تجعلوا منها منطلقاً للبراق؟!