لا يعجبني أولئك المحللين التقليديين الذي تعودوا أن يُحللوا الأحداث من نهايتها بحيث تستحوذ النتائج فقط على قراءاتهم وتحليلاتهم، فالمنتصر عندهم هو السيد القوي الذكي الذي يُرفع إلى السماء، وأن الخطايا والأخطاء والملامة والتوبيخ يدمغون بها كل مغلوب حتى وإن كانت هزيمته غدراً في معركة غير متكافئة وبتواطؤ دولي مريب.
الحدث التركي يقرع هؤلاء ويرجمهم ويطالبهم أن يحملوا فكرهم الآسن وعقولهم البليدة ويرحلوا، لأنه يقول وبوضوح أنه اذا كانت المحاولة الانقلابية قد نجحت فإن ذلك لا يقلل أبداً من نجاحات تُحسب للزعيم أردوغان، كما أن فشل الانقلاب الحالي ليس لجهة ما لا لأردوغان ولا للشعب التركي الا عوامل نسبية وربما ليست عوامل الحسم والتمكين.
رسالة هامة وبارزة يرسلها الحدث هي أن العامل الأكثر حسماً هو عامل سلبي يخص الانقلابيين أنفسهم، ويبدو أن المحاولة الانقلابية لم يحسن الإعداد لها، فمن غير المقبول أن إعداد لانقلاب في دولة بها زعيم مثل أردوغان ولا تكن الخطوة اللأولى في هذا الانقلاب هي ربط هذا الأسد وتقييد هذا الزعيم وتغييب هذا القائد من مشهد الصراع.
أعتقد كذلك أن السذاجة كانت سمة الانقلابيين في احتلال مواقع حيوية وترك رموز سياسية حرة طليقة مثلا رئيس الوزراء والوزراء ورموز حزب العدالة والتنمة مما يشي بأنها كانت محاولة متعجلة، وأنها حملت في طياتها أسباب فشلها والإسراع به، ليس هذا فحسب لكنها قد تكون قد كتبت خاتمة لما يسمى بالانقلابات العسكرية في تركيا، وإن كان الأمن لذلك والاطمئنان له والركون إليه أمراً غير محمود.
رسالة قوية من الحدث كذلك تلك المفاجأة الداوية التي قدمتها الشرطة التركية والقوات الخاصة وقوات مكافحة الشغب بهذا الأداء العالي والوطنية العالية والاحتراف المكين، حتى أننا يمكن أن نقول بملئ الفم أن الشرطة التركية والأمن هما بطلا المشهد بجدارة وأنه الحصان الأسود لمشهد تركيا الآني وربما في مستقبلها القريب.
حقيقة أخرى ترسلها الأحداث أن الأداء السياسي والاقتصادي أردوغان الزعيم لثلاثة عشر سنة والتغييرات الأمنية والعسكرية التي قام بها خلال هذه المدة الطويلة نسبياً لم تمنع محاولة إنقلاب كادت تنجح عليه.
هذه الحقيقية تصدم البعض وتلعن وجوههم وتُكَذِّب إدعاءات كل من يلمز الرئيس محمد مرسي أنه كان ضعيفاً وأن ذك كان سبباً للانقلاب عليه.
الأحداث تفضح أولئك وتشي بعدم عدالتهم وأن أحقاداً ما ومواقف مسبقة تحكم تصرفاتهم تجاه زعيم أدى كل ما عليه في فترته القصيرة وظروفه الصعبة التي واجهها في سنته التى قيل أنه حكم فيها.
أعتقد ــ وهذا الأهم ـــ أن الحدث التركي يبعث بالرسالة الأهم لمفردات وقيادات وسيطة داخل الجيش المصري تقول لهم أن انقلاب السيسي شأنه شأن كل انقلابات الغدر مآلها إلى الفشل ومصير قادته إلى المحاسبة والقصاص ، وأن على كل قيادات الجيش الوسيطة أن يتلقوا رسالة الحدث ويعلموا أنه مازل أمامهم فرصة لتبرئة أنفسهم والنجاة بأنفسهم من هذه الخيانة والعمالة بعمل شيئ لمواجهة ذلك، خاصة وأن انقلاب مصر تقودة مجموعة من زبالات البشر وعجزة القوم وسفهاء العسكر لا يملكون كاريزما ولا زعامة أو لا فكر أو إدارة.
هناك رسالة يجب ألا تغيب عن كيانات ثورتنا وإدارتها وتشكيلاتها أن قوات ما أشبه ما تكون باللجان الشعبية ينبغي أن تتكون وتتشكل وتعد نفسها لدور ما. بطبيعة الحال هذه القوة ليس لمواجهة الجيش لأنها مواجهته ستكون مغامرة ومقامرة
ولكن سيكون عليها تحرك ما واجب وضروري في أياً من حالين نتوقعهما, الأول دعماً شعبياً لقطاع من الجيش إذا ما تحرك رفضاً للانقلاب, والثاني تأميناً وحماية للشعب إذا ما تحرك غضباً من واقعه الاقتصادي وتداعيته القاسية.
ثمة رسائل تدعو الى البشاشة والفرحة ــ والغبطه لهؤلاء وتمنيات لنا بمثل ــ لا تغيب أو تخفي في المشهد, صورة العسكريين ببزاتهم المموهة وهم مقيدون مكبلون يقودهم المدنيون في صورة من صورة العزة الواجبة للمواطن المدني كامل الأهلية. في الوقت الذي تسقط فيه كل وطنية أو أهلية عن العسكري طالما انقلب على مدنية الدولة ونظامها السياسي وإرادة شعبها وديمقراطيتها.
كذلك رسالة تقدير وإعجاب تتملك المرء وهو يرى حشوداً هائلة وملايين من الأمة لم يداعب النوم أجفانها وتابعت الحدث، والمثير للاهتمام والرصد أن هؤلاء حملوا هم المبادئ بأكثر مما حملوا هم الأشخاص ووكانت غيرتهم على القيم بأكثر ما كان تخوفهم على أقرباءهم وذويهم، رغم ما للرحم والقربى من ضغط وأثر، وذلك علامة على عافية الأمة وبشارة من بشارات نصرها القريب وفتحها المبين الوشيك.
تلك الجموع الحاشدة من أحرار الأمة عاشت لحظات شديدة يعالجون إحباطاً حقيقياً تملكهم ولهم في هذا كل العذر، حيث أن سقوط الظهير التركي للأمة والثورة ليس أمراً سهلاً ولا ميسوراً.
وحُق لهؤلاء أن يفخروا فرحاً واعتزازاً أن يأساً منكوراً لم يتسرب إلى نفوسهم ونفوسنا, أما من تسرب اليأس إلى نفسه فليراجع إيمانه بقضيته وثقته في نصر الله وقدرته الغالبه لها، وليعلم هؤلاء أن جهوداً واجبةً عليهم أن يبذلوها وأن سعياً حثيثاً عليهم أن يقدموه أما النتائج والمآلات والخواتم أمرها إلى الله الغالب وأن للثورة رب يحميها.
أعتقد كذلك أن على قدر ما عاشه الشعب التركي وكل المؤدين للديمقراطية من قلق وترقب وخوف في الساعات الأولى للمحاولة الانقلابية بقدر ما كانت الفرحة والزهو والاحتفال والكرنفالات بمجرد أن غارت الغمة وانجلت الأزمة. هذا يدعوننا إلى أن ننتظر أفراحاً صاخبة ستغمرنا حتما يوما ما قريب حينما تنتصر ثورتنا لأننا ليلنا كان طويلاً ولأن جراحاتنا كانت شديدة ومازالت عميقة وضحايانا كانوا ومازالوا غير قليل.
الرسالة الأخير والأعلى صوتا في مآلات الحدث التركي وصلت وبمنتهى الوضوح وتقول : أيها المصريون لا تيأسوا وتحركوا وقدموا لثورتكم وترقبوا ساعة النصر فما هي منكم ببعيد.