بقلم: حازم عبد الرحمن
في سابقة هي الأولى منذ عام 2011 , حجب البرلمان التونسي الثقة عن تشكيلة حكومة الحبيب الجملي، المكلف من حركة النهضة الحزب الفائز بأكبر عدد من مقاعد البرلمان البالغ 217 مقعدا, يلزم الحكومة لنيل ثقته 109 مقاعد لدى النهضة منها 54 فقط, وقد أعلنت أحزاب “قلب تونس” (38 مقعدا) و”تحيا تونس” (14 مقعدا) و”المستقبل” (9 مقاعد) و”الكتلة الديمقراطية” (41 مقعدا) و”الإصلاح الوطني” (15 مقعدا) و”الحزب الدستوري الحر” الموالي للنظام البائد والثورة المضادة (17 مقعدا)، مبكرا أنها لن تصوت لحكومة الجملي، في حين أعلنت كتلة “حركة النهضة”، و”ائتلاف الكرامة” (21 مقعدا)، أنهما ستمنحان الثقة لحكومة الجملي, وبحسب النتيجة التي أعلنها رئيس البرلمان راشد الغنوشي، فقد صوت 134 نائبا على عدم منح الثقة للحكومة، مقابل موافقة 72 نائبا، فيما تحفظ 3 نواب على التصويت, وهو ما يعني أن رئيس الجمهورية قيس سعيد سيقوم بتكليف شخصية وطنية مستقلة بتشكيل الحكومة سيتم الإعلان عنها فيما بعد.
وبالطبع فإن حجب الثقة عن حكومة الجملي ليس عملا كارثيا, بل هو حق أعضاء البرلمان, حيال تشكيلة رئيس الحكومة المكلف الذي اختار شخصيات مستقلة عن الأحزاب؛ لكن حجب الثقة من ناحية أخرى مثل خذلانا لحركة النهضة من جانب الأحزاب المحسوبة على الثورة, ومع ذلك فإن ما جرى في البرلمان التونسي من نقاش حول الحكومة يمثل شهادة للتجربة الديمقراطية في تونس, حيث تقوم الحكومات وتسقط بآراء نواب الشعب وليس بالانقلابات، وهذا هو العنوان الأبرز للثورة التونسية، وهو تحول كبير بلا شك. وقد ترددت أخبار عن تدخلات إقليمية، وخصوصا مع تطورات الأوضاع الجارية في ليبيا، وأن هناك أموالا استخدمت لحجب هذه الحكومة، وهذا ليس مستبعدا في ظل بدايات انحسار موجة الثورة المضادة ومخاطر ذلك على مشاريع راعيها الأول ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد, وهو ما يعني انهيار حلم وأد الربيع العربي, الذي تمثل تونس حالة نجاحه الأولى والوحيدة حتى الآن, وفي ظل وجود أحزاب موالية لنظام زين العابدين بن علي البائد, وأخرى تطال قياداتها اتهامات موثقة بالفساد.
*المشهد الحزبي
يعيش الرأي العام التونسي حالة من الإحباط, بسبب التحديات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة، التي ستواجه أي حكومة مقبلة, وقد كانت حالة الإحباط سببا في تراجع شعبية كل الأحزاب السياسية في الانتخابات التشريعية التي جرت في6 أكتوبر 2019 , فقد كانت حركة النهضة قد حصلت في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي عام 2011 على 89 مقعدا داخل المجلس. وفي أول انتخابات تشريعية تجري بعد إقرار دستور 2014، حصلت على 69 مقعدا. ولكن على الرغم من أن “النهضة” ظل الأكبر في مجلس النواب، إلا أنه خسر 15 مقعدا بالمقارنة بنتائج انتخابات 2014؛ وشمل التراجع جميع الأحزاب التي شاركت في السلطة, وكان أداؤها غير مرض للشارع الذي يعاني أزمة اقتصادية متفاقمة, صنعت شعورا جمعيا بفشل الحكومات والأحزاب السياسية؛ ما دعا بعض المرشحين في الانتخابات البرلمانية إلى رفع شعارات “مناش حزب” أي أنه لا ينتمي إلى حزب سياسي؛ بسبب ما طال الأحزاب من انتقادات لمشاركتها في حكومات ما بعد الثورة منذ 2011 وحتى الآن, وقد أسقطت الانتخابات حزب “نداء تونس” تماما, الذي أسسه الرئيس الراحل قائد السبسي, وتفكك الحزب وأصبح أثرا بعد عين, ولم يحصل حزب “تحيا تونس” الذي يتزعمه رئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي يوسف الشاهد إلا على 14مقعدا؛ وأعلن رئيس حزب آفاق تونس ياسين إبراهيم استقالته من رئاسة الحزب على خلفية الفشل الذريع للحزب في الانتخابات التشريعية؛ لذلك يمكن القول إن الأحزاب السياسية التونسية في امتحان صعب أمام الشعب.
وأمام هذا المشهد الحزبي المتأزم كان تشكيل الحكومة التونسية تحديا تجلت مظاهره في تصريحات قيادات الأحزاب الفائزة في الانتخابات؛ وأعلنت حركة “النهضة” وضع شروط تحدد ملامح تحالفاتها المقبلة بحيث لا تشمل حزبي قلب تونس المتهم بالفساد والحزب الدستوري الحر سليل الحزب الحاكم السابق في عهد نظام بن علي, وتقوده عبير موسى المعادية للثورة التونسية, ولذلك أكد المراقبون أنه ليس أمام الأحزاب والمستقلين الذين تم انتخابهم إلا تنحية خلافاتهم جانبا، واتخاذ خطوات سريعة لتعزيز المؤسسات الديمقراطية الجديدة في تونس، وتحسين الوضع الاقتصادي، وتجديد ثقة المواطنين في قدرة البلاد على استكمال الانتقال الديمقراطي. لكن هذا التأكيد لم يجد آذانا صاغية لدى نواب التيار الديمقراطي وحركة الشعب الذين بادروا بتشكيل كتلة برلمانية موحدة بينهما, أصبحت هي الثانية في البرلمان بـ 41 نائبا في البرلمان بعد النهضة, وقد تأكد مبكرا أن هناك صراعات في الأفق مع حركة النهضة, بعد أن كان من المتصور بحسابات الثورة والسياسة أن حركة النهضة وائتلاف الكرامة، و حزب حركة الشعب والتيار الديمقراطي يمكن أن يشكلوا الحكومة معا, لكن حركة الشعب والتيار الديمقراطي تعنتا من البداية ووضعا شروطا غاية في التنطع والتعسف؛ ما أدى إلى فشل حركة النهضة في التفاهم معهما ومع حزب “تحيا تونس”، وبالتالي عدم مشاركتهم بالحكومة الجديدة, وحجب الثقة عنها.
*مكاسب وخسائر
المكسب الأهم الذي حققته تونس منذ ثورتها على نظام بن علي البائد هو أنها نجحت في ترسيخ المسار الديمقراطي، على الرغم من المطبات والإخفاقات، وتفاقم الأزمتين الاجتماعية والاقتصادية، الذي يطال فئات المجتمع كافة، لكن فشل الأحزاب في التوافق على حكومة, بعد الانتخابات التشريعية ـ كما كان يحدث في السابق ـ يمثل خسارة لمبدأ الحرص على التوافق الذي كان سببا في اجتياز التجربة الديمقراطية بنجاح طوال السنوات التسع الماضية, ومن الناحية الأخرى قد يكون عدم تشكيل حركة النهضة للحكومة في مصلحتها, بعد إصرار التيار الديمقراطي وحركة الشعب على رفض التعاون مع حكومة جديدة تقودها أو تكلف بها “النهضة”, حتى لو كانت غير سياسية؛ مما يعفي “النهضة” من المسئولية السياسية عن الحكومة التي ستواجه الأزمتين الاقتصادية والاجتماعية, مع ما سيتبع ذلك من الهجوم عليها وعلى حكومتها, وتبقى في رئاسة البرلمان, لكن بعد ما حدث, لن يكون جانب أنصار الفساد والثورة المضادة في البرلمان مأمونا, من محاولات المشاغبة وإثارة الصخب حول رئاسة الغنوشي له, وهو ما بدت نذره في اعتصام عبير موسى والنواب المنتمين إلى حزبها تحت قبة البرلمان، وتهديدها بإيقاف أعماله، إثر مناوشات بينها وبين نائبة عن حركة النهضة, ومنها أيضا ما دعا إليه زعيم حزب قلب تونس نبيل القروي خلال لقاء صحفي مع بعض النواب من الأحزاب التي صوتت ضد الحكومة، معلناً تكوين جبهة تضم أكثر من 90 نائباً من أحزاب قلب تونس وتحيا تونس وحركة الشعب والإصلاح الوطني مع نواب مستقلين متعهداً بأن تتعاون هذه الجبهة مع رئيس الجمهورية لتحديد ملامح رئيس الحكومة القادم وأن يكون لها حزام سياسي في البرلمان, وقد بدا أن تصريحات القروي تهدف إلى قلب المشهد السياسي رأساً على عقب عبر تأسيس هذه الجبهة ما يجعل حركة النهضة في المعارضة، مقابل تحول أحزاب المعارضة إلى السلطة. إلا أن تصريحات القروي سرعان ما سقطت عبر تنصل حركة الشعب من الانضمام لهذه الجبهة, ورغم عدم تحقق ذلك فإنه لا يعني أن هؤلاء الخصوم المعاندين سيتوقفون عن إثارة الصخب في البرلمان, وصنع مزيد من التشتيت بين كتل النواب المؤيدة للثورة, ومن المهم التأكيد على خطورة عمل الأحزاب المحسوبة على الثورة في نفس اتجاه الأحزاب الموصومة بالفساد والارتباط بالثورة المضادة, لحرمان “النهضة” من رئاسة الحكومة .