الأمن السياسى والأمن الجنائى

عامر شماخ

فى الدول المستبدة، وفى أشباه الدول تنقلب الأوضاع، ويختلط الحابل بالنابل، ويضيع الحق أمام الباطل، ويصير المنكر معروفًا، والمعروف منكرًا، والمضطرب زعيمًا، والزعيم مسجونًا، ويتسيد البلطجى، ويتنعم الشاذ فى حين ترى الكرام حماة الفضيلة أسارى منبوذين.

والحال هكذا لا تهتم زعامات هذه الدول إلا بذاتها، وكرسيها وأمنها الشخصى، على حساب مصالح البلد وأمنه، وهم مضطرون لذلك؛ فإنهم لما قلبوا الأوضاع لم يستقم لهم الواقع؛ إذ الأمن فى العدل والقسط، والقوة والاستقرار فى اللين والرحمة، وما نام عمر قيلولته مستظلًا بشجرة خارج المدينة وهو فى حرب مع قوتين عظميين إلا بالاستقامة على أمر الدين، وخلو سلوكه من الظلم والفظاظة «حكمت فعدلت فأمنت فنمت يا عمر».

ينفق المستبدون على مخابئهم ومواكبهم وما يترتب على حماية حياتهم وكراسيهم فيما يعرف بـ«الأمن السياسى» ما يكفى لإقامة دول، ولو أنهم جاءوا برغبة شعوبهم لذهب هذا الإنفاق إلى مصارفه المشروعة، لكنهم اغتصبوا السلطة واغتصبوا معها أى شىء يظنون أنه يسهل لهم البقاء فى هذه السلطة.

يلخص «عم محمود» -صاحب تاكسى- هذه القضية بتلك الحكاية البسيطة: «سُرقتْ بطارية سيارتى، فاشتريتُ غيرها بنحو ألف جنيه، ونصحنى البعض بعمل محضر فى القسم، وبالفعل قمت بعمل المحضر ومعلوم أن هذا الأمر لا يتم مجانًا، بعدها بيومين سُرقتْ البطارية مرة ثانية، وسُرق معها بطارية فلان، وموتوسيكل علان -من جيراننا-؛ وذهبنا لعمل محاضر، لكن لم يتحرك أحد، ولن يتحركوا بعدما عرفنا أنهم ليسوا متفرغين لهذه الأمور الآن».

بالفعل-فإنهم يعملون الآن لصالح فرد واحد؛ فلا أمن إلا أمنه، ولا جهود شرطية إلا لحماية نظامه، ورجاله ووزرائه. كل الأجهزة الأمنية وغير الأمنية تعمل طوال الوقت لهذا الغرض، ويتم تسخيرها بعيدًا عن مهامها الأصلية؛ فضباط الأقسام فى «مأموريات» خارج دوائرهم، وضباط المرور يقومون بتفتيش تليفونات المارة تاركين الإشارات، وضابط المصنفات يشرف على كمين فوق أحد الكبارى إلخ.

ونتمنى أن تصدر وزارة الداخلية نشرة سنوية شفافة تبين عدد الأحكام الجنائية النهائية التى لم تُنفذ، وأن تبرر عدم تنفيذها، مع العلم أن آلاف القضايا تسقط سنويًّا لانقضاء المهلة ويضيع من ثمَّ حق الضحايا. لن تستطيع الوزارة تبرير شىء؛ لأن ضباطها المكلفين بهذا الأمر مشغولون الآن بأعمال «سيادية»؛ فتركوا تنفيذ الأحكام، وتركوا ملاحقة المجرمين، حتى صارت الخمور والمخدرات تباع علنًا على رءوس الشوارع، وصارت هناك صفحات للدعارة يتابعها عشرات الآلاف، وصار النصابون يطرقون الأبواب ويبتزون الضحايا ولا مجيب من قسم أو مديرية أو وزارة.

يتندر الناس الآن بجملة «بلد الأمن والأمان»؛ تعبيرًا عن سخطهم لما آلت إليه الأمور فى المحروسة، وكيف أن أحدهم ظل يستغيث بالنجدة طوال الليل من بلطجية اقتحموا عليه بيته ولا مغيث، ولو قال لهم فى منطقتنا «إرهاربى» يختبئ فى أحد المنازل، لهرعوا إليه من جهات عدة، ومن أجهزة مختلفة، تتبعهم عشرات السيارات وأحدث الأسلحة والأجهزة والآلات.

كم يُصرف على حماية الزعيم من قبل أمن الرئاسة، والحرس الجمهورى، والأمن الوطنى، والأمن العام، وأمن المنشآت إلخ؟ وكم يصرف على جيوش فض المظاهرات وحماية الميادين؟ وكم يصرف على مصلحة السجون التى تحوى الأطهار؟ وكم يصرف على تأمين المواكب والقصور؟ وماذا لو وجهت هذه المليارات لتنظيم المرور الذى صار عبئًا قوميًّا تهدر فيه كل ساعة ملايين الجنيهات غير هدر الأوقات وإهلاك المركبات كما إهلاك الأعصاب؟ وماذا لو وجهت إلى مواجهة «مافيا التكاتك والميكروباصات»؟

وكم تتكلف حملة واحدة من الحملات الدائرة على مدى الساعة منذ ست سنوات للقبض على عضو من الإخوان أو المعارضة أو لمهاجمة شركة؟ لا نبالغ إذا قلنا إن ذلك كلف البلد عشرات المليارات، بالطبع غير الانصراف عن القضايا الجنائية التى تفت فى عضد البلد وتلحق الأذى بالعباد، وغير إفساد عقائد وضمائر أفراد وضباط الشرطة، وتعويدهم الظلم ومقارفة الحرام. بل كم يتكلف رفع حالة الطوارئ فى هذه الأجهزة -وهى درجات-، وكم هى أجور الجواسيس و(المواطنين الشرفاء)؟ وما آثار ذلك على السلم الاجتماعى والعلاقة بين الناس؟

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...