مصر هبة الجيش.. حديث التسريبات

حين وصف المؤرخ الإغريقي هيرودوت (484 ق. م-425 ق. م) مصر بأنها “هبة النيل”؛ كان يقصد بذلك أن النيل هو الذي وهب مصر الحياة والوجود، ولولاه ما قامت على أرضها حضارة. والحقيقة أن مصر كغيرها من الدول هي هبة الله، فالنيل يجري في مصر كما يجري في دول أخرى يصلح أن ينطبق عليها الوصف ذاته، ولكن هيرودوت أراد بمقولته أن يبرز قيمة نهر النيل ودوره في بناء الحضارة المصرية، وقد ظلت هذه القناعة راسخة في التراث المصري حتى العصر الحديث الذي ظهرت فيه مقولة جديدة، وهي أن مصر هي جيش له دولة وليست دولة لها جيش. أي باختصار وكما عبر بعض الكتاب الموالين للحكم العسكري :”مصر هبة الجيش”، بدعوى أن الجيش هو الذي أنقذ مصر في حروبها، وهو الذي أنقذها من أوهام التقسيم والحرب الأهلية.. الخ.. الخ.

للجيش في مصر مكانة خاصة عند عموم المصريين، كما هي كل جيوش العالم الثالث في نظر شعوبها، إذ لا يخلو بيت في مصر من وجود أحد أبنائه ضابطا أو مجندا في القوات المسلحة، ولو لفترة مؤقتة (التجنيد الإلزامي). وقد حرص النظام العسكري في مصر منذ العام 1952 على ترسيخ هذه الصورة مع الوقت، من خلال أعمال فنية وإعلامية، وحتى دينية تطنطن بحديث محل جدل عن خير أجناد الأرض. وقد زادت هذه الطنطنة بحق الجيش عقب انقلاب الثالث من يوليو 2013 لدى القطاعات الشعبية التي قبلت الانقلاب ورقصت له، وأصبح الجيش بنظرها كيانا مقدسا لا يجوز المس به ولو بشطر كلمة.

الحقيقة أن قيادة الجيش، وعبر انقلابها في الثالث من تموز/ يوليو 2013 هي التي عرضت سمعة الجيش للتشويه. إذ انقسم المصريون لأول مرة في تاريخهم في موقفهم منه، فبينما بدا منقلبا على الديمقراطية والثورة في نظر الكثيرين، فإن البعض نظر له باعتباره منقذا من حكم الإخوان، وحائلا دون وقوع حرب أهلية روج لها إعلام الثورة المضادة. وهذا الانقسام الشعبي تجاه الجيش أمر خطير لو كانوا يعقلون، ولكن للأسف فإن قادة الجيش الحاليين هم الذين زرعوا هذا الإنقسام وهم الذين يرعونه ويحرصون على بقائه؛ لأنهم يعتبرون هذا الانقسام عنصر أمان لهم ولحكمهم، انطلاقا من المبدا الاستعماري “فرق تسد”.

تعاملت القيادة العسكرية الحاكمة مع المصريين رافضي الانقلاب بمنتهى القسوة، فكان الحبس والمطاردة والقتل والإعدام، ومصادرة الأموال والممتلكات وإصدار أحكام قاسية، بينما واصلت ترسيخ قداسة الجيش لدى بقية الشعب. وتحت ستار هذه القداسة راحت هذه القيادة توزع على بعضها الغنائم في غيبة أي مراقبة شعبية أو برلمانية، أو إعلامية، وراحت تتمدد قي مناحي الاقتصاد المختلفة على حساب القطاع الاقتصادي المدني، لتؤسس إمبراطورية اقتصادية عسكرية ضخمة تمثل الرافعة الرئيسية للاقتصاد المصري في الوقت الحالي

رغم أن السيسي حاول التقليل من حجم الاقتصاد العسكري وحصره في حدود 2 في المئة من الاقتصاد الوطني، إلا أن الجميع في مصر يدرك مدى تغول الجيش على كل القطاعات الاقتصادية من مقاولات وعقارات إلى طرق وكباري وأنفاق إلى أدوية ومستلزمات طبية، إلى مواد غذائية، وطاقة وثروة معدنية، إلى صناعات كهربائية وهندسية والكترونية، وأصبح افتتاح السيسي لمشروعات اقتصادية عسكرية أمرا روتينيا، تنقله وسائل الإعلام، ولم يعد مخجلا أن يقف هذا الضابط أو ذاك المجند متفاخرا بأنه قائد سلاح خط الجمبري منزوع الرأس، أو قائد مصنع الصلصة أو المعكرونة.. إلخ.

صحيح أن بداية تدخل الجيش في القطاع الاقتصادي المدني بدأت عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد مع الكيان الصهيوني، حيث لم يعد للجيش دور قتالي، فاقترح قائده في ذلك الوقت المشير عبد الحليم أبو غزالة التحول إلى النشاط الاقتصادي لاستغلال فائض العمالة والموارد لديه، ولكن التغول الاقتصادي للمؤسسة العسكرية عقب الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013 بلغ مدى بعيدا غير مسبوق. الأمر بسيط، وهو تقاسم السلطة والثروة بين جنرالات الانقلاب في غياب الشعب وقواه السياسية الحية، فليس هناك فرصة سانحة أكثر من هذه اللحظة لنهب أكبر قدر ممكن من ثروة مصر.

حين تصاعدت الدعوات عقب ثورة يناير لإخضاع ميزانية الجيش ومشروعاته الاقتصادية للمحاسبة، انتفدت قيادة الجيش ذلك، وخرج المسؤول المالي في المؤسسة العسكرية في ذلك الوقت، اللواء محمد نصر، ليحذر من يقترب من مشروعات الجيش، مدعيا أن “من عرق جبينه”، ولن يسمح لأحد بالمساس بها.

واليوم لا يستطيع أحد داخل مصر أن يتحدث عن التمدد الاقتصادي للجيش، رغم تضرر الكثيرين، وخاصة رجال الأعمال والقطاع المدني عموما، سواء قطاع عام أو قطاع خاص. ولا يجرؤ أحد على نقد المنافسة غير العادلة التي يفرضها الجيش، ويفوز بنتيجتها بطبيعة الحال، حيث العمالة المجانية وحيث لا ضرائب ولا جمارك ولا تأمينات، وحيث الحصول على الخامات بكل سهولة. ولذلك، فحين خرجت تسجيلات المقاول والفنان محمد علي، صاحب إحدى شركات المقاولات التي تعمل في شراكة ممتدة مع المؤسسة العسكرية، ليفضح الكثير من أوجه الفساد التي كان شاهدا عليها، مثل بناء فندق سبع نجوم بتكلفة ملياري جنيه في منطقة غير سياحية، باسم فندق تريومف، وترجمته العربية تقابل اسم انتصار زوجة السيسي. وكذلك بناء عدة فلل سكنية داخل منطقة الهايكستب العسكرية المحصنة وربطها مع بعضها، ومع بعض المبادي الإدارية الأخرى؛ بسلسلة أنفاق ثم العدول عنها بعد ذلك، ما يعد هدرا للمال العام، وهدم قصر للمشير عبد الحكيم عامر ثم إعادة بنائه للسيسي بملايين الجنيهات، ومنها تزيين واجهة مقبرة أم السيسي ورصف الطريق المؤدي لها بأكثر من مليوني جنيه من المال العام.

حين ظهرت هذه المعلومات على لسان مقاول شارك بنفسه فيها أحدثت ضجة كبرى في الشارع المصري، وأصبحت تسجيلات هذا المقاول تنافس حلقات أشهر المسلسلات الفنية التي ينتظرها الناس بشغف كبير؛ لأنها تعبر ببساطة عما يراه الناس ويعرفونه، لكنهم لا يستطيعون البوح به، ولأنها فضحت وبعثرت كرامة أكبر الرؤوس في مصر، وفي مقدمتها السيسي (وزوجته انتصار) الذي يطالب المصريين دوما بالتقشف والتبرع لمصر ولو بجنيه، بينما هو يقيم القصور والاستراحات الفخمة، ثم تقوم زوجته بإجراء تعديلات تكلف الملايين.

ما كشفه المقاول الفنان محمد علي في تسجيلاته هو غيض من فيض، وقد تحدث الرجل فقط عما كان هو شخصيا طرفا فيه. وبالتأكيد هناك عمليات فساد منظم أكبر من ذلك بكثير في مشروعات أخرى، ناهيك عن هيمنة المؤسسة العسكرية على العديد من القطاعات الاقتصادية بغير سند قانوني حاليا، وأهمها قطاع المقاولات وقطاع الإعلام، وقطاع الدواء.. الخ. كما أن الإمبرواطورية الاقتصادية العسكرية موزعة على فروع المؤسسة العسكرية بتوازنات خاصة تمنع حدوث توترات داخلية بينها، فبعض المشروعات تختص بها الهيئة الهندسية وبعض المشروعات لجهاز الخدمة الوطنية، وبعضها للشؤون المالية، وبعضها للمخابرات العامة أو الحربية، وبعضها للجيوش الميدانية.. الخ.

لم تتأسس الجيوش للمنافسة الاقتصادية أو المساعدة في تحقيق معدلات نموعالية، فهذه مهمة القطاعات الاقتصادية المدنية سواء كانت قطاعا عاما أو خاصا، أو مشتركا، مهمة الجيوش هي حماية الحدود والثغور والأمن القومي، ولها في سبيل ذلك تأسيس الصناعات التي تفي باحتياجاتها اللوجستية والغذائية التي لا تجعلها عرضة لأي قصور في وقت الأزمات، ولكن تمدد الجيش في العمل الاقتصادي مؤخرا شوّه سمعته لدى الشعب ولدى رجال الأعمال، ولن يستعيد الجيش مصداقيته والتفاف عموم الشعب حوله إلا إذا خرج من المنافسة السياسية على السلطة والمنافسة الاقتصادية على الثروة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...