الحج والتربية الأخلاقية

الحمد لله رب العالمين …جعل الأخلاق قوام المجتمع الراقي وأساسه الفاضل فأمرنا بحسن الخلق فقال تعالي (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) الأعراف .


وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الملك وله الحمد يحي ويميت وهو علي كل شيئ قدير .. جعل الغاية من رحلة الحج تهذيبا للأخلاق وتقويم للسلوك فقال تعالي }الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ ۚ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ ) (197){ البقرة . وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم .. حدد الغاية الأولي من بعثته والمنهاج القويم في دعوته فقال صلي الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (صححه الألباني في السلسلة الصحيحة) . فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ..


أما بعـــد .. فيا أيها المؤمنون
إن العبادات التى شرعت فى الإسلام واعتبرت أركانا فى الإيمان به ليست طقوسا مبهمة من النوع الذى يربط الإنسان بالغيوب المجهولة ٬ ويكلفه بأداءأعمال غامضة وحركات لا معنى لها ٬ كلا فالفرائض التى ألزم الإسلام بها كل منتسب إليه ٬ هى تمارين متكررة لتعويد المرء أن يحيا بأخلاق صحيحة ٬ وأن يظل مستمسكا بهذه الأخلاق ٬ مهما تغيرت أمامه الظروف.. إن الله تعالي فرض علينا العبادات ليقوم أخلاقنا ويهذب سلوكنا ويحسن معاملاتنا مع الناس لم يكن الاسلام أبد مقتصرا علي العبادات في المسجد ويعتمد علي مجرد طقوس وشعائر فقط بل كان الإسلام دينا شاملا يشمل عقيدة وعبادة وأخلاق وسلوك وشعائر وتشريعات .. فانطلق الاسلام بالمسلم من محراب العبادة والطاعة والمناجاة ومعاملة الخالق -سبحانه وتعالى إلى محراب الحياة وميدانها ليتعامل مع الخلق، وهذه سنة الله في خلقه؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].


فكان من لوازم معاملة العبد لربه وقيامه بواجباته التعبدية، والتزامه بشرعه: أن يُحسن معاملة خلقه، فالسلوك الحسن والمعاملة السليمة عنوان على صاحبها، وبرهان على صدق إيمانه، وعمق إسلامه، ومدى تخلُّقه بأخلاق الإسلام، ومبادئه السمحة.


وقد فرض الله تعالي علينا الحج وجعله ركنا عظيما من أركان الإسلام لما فيه من تعاليم وآداب ومنافع فالحج مدرسة عظيمة شاملة لتربية الإنسان المسلم التربية الشاملة ، لهذا كان موضوعنا عن (الحج والتربية الأخلاقية ) ،وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …


1ـ الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام .
2ـ الحج مدرسة الأخلاق الشاملة.
3ـ تعظيم الإسلام لحُسن الخُلق.
4ـ علاقة الأخلاق بالإيمان .
5ـ أثر الأخلاق في المجتمع


العنصر الأول : الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام:ـ
إن الغاية المنشودة من العبادات في الإسلام هو أن تتزكى النفس الإنسانية، وتتوثق صلة الإنسان بخالقه، وبالناس من حوله، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فلا تعدٍّ ولا ظلم ولا بغي، قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) [العنكبوت: 45]. وبالزكاة تترعرع الألفة بين القلوب، وينمو الإحسان بين الناس، وتتطهر النفس، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة:103]. وبالصوم يتمرس الإنسان على الصبر وسائر خصال التقوى والبر، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة ٬ بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائما من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة. وإقرارا لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم : “ من لم يدع قول الزور ٬ والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه “ وقال: “ليس الصيام من الأكل والشرب ٬ إنما الصيام من اللغو والرفث فإن سابك أحد ٬ أو تجهل عليك ٬ فقل: إنى صائم “والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله : “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. وبالحج تتم سائر الفضائل الدينية التي تغرسها مناسكه في قلب المسلم، قال تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة:197]، وكذلك ذِكْر الله، وقراءة القرآن والدعاء وغيرها من العبادات تربط المسلم بخالقه، وتزيد في تقوية إيمانه وتهذيب سلوكه وتزكية أخلاقه. وهكذا تثمر العبادات في الإسلام ثمرتها، وتُؤتي أُكلها إذا صدقت نية صاحبها، وارتوت منها أحاسيسه، “فالصلاة والصيام والزكاة والحج، وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة، ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أُعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكّي قلبه وينقّي لبّه، ويهذّب بالله وبالناس صلته، فقد هوى”. قال تعالي }إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّىٰ (76){ طه


العنصر الثاني : الحج مدرسة الأخلاق الشاملة :ـ 
الحج مدرسة للتربية على الأخلاق الفاضلة من الحلم والعفو والصفح والتسامح الإيثار والرحمة والتعاون والإحسان و البذل والكرم والجود….
فهي رحلة تسفر عن أخلاق الرجال وتسهم إسهامًا عظيمًا في تعديل السلوك السيئ إلى الحسن، فكم من حاج عاد من رحلة حجه بوجه غير الذي ذهب به .
ففي الحج أخلاق حسنة وقيم عالية وآداب رفيعة، حيث يتأدب الإنسان مع الكون من حوله، كيف؟


أدب مع الحجر فيقبل.
أدب مع الشجر فلا يقطع.
وأدب مع الطير فلا يروع.
وأدب مع الصيد فلا يقتل.
وأدب مع المكان فلا يلحد فيه أو يظلم.
وأدب مع الإنسان فلا يسب أو يشتم، ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الحج: 25]..


﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة:197]. 
والحج يثمر التقوى والتقوى القاسم المشترك مع كل العبادات وهي أعظم الأخلاق، وجماع مكارم الخير….


التقوى خير زاد: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ ﴾ [البقرة 197].. 
وهي خير لباس: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26]. 
وهي خير ميراث: ﴿ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً ﴾ [مريم: 63]. 
وهي خير تركة لمن بعدك: ﴿ وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً ﴾ [النساء: 9].


فالحج مدرسة تربوية شاملة يتعلم فيها الحاج أمور كثيرة في منها :ــ
1ـ التربية على التوحيد قولًا وعملًا.
2ـ التربية العملية على الرضا والإنكسار :ـ
ويظهر هذا من خلال لفظ الحمد في التلبية، ويتكرر بتكرارها، “لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك” .


فيأتي العبد المصاب بمصيبة والفقير والمريض والغريب والمبتلى، وكلهم يحمدون الله وكأنهم أغنياء وأصحاء وأقوياء. ويتربي علي الرضا والإنكسار لله تعالي فحين يلبس الحجاج ملابس بسيطة ، يستبدل الغنى الفاخر الثمن من الثياب بثوبين لا زينة ولا زخرفة فيهما كما يقف أمام الله سبحانه وتعالى متجرداً من كل مظاهر الحياة الدنيا الزائلة يتذكر يوم لقاء الله ، وهذا يطهر النفس البشرية من الكبرياء والعظمة والغرور والتفاخر بالأنساب والألقاب ، كما يعود النفس البشرية على التواضع حتى لا يبغى أحد على أحد ولا يفخر أحد متذكرين قول الله تبارك وتعالى : } يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { [الحجرات : 13 ] .


فيعيش المسلم راضيا قانعا ، فيكفي من اللباس ما يستر العورة، ومن النوم ما يطرد الكسل والعجز، ومن الأكل ما يقيم الصلب ، فيرضي المسلم بما قسم الله وقدر، فيصل المسلم إلي معني عظيم وهو أن أمور الدنيا ليس لها عند الله اعتبار بحد ذاتها، فالناس متساوون في اللباس والأعمال.


3ـ التربية على تذكر الموت:ـ 
الحاج يمرّ بأكثر من موقف يذكره بيوم القيامة،وذلك بلبس الكفن، فيتذكر المؤمن تلك النهاية، ويشعر بها فتؤثر على قلبه وأعماله ، إن ملابس الحج بالنسبة للرجال تذكر الناس جميعاً بيوم القيامة؛ فلباس الحج يكون فيه عري نسبي للرجال، فأنت تكشف كتفك في الحج؛ لكي يذكرك بالعري الكامل يوم القيامة؛ ولكي تتذكر الصورة التي ستكون عليها يوم الحساب.روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر الناس يوم القيامة حفاةً عراةً غرلاً، قلت: يا رسول الله! النساء والرجال جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض؟! قال صلى الله عليه وسلم: يا عائشة ! الأمر أشد من أن ينظر بعضهم إلى بعض).


وبعد أن يذهب الحاج إلى الحج يعيش في جو أشبه ما يكون بيوم القيامة، فالحاج والحاجة يحسان بهذا الجو، والأمة كلها تحس معهم بهذا الجو، وينسى الناس كلهم الدنيا تماماً، فلا يوجد الآن إلا عبادة وطاعة واستغفار ودعاء ورجاء لله عز وجل، الناس جميعاً في الحج وقوف وفي زحام شديد، وكلهم واقفون في مكان واحد، وهكذا يحشر الناس في مكان واحد يوم القيامة، إذ ينادي عليهم المنادي: هلموا إلى ربكم -يا رب سلّم- فيقوم كل الناس لرب العالمين، قال تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا [طه:108].


فكل الناس وقوف في الحج وكل الناس وقوف يوم القيامة، قال تعالى: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ [الصافات:24].والناس في الحج في حر وعرق شديدين، وكذلك يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، جاء في البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم)، يا لطيف! يا رب سلم! والأمر لا يقتصر على ساعة أو ساعتين، بل إن الأمر شاق، والسفر طويل، كما أن الحج هو العبادة الوحيدة التي يتفرغ لها المسلم أياماً متتالية.وكذلك يوم القيامة يوم طويل، قال تعالى: إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا [الإنسان:10].


فالأمة كلها تعيش يوم القيامة كل سنة مرة، كما أن الأمة كلها ستعيش يوم القيامة الحقيقي بعد ذلك، فيا ترى لو أن الأمة تذكرت يوم القيامة بالصورة هذه، سيصير حالها بأي صورة؟ وسيصير وضعها بأي شكل؟الآن بعدما رأينا العلاقة بين الحج ويوم القيامة نستطيع أن نفهم لماذا الله سبحانه وتعالى بدأ سورة الحج بالتذكير بيوم القيامة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، فالقرآن ليس فيه شيء عشوائي أبداً، كل كلمة فيه لها معنى، قال تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].


فهذا أكبر دليل علي العلاقة الوثيقة بين الحج ويوم القيامة ، ولأن معظم الفساد والمعاصي التي تحدث في الأرض إنما تحدث بسبب نسيان يوم القيامة.. يوم الحساب الذي يُحاسَب فيه كل إنسان على ما قدّم في دنياه، منذ أولى لحظات التكليف إلى لحظة الموت، والله عز وجل يقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]..
فنسيان يوم الحساب كارثة عظيمة، ومصيبة كبيرة، ولو تذكّر الناس هذا اليوم لوُجِد “الحل” لكل المشاكل التي تعاني منها البشرية؛ ولذا كان أول ما ذكّر به النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أن بدأ الدعوة في مكة، هو هذا اليوم.. قال: «والله لتموتُنَّ كما تنامون، ولتبعثُنَّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ على ما تعملون، وإنها لجنّة أبدًا.. أو نار أبدًا».
ذلك أن المرء إذا ظلّ متذكرًا ليوم القيامة، لبقي في باله أن هنالك يومًا سوف يُقدِّم فيه “كشف حساب” عن كل لحظة من لحظات عمره.. عن كل كلمة.. كل قرشٍ اكتسبه.. كل حركة، وكل سكَنة.. عن كل تعامل بينه وبين الناس.. وبينه وبين ربه سبحانه وتعالى.. فالحج صدمة كبرى تنبِّه الأمة كلها، توقظها من سباتها.. تذكِّرها بما كانت قد نسيته طويلاً.. وإذا تذكر المرء أنه محاسَب.. هل سيرتشي؟ هل سيظلم؟ هل سيسرق؟ هل سيعقّ والديه؟ هل سيتعدى على حقوق زوجته أو أولاده أو جيرانه… أو حتى من لم يعرفهم؟
قطعًا.. إن الإجابة بالنفي، وهكذا ندرك أن صلاح الأرض في تذكر يوم الحساب، فلنتذكر هذه الجملة جيدًا: صلاح الأرض -كل الأرض- في تذكر يوم الحساب.
4ـ تربية الضمير الحي اليقظ :ـ
يتربي المسلم على الإخلاص والصدق، اللذين هما رأس الأعمال القلبية، وبهما يقبل العمل عند الله ، ويقع الموقع الحسن. مما يحمل المسلم الحاج على مراقبة الله العظيم مراقبة ذاتية داخلية من قبل النفس ، ففي أعقاب الدخول في النُّسك يلتفت السياق القرآني إلى هذه الناحية التفاتة رائعة ، فيقول الله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ ومَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ)) [ البقرة:197] ، فكل خير وكل قربة وكل عبادة…فإن الله به عليم ، وعليه يجازي، وبه يرفع المؤمن عنده درجات ، وهو طريق تحلية النفس وتزكيتها وتطهيرها بعد تخليتها من الرفث و الفسوق والجدال..
فمن بداية الحج إلى تمامه والمسلم يراقب الله تعالى ويلزم التقوى فيكون قصده لله وحجه وحبه ورجاؤه وخوفه وذله ودعاؤه وتضرعه كله لله تعالى فإذا لبس إحرامه جعل من ذاته رقيبًا ينبهه ويذكره علم الله واطلاعه فلا يقترب من محظورات الإحرام، وإن وقع منه خطأ فإنه يكفر عن هذا المحظور بما ورد والله أعلم به، وإن كان في الطواف ووقع شيء من الزحام مع هذه الألوف من الرجال والنساء فيراقب بصره عن رؤية ما لا يحل له وينأَ بنفسه عن الحرام ويحفظ قلبه وسمعه وبصره ولسانه في الحج حفاظًا على نسكه وطمعًا في قبول عبادته، وهكذا في كل مناسك الحج، وفي ذلك كما لا يخفى تربية للنفس وارتقاء بها وتزكية وتطهير لها. 
والإقبال على الله تعالى بهذه الهيئة النظيفة ، وهذه الصورة المشرقة الوضيئة ، والتقلب في هذه المناسك والرياض… يمحو من النفوس آثار الذنوب وظلمتها ، ويدخلها في حياة جديدة لها فيها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
ويكفي المسلم أن يشعر أن الله تعالى يعلم ما يفعله العبد من خير ، ويطلع عليه ويجازي ويثيب ، ليكون ذلك حافزاً له على الإكثار من الخير والاجتهاد فيه… فمن ذا الذي لا يريد أن يراه ربه تبارك وتعالى على أحسن صورة في العمل.؟ ومن ذا الذي لا تتطلع نفسه وتتشوق إلى أن يعلم الله منه الخير كل الخير…؟
فيصل بذلك إلى درجة الإحسان التي قال عنها النبي – صلى الله عليه وسلم: »الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه،فإن لم تكن تراه فإنه يراك« (4)
5ـ التربية علي قهر النفس والوقوف عند الحدود:ـ 
تربية للناس على قهر النفس عما تشتهي ما دام الشرع يحرمه، فالطيب وتغطية الرأس وجميع المحظورات يتركها المسلم مع شهوته لها لا لشيء إلا لأجل تحريم الشرع إياها. ويظهر هذا من خلال المواقيت وتحديدها بالمذكورة ووقت الرمي ووقت الانصراف من عرفة وغير ذلك.
فيتربي المسلم على التقيد بما قيده الشرع وحدده،فيقف عند حدود الله فلا يتعداها ولا يقربها } تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ )229){البقرة . وقال تعالي }تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187 ){البقرة.
فهي للمجتمع طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
قال الله تعالى }فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127 ){ طه.
وعَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشر رضي اللهُ عَنْهُ عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها ). حديثٌ حسنٌ رواه الدار قطني وغيرُه).
6ـ تربية للأمة علي المتابعة للنبي صلي الله عليه وسلم:ـ 
مدرسة الحج تربي الفرد والمجتمع المسلم على الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فالحاج يربي نفسه على متابعة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جميع شؤون الحياة فإن متابعة الحاج لهدي النبي صلى الله عليه وسلم في مناسك الحج استجابة لقوله صلى الله عليه وسلم: «خذوا عني مناسككم» (مُتفق عليه).
وروي البخاري من حديث مالك بن حويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( صلوا كما رأيتموني أصلي )
تربية للحاج أن يلتزم هدي النبي صلى الله عليه وسلم في جميع ما يأتي و ما يذر، وذلك هو بداية الانطلاقة للتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَ‌سُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْ‌جُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ‌} [الأحزاب 21].
فمدرسة الحج تربي المسلم على أن الخير له والفلاح في العودة إلى هدي النبوة هدي محمد صلى الله عليه وسلم .
وأمة الإسلام اليوم في أمس الحاجة إلى أن تعود إلى إرث النبي صلى الله عليه وسلم لتستعيد عزها ومجدها المفقود
8ـ تربية عملية على فقه الإختلاف، ويظهر هذا من خلال ما يلي :ــ
أ ـ اختلاف الناس في أنواع النسك.
ب ـ اختلاف الناس في أعمال يوم النحر.
ج ـ اختلاف الناس في الذكر حال الانصراف من منى إلى عرفة، “منا الملبي ومنا المكبر”.
د ـ اختلاف الناس حال الانصراف من مزدلفة إلى منى من حيث العجز وعدمه.
هـ ـ اختلاف الناس حال التعجل من مكة أو التأجيل.
و ـ اختلاف الناس حال التقصير أو الحلق، فكل هذه مواقف تربوية للناس على فقه التعامل مع الخلاف والمخالف، ولم ينقل لنا أن الصحابة دار بينهم نقاش واتهام في سبب اختيار نسك على آخر، ولو كان المختار نوعًا مفضولًا وليس فاضلًا.
العنصر الثالث:تعظيم الإسلام لحُسن الخُلق :ـ 
لم يعُدِ الإسلام الخلق سلوكًا مجرَّدًا، بل عده عبادةً يؤجر عليها الإنسان، ومجالاً للتنافس بين العباد؛ فقد جعله النبيُّ – صلى الله عليه وسلم – أساسَ الخيريَّة والتفاضل يوم القيامة، فقال: }إن أحبَّكم إليَّ، وأقربَكم مني في الآخرة مجلسًا، أحاسنُكم أخلاقًا، وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني في الآخرة أسوَؤُكم أخلاقًا، الثَّرثارون المُتفَيْهِقون المُتشدِّقون{. وكذلك جعَل أجر حُسن الخُلق ثقيلاً في الميزان، بل لا شيء أثقلُ منه، فقال: (ما من شيءِ أثقلَ في ميزان المؤمن يوم القيامة مِن حُسن الخُلق). وجعَل كذلك أجرَ حُسن الخُلق كأجرِ العبادات الأساسية، مِن صيام وقيام، فقال:(إن المؤمنَ لَيُدركُ بحُسن الخُلق درجةَ الصائمِ القائم)، بل بلَغ من تعظيم الشارع لحُسن الخُلق أنْ جعَله وسيلة من وسائل دخول الحنة؛ فقد سُئل صلى الله عليه وسلم عن أكثرِ ما يُدخِل الناسَ الجنَّةَ؟ فقال: ((تقوى اللهِ وحُسن الخُلق) ، وفي حديث آخرَ ضمِن لصاحب الخُلق دخولَ الجنة، بل أعلى درجاتها، فقال: (أنا زعيمٌ ببيت في ربَضِ أطراف الجنَّةِ لِمَن ترَك المِراءَ وإن كان محقًّا، وببيتٍ في وسَط الجنة لِمَن ترَك الكذبَ وإن كان مازحًا، وببيتٍ في أعلى الجنَّة لمن حسُن خلُقه). 
العنصر الرابع :علاقة الأخلاق بالإيمان :ـ 
هناك علاقة طردية بين الإيمان والأخلاق:ـ فكلما كان الإيمان صحيحاً قوياً أثمر أخلاقاً حميدة ،والإيمان القوي يلد الخلق القوي حتما ،وأن انهيار الأخلاق مرده إلي ضعف الإيمان ، أو فقدانه بحسب تفاقم الشر أو تفاهته . لذلك قال عليه الصلاة والسلام : ” أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً” (رواه أبوداود والترمذي وصححه الألباني). وفي آيات وفيرة وأحاديث كثيرة ربط الإسلام بين الإيمان وحسن الخلق ،ومن أمثلة ذلك: ـ
1- اقتضاء الإيمان للعدل: قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة:8) .
2- اقتضاء الإيمان للصدق :ـ قال تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ (التوبة:119) .
3- اقتضاء الإيمان للحياء : قال عليه الصلاة والسلام:” الإيمان بضع وسبعون شعبة، والحياءُ شعبة من الإيمان” (رواه مسلم وعند البخاري: بضع وستون)
4- اقتضـاء الإيمان للكرم والبذل: قال صلى الله عليه وآله وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فيكرم ضيفه…الحديث” (متفق عليه) .
5- اقتضـاء الإيمان للحب في الله :ـ قال عليه الصلاة والسلام:” لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم” رواه مسلم .
6- اقتضـاء الإيمان للصبر والشكر :قال عليه الصلاة والسلام:”عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراءُ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له.” رواه مسلم. 
منافاة الأخلاق السيئة للإيمان الكامل ومن ذلك :ـ
1- منافاة السخرية والاستهزاء للإيمان: قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ (الحجرات:11) 
2- منافاة سوء الظن والتجسس والغيبة للإيمان: قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾ (الحجرات:12)
3- منافاة الكذب والإخلاف والخيانة للإيمان:ـ قال عليه الصلاة والسلام: “آية المنافق ثلاثٌ ؛ إذا حدّث كذب ، وإذا وعَدَ أخلف ، وإذ ائتمن خان” متفق عليه .
4- منافاة إيذاء الجار للإيمان:ـ قال صلى الله عليه وآله وسلم:” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.” رواه البخاري ، ويقول عليه الصلاة والسلام: “والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ،والله لا يؤمن قيل: من يا رسول الله؟ قال الذي لا يأمن جارُه بوائقه.” رواه البخاري. فإذا نمت الرذائل في النفس وفشا ضررها وتفاقم خطرها انسلخ المرء من دينه كما ينسلخ العريان من ثيابه وأصبح ادعاؤه للإيمان زورا فما قيمة دين بلا خلق ، وما معني الإفساد مع الانتساب لله تعالي ، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين . أيها المؤمنون من هنا ندرك الغاية من وراء الأمر بالتخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل ألا وهي : نزكية نفوسنا وتطهيرها لكي نفوز برضا الرحمن،وننجو بإذن ربنا من النيران، وقد أقسم سبحانه أحد عشر قسما متوالياً على أنه لا يستحق الفوز بالجنة والنجاة من النار إلا من زكت نفسه وصفت، فقال سبحانه: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ الشمس:1- 10 ومن هنا تكون فضائل الأخلاق ومكارمها داخلة في إطار الدين وركناً أساساً من أركان العبادة. ورد في الحديث ” الإيمان بضعٌ وسبعون شعبة فأعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان ” فالإيمان شعب، ويزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وإذا كان الحياء شعبة من الإيمان فسلب الحياء شعبة من شعب الكفر، وقس على ذلك الكذب والغدر، والسرقة،وغيرها.
العنصر الخامس : أثر الأخلاق في حياة الفرد والمجتمع :ـ
كلما ازداد تمسك المسلم بمكارم الاخلاق وفضائلها زادت قيمته وزاد رضا الله عنه وأحبه الناس وتعلقوا به وأصبح موضع ثقتهم واحترامهم . ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في التحلي بالأخلاق الكريمة والصفات الحسنة ، والتي تعود بالنفع على الفرد والمجتمع والأمة . 
1ـ الأخلاق سر بقاء الأمم :ـ
فالأخلاق هي المؤشِّر على استمرار أمَّة ما أو انهيارها؛ فالأمة التي تنهار أخلاقُها يوشك أن ينهارَ كيانُها، كما قال شوقي: وإذا أُصيب القومُ في أخلاقِهم فأقِمْ عليهم مأتَمًا وعويلا ويدلُّ على هذه القضية قولُه تعالى ﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [الإسراء: 16]. ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالي:إن الله يقيم الدولة العادلة ولو كانت كافرة ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة 2ـ أنها من أسبابِ المودة، وإنهاء العداوة:ــ يقول الله تعالى﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ [فصلت: 34]. والواقع يشهد بذلك، فكم من عداوةٍ انتهت لحُسن الخُلق؛ كعداوة عمرَ وعكرمة، بل عداوة قريش له – صلى الله عليه وسلم. ومن هنا قال: “إنكم لن تسَعُوا الناسَ بأموالكم، ولكن تسعونهم بأخلاقكم”، يقول أبو حاتم – رحمه الله -: “الواجب على العاقل أن يتحبَّب إلى الناس بلزوم حُسن الخُلق، وتَرْكِ سوء الخُلق؛ لأن الخُلق الحسَن يُذيب الخطايا كما تذيب الشمسُ الجليد، وإن الخُلق السيِّئ لَيُفسد العمل، كما يفسد الخلُّ العسلَ”. 
3ـ نشر الأمن والأمان بين الأفراد والمجتمع:ــ
إن أي مجتمع لا يمكن أن يعيش أفراده بأمان وانسجام ما لم تربط بينهم روابط متينة من الأخلاق الكريمة. فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية لا يستغني عنها أي مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ لأن بها يتم إصلاح الفرد الذي هو الخطوة الأولى في إصلاح المجتمع كله، وصدق القائل: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا إذ كيف يكون هناك ثقة متبادلة بين أفراد المجتمع لولا فضيلة الصدق التي أساس الإسلام، وعقد الحياة في حياة الإسلام الاجتماعية. وكيف يكون تعايش بين الناس في أمن وسلام لولا الأخلاق . 
وكيف نتصور مجتمعا مثاليا، قادرا على قيادة العالم نحو الأفضل بدون مكارم الأخلاق؟ إذا فمكارم الأخلاق ضرورة اجتماعية في كل عصر من العصور حتى تصير أفراد المجتمع أفرادا مسئولا وواعيا.
4ـ سيادة التعاون والتكافل الاجتماعي بين المجتمع؛ فالمسلمون أمة واحده، يعطف غنيُّهم على فقيرهم :ـ فالفرد المتخلق بمكارم الأخلاق لابد أن يؤدي ما عليه من حقوق اللّه عز وجل، وحقوق الناس، فإن كان موظفا أو مسؤولا فلابد أن يتقي اللّه في رعيته وفي أسرته، وأن يؤدي لكل ذي حق حقه . فكل إنسان مكلف ومأمور بالتخلق بأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإحياء سنته الشريفة .
5ـ نبذ الفُرقة والخلاف وما يمزق المجتمعَ، والالتزام بالقِيَم والمبادئ :ـ
نري أن نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي يجسد أخلاق القرآن العالية ما أثر في أصحابه ومجتمعه إلا بأخلاقه السامية. 
فقد استطاع بخلقه العالية أن يغير قبائل العرب من أخلاق البداوة والتوحش إلى أخلاق السيادة والقيادة، حتى صاروا أعظم خَلق في العالم. 
ألا ترى هذه الأقوام المختلفة البدائية في هذه الصحراء الشاسعة المتعصبين لعاداتهم المعاندين في عصبيتهم وخصامهم كيف رفع هذا الشخص جميع أخلاقهم السيئة البدائية وقلعها في زمان قليل دفعة واحدة ؟ وجهزهم بأخلاق حسنة عالية؛ فصيرهم معلمي العالم الإنساني وأساتيذ الأمم المتمدنة؟! وبأخلاقه السامية أيضا غلب على الأفكار، وتحبب إلى الأرواح، وتسلط على الطبائع وقلع من أعماق قلوبهم العادات والأخلاق الوحشية المألوفة الراسخة المستمرة الكثيرة .
6ـ المساهمة في خدمة المجتمع، ورفع معاناته، وتقديم ما يفيد للأمة والبشرية؛ فالمؤمن مثل الغيثِ أينما حلَّ نفَع:ــ أنه لا نجاة ولا سعادة إلا التمسك بحقائق الإسلام التي تتمثل في التحلي بمكارم الأخلاق واتباع شريعته، يقول أحد العلماء: “… لا سعادة لأمة الإسلام إلا بتحقيق حقائق الإسلام وإلا فلا، ولا يمكن أن تذوق الأمة السعادة في الدنيا أو تعيش حياة اجتماعية فاضلة إلا بتطبيق الشريعة الإسلامية، إلا فلا عدالة قطعا ولا أمان مطلقا إذ تتغلب عندئذ الأخلاق الفاسدة والصفات الذميمة، ويبقى الأمر معلقا بيد الكذابين والمرائين. كما أن التزام الناس بمكارم الأخلاق يؤدي إلى تقدم المجتمع وسعادته، وأن الغرب ما تفوقوا علينا إلا باتخاذهم ببعض المكارم التي يأمر به ديننا الحنيف.
7ـ بث روح التسامح ونشرها بين الناس، تحت شعار:
“وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ”، ونحو مجتمع راقٍ تسودُه الألفة والمحبة. وليعلم أن أسلافنا لم ينجحوا في مهمتهم الدعوية إلا بأخلاقهم السامية، وأن المسلمين اليوم لو تشبعوا بأخلاق القرآن لساد الإسلام في العالم ولدخل الناس في دين اللّه أفواجا. 
ولو أننا أظهرنا بأفعالنا وسلوكنا مكارم أخلاق الإسلام وكمال حقائق الإيمان لدخل أتباع الأديان الأخرى في الإسلام جماعات وأفواجا، بل لربما رضخت دول العالم وقاراته للإسلام. 
فهذا صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالي : يسير ذات يوم في بعض طرقات مدينة بيت المقدس وقد نصره الله، فقابله شيخ مسيحي كبير السن، وقال له: “أيها القائد العظيم: لقد كتب لك النصر على أعدائك، فلماذا لم تنتقم منهم، وتفعل معهم مثل ما فعلوا معك؟! فقد قتلوا نساءكم وأطفالكم وشيوخكم عندما غزوا بيت المقدس”، فقال له صلاح الدين: “أيها الشيخ: يمنعني من ذلك ديني الذي يأمرني بالرحمة بالضعفاء، ويحرّم عليّ قتل الأطفال والشيوخ والنساء”. 
فقال له الشيخ: “وهل دينكم يمنعكم من الانتقام من قوم أذاقوكم سوء العذاب؟!”، فأجابه صلاح الدين: “نعم، إن ديننا يأمرنا بالعفو والإحسان، وأن نقابل السيئة بالحسنة، وأن نكون أوفياء بعهودنا، وأن نصفح عند المقدرة عمن أذنب”. فقال الشيخ: “نِعْمَ الدين دينكم، وإن دينًا فيه مثل هذه الأخلاق يعلو ولا يُعلَى عليه”. وأسلم الرجل وحسن إسلامه، وأسلم معه كثير من أبناء قومه. ايها المؤمنون …. يمكننا أن نؤكد أن الأخلاق لها أثر بالغ في حياة الفرد و المجتمع، وهي ضرورة اجتماعية، وأنه لا يمكن لأي مجتمع يريد التوازن في حياته أن يعيش بدونها، وأن التحلي بمكارم الأخلاق يؤدي إلى سعادة المجتمع وتقدمه وانسجامه والاعتزاز بالنفس والتواضع، وأن أي خلل فيها، يؤدي إلى خلل في المجتمع وفساده وأن الأمة الإسلامية لو التزمت بمكارم الأخلاق التي يدعو إليها الإسلام لأصبحوا سادة العالم، ولما بقي أحد على وجه الأرض إلا وتبنى هذا الدين. 
وأن هذه الخصال الحميدة تبقى حصنا حصينا للمسلم في هذا الوقت الذي يتسم بالدمار، أخلاقيا وروحيا، وبإثارة هوى النفس الأمارة بالسوء وبإطلاق الهوى من عقالها. 
أسأل اله تعالي أن يكتب لنا حق بيته الحرام وزيارة نبيه عليه الصلاة والسلام ويهدنا لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا الله تعالي ، ويصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا الله تعالي . آمين يارب العالمين .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...