كيف حول العسكر «الوطنية» إلى «وحش» لابتلاع مصر ونهب ثرواتها؟

يحذر كثير من الخبراء والمحللين  من توظيف النظام العسكري في مصر لمفهوم «الوطنية» والتي تحولت منذ انقلاب 23 يوليو 1952م، إلى «وحش» يبرر به النظام استبداده وجرائمه ويجعل منها صنما مقدسا  يفوق في مكانته قيمة الشعب نفسه، وسط مطالب بضرورة مواجهة هذه الوطنية الزائفة من أجل تحرير مصر من قبضة الاستبداد والطغيان.

وفي مقاله المنشور اليوم الأحد 28 يوليو 2019م، بصحيفة “العربي الجديد” تحت عنوان «وحش الوطنية المصرية»، يقول الكاتب علاء بيومي: «الوطنية في الخطاب السياسي المصري الدارج هي الأمة المصرية نفسها. هي الدولة والنظام، وأهم من الشعب نفسه. وحش يمكن أن يأكل أبناءه ليبقى لو تطلّب الأمر، أو كما يتطلب أحيانا كثيرة».

التوظيف السياسي للوطنية

ويرى الكاتب أن العسكر عندما أرادوا الانقلاب على انتفاضة المصريين السياسية، ومطالبهم بالحرية والديمقراطية، لم يجدوا أيديولوجيا أفضل من “الوطنية المصرية” السائدة أداة للقضاء على دور الجماهير ومطالب الإصلاح وحكم المؤسسات ومكافحة الفساد. فلكي يبقى العسكر على مصالحهم، ولكي يعودوا إلى الحكم مجدّدا، ويظلوا فوق الرقابة الشعبية، استخدموا الإعلام التابع للدولة، والإعلام الممول من دول الثورة المضادة في الإقليم، لبث جرعاتٍ مبالغٍ فيها من الوطنية المصرية القديمة، والتي برّرت كل ما قاموا به من انتهاكات. ونظرا إلى هيمنة تلك الإيديولوجيا الهائل على عقول المصريين استجابوا لدعاية العسكر، وقبلوا بها واعتبروها أمرا طبيعيا، لا مشروعا سياسيا للسيطرة من جديد.

ويضيف الكاتب «لذلك يبدو أن مواجهة الوطنية المصرية فكرياً ضرورة لإنقاذ مصر وشعبها. والبداية تكون بالتذكير بأن الوطنية، كأي إيدولوجيا أخرى، هي مجرد بنى فكرية سياسية تصنعها نخب، لتعطي الجماهير تصورا معينا لعلاقتهم بالسلطة ودورها في حياتهم وتتغير باستمرار». مشيرا إلى أن «الوطنية المصرية ليست الأمة المصرية، فالأخيرة قديمة عمرها آلاف السنين، وهي مستقرّة ومتجانسة إلى حد كبير. أما الوطنية المصرية فهي حديثة، لا يتعدى عمرها 150 عاما على أكثر تقدير، وهي صراعية متوحشة مريضة في وضعها الحالي».

«5» محطات تحت مظلة الاستبداد

ويستعرض الكاتب تاريخ ميلاد هذه الوطنية، موضحا أن الوطنية المصرية، كبقية الوطنيات، إيدولوجيا حديثة وليدة عصر الدولة القومية الذي عرفته أوروبا منذ 1648، وعرفته مصر، كبقية دول العالم الثالث، متأخرا.

أولا، عرفت مصر الدولة الحديثة في عهد محمد علي، ولم تكن دولته وطنية، بل كانت ولاية عثمانية. سعى محمد علي إلى الاستقلال بها تحت حكم أسرته. أسس دولة مركزية استبدادية حديثة، هي الدولة التي ولدت فيها الوطنية المصرية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

ثانيا، هناك من يرى أن الوطنية المصرية ولدت مع ثورة أحمد عرابي (1881)، فيما يرى فريقٌ  ثان أن ميلادها تأخر حتى أوائل القرن العشرين وما قبل ثورة 1919، فالأصل أن الوطنية المصرية ولدت مع انتشار فكرة أن “مصر للمصريين”، ومع صعود دور “الفلاحين”، أو أبناء البلد الأصليين في الحياة السياسية المصرية. ولذا يمكن النظر إلى ثورة عرابي الضابط الفلاح كلحظة ميلاد للوطنية المصرية. ولكن هناك من يرى أن الميلاد تأخر حتى ظهرت طبقة من المثقفين المصريين نشرت الفكرة بين أبناء الشعب في السنوات السابقة لثورة 1919. لافتا إلى أن  ثورة 1919 كانت فرصة لتطوير الوطنية المصرية، حيث شهدت دورا للبرجوازية المصرية والشعب، وطالبت بالدستور والحياة النيابية والاستقلال، ولكنها لم تكن ديمقراطية أو ثورية بما يكفي.

ثالثا، يشير إلى أنه في 1952 عادت الوطنية المصرية إلى الوراء عقودا فيما يتعلق بالإصلاح السياسي. فصعود الجيش إلى الحكم، واستقلال مصر تدريجيا عن الاحتلال، كانا فرصة لأن يحكم الفلاحون المصريون بلادهم أول مرة في التاريخ. لكن، وللأسف حافظ العسكر على أسوأ ما في الوطنية المصرية، كالاستبداد والمركزية والحاكم الفرعون. وقضوا على وطنية ثورة 1919 القائمة على البرجوازية والجماهير والدستور والبرلمان ومحاربة المستعمر، حيث فضل العسكر بناء وطنية تحديثية، ولكنها أمنية يقودها الجيش (الفرعون الجديد)، ويتراجع فيها دور الشعب إلا حين يتم استدعاؤه. هذا بالإضافة إلى مسحة من العداء للخارج والنخب السياسية والمعارضة والتي باتت عدوا جديدا تكرّس ضده الدولة الأمنية جزءا كبيرا من طاقتها.

رابعا، يرى الكاتب أن العسكر استفادوا من تطور تكنولوجيا الاتصالات في السيطرة المبالغ فيها على عقول الجماهير. ومع هزيمة المشروع الناصري في 1967، تحوّلت الانهزامية والأنانية الانتهازية إلى واحدةٍ من سمات الوطنية المصرية الرسمية، حيث انكفأت مصر على نفسها، وباتت تنظر لنفسها دولة مهزومة تابعة للغرب، تتعامل مع غيرها بانتهازية وأنانية، وتتلوّن بالموضات الفكرية السائدة كالرأسمالية في عصر أنور السادات، أو الليبرالية في أواخر عهد حسني مبارك، من دون رغبة حقيقية في التغيير.

خامسا، كانت انتفاضة المصريين في يناير 2011 بمثابة محاولة قيصرية لعلاج الوطنية المصرية، من خلال ضخ أفكار كالديمقراطية والحرية والانفتاح على الخارج وحكم الشعب وإرادته وممثليه. ويلاحظ هنا أن تلك المفاهيم الصحية الإيجابية اختلطت دائما بأمراض الوطنية المصرية الراسخة، كالوضع الفرعوني للجيش والشك في الديمقراطية والخارج والعداء للنخب والخوف من الجماهير أنفسهم. وبناء عليه، ارتد المصريون، أو قطاع كبير منهم، إلى وطنيتهم القديمة المريضة في 30 يونيو و3 يوليو 2013. حيث دعم الجيش والخارج وقطاع كبير من الجماهير فكرة العودة إلى الوطنية القديمة، وطنية القبضة الأمنية والحاكم الفرعون، والعداء الشديد للخارج والجماهير والنخب السياسية.  الوطنية المتوحشة التي تعذب وتقتل أبناءها وتخفيهم قسريا وتسجنهم بالآلاف، دفاعا عن نفسها.

مواجهة حتمية

وظلت الوطنية المصرية ــ بحسب الكاتب ــ مشروعا سياسيا تديره النخب الاستبدادية الحاكمة، بما يحقق  مصالحها السياسية والاقتصادية ويبرّر سلطتها. ولذلك برّرت الاستبداد والمركزية ودور الحاكم المطلق ومكانة الجيش الفرعونية، وحولت الجماهير إلى تابع، واستخدمت الدين والإيدولوجيات الأخرى أدوات لصناعة القوانين، أو لإضفاء الشرعية، بشرط ألا تتحول إلى حركات جماهيرية وإلا تم قمعها بعنف. هذا بالإضافة إلى الانهزامية والانكفاء على الذات والتبعية والتلون على الساحة الخارجية. وبمرور العقود، وهيمنة النظام على الإعلام والتعليم والثقافة، تسربت تلك الأفكار إلى عقول المصريين أنفسهم، حتى باتت مسلماتٍ لا يُنظر لها، على حقيقتها، كإيدولوجيا مصطنعة تخدم مصالح النخب الحاكمة، ولكن كجزء من ثقافة المصريين وتعريفهم أنفسهم.

وينتهي الكاتب إلى أنه «لا أمل في مواجهة مشروع السلطة الاستبدادي في مصر، من دون مواجهة مختلف أركانه وتفكيكها، وفي مقدمتها مبرّراتها الفكرية والإيدولوجية. ليست الوطنية المصرية الأمة المصرية، ولا الدولة المصرية، ولا المؤسسات المصرية. هي إيدلوجيا سياسية تستخدمها النخب الحاكمة لتبرير هيمنتها. وهي، كأي إيدولوجيا أخرى، مشروع سياسي انتقائي، يمرض ويصح، ويجب تنقيته باستمرار».

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في الذكرى التاسعة للثورة.. مواقع التواصل تغرد «ثورة الغضب 25»

في الخامس والعشرين من يناير كل عام، يحيي المصريون ذكرى ثورتهم الخالدة التي أطاحت برأس ...