دماء ودموع أهل سيناء.. متى تتوقف؟

رغم أن جميع المصريين يئنون من تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية.. إلخ، إلا أن ما يعانيه أهل سيناء شيء يفوق الخيال، ويفوق القدرة على التحمل. ويكفي أن أحد الجنرالات المعبرين عن النظام؛ ينطقها بـ”الفم المليان” عبر الفضائيات: “اللي خايف على نفسه ميرحش سيناء”، وهو ماعنونت به منظمة هيومان رايتس ووتش أحدث تقاريرها عن الوضع في سيناء، وهو التقرير الذي استغرق عامين لإنجازه، ووثق الكثير من الانتهاكات الخطيرة التي وصفها بجرائم حرب ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية التي لا تسقط بالتقادم، والتي يمكن محاكمة مرتكبيها أمام القضاء الدولي.

يتعامل نظام السيسي مع أهل سيناء كما لو كانوا “جراثيم” ينبغي القضاء عليها، حتى لا تضر غيرها، ويواصل قتلهم وتفجير مساكنهم، وإخلاءهم من بيوتهم، واعتقال رجالهم، وحتى نسائهم، في سجون معزولة، وفوق كل ذلك يفرض حالة من التعتيم الشديد على ما يرتكبه من جرائم بحقهم، ويسن قانونا خاصا لمنع نشر أي روايات تخالف الروايات الرسمية التي يعلنها المتحدث العسكري، وهي روايات ثبت في الكثير من الأحيان كذبها. ولعلنا نتذكر هنا بيان المتحدث العسكري في 16 أيار/ مايو 2018 عن قتل المقدم هشام عشماوي، زعيم تنظيم المرابطين، الذي ظهر حيا بين أيدي رجال المخابرات المصرية؛ العائدين به من ليبيا مؤخرا.

أهل سيناء هم جزء أصيل من الشعب المصري، قدرهم أنهم يعيشون في تلك البقعة وهي بوابة مصر الشرقية، التي ظل أهل سيناء حماة لها عبر التاريخ، ولا يقدح في ذلك وجود بعض العناصر الفاسدة او حتى الخائنة بينهم، فهذا استثناء يؤكد متانة القاعدة، وهو أمر لا يقتصر على سيناء، بل توجد هذه العناصر في كل مكان، ويكفي أهل سيناء قدرا وتعظيما تحملهم شظف العيش في تلك الصحاري القاحلة، التي لا تتمتع بما تتمتع به غيرها من المحافظات من خدمات وبنية تحتية قوية.. الخ.

المظالم التي يتعرض لها أهل سيناء أكثر من أن تحصى، ويمكن إجمالها في شعورهم بالاغتراب عن الوطن، وأنهم مواطنون درجة ثالثة، رغم كل تضحياتهم الوطنية والتاريخية. وقد رفع أهل سيناء عبر ممثليهم، من ساسة ونشطاء ومثقفين وشيوخ عوائل.. إلخ؛ مظالمهم، ودعوا السلطات المختصة لرفع هذه المظالم. وبدلا من الاستجابة الواضحة لمطالبهم، كان الرد السلطوي هو المزيد من القمع، وهو ما وفر البيئة الصالحة لنمو التشدد،، ومن ثم الإرهاب الذي لم يعد يقتصر في ضرباته على عناصر ومراكز السلطة، بل إنه شمل أيضا قتل وتعذيب وملاحقة أهل سيناء أنفسهم، والذين أصبحوا بهذا الشكل بين نارين (نار الجيش ونار داعش).

حرص أهل سيناء على التعبير بسلمية عن مطالبهم المشروعة طيلة العقود الماضية، من عقد مؤتمرات، وإرسال عرائض للمسؤولين، والتحدث عبر وسائل الإعلام، القديم منها والجديد، وحين وجدوا صدودا، ووجدوا قمعا متصاعدا، ظهرت من بعضهم ردود فعل منفلتة، وكانت هذه الردود محل استهجان من عقلائهم. وحين قامت ثورة يناير، شارك أبناء سيناء فيها بقوة على أمل أن تخلصهم من مظالم العقود الماضية، وهدأت العمليات الانتقامية كثيرا في سيناء، واقتصرت على تفجير خط الغاز الطبيعي إلى الكييان الصهيوني مرات عديدة، وكانت تلك التفجيرات (رغم رفضنا التام لها) هي بمثابة رسالة احتجاج وتذكير بالمظالم، ولسان حالهم يردد: “كالعير في البيداء يقتلها الظمأ، والماء فوق ظهورها محمول”. فخط الغاز يمر عبر أراضيهم ليصل إلى الصهاينة بأسعار رمزية، بينما لا يستفيدون هم شيئا من ذلك.

وحين فتحت الثورة المجال السياسي للمشاركة الشعبية، احتشد أهل سيناء أمام لجان الاقتراع في كل الاستحقاقات الديمقراطية، ورحبوا بأول رئيس مدني، وتوقفت احتجاجاتهم، باستثناء قيام تنظيم بيت المقدس بعملية رفح التي قتل فيها المجندين أثناء الإفطار في رمضان/ يوليو 2012، أيضا باستثناء خطف بعض الجنود؛ تمكنت رئاسة الدولة من استعادتهم عبر حوار سياسي.

صحيح أن بعض المشاركين في تنظيم داعش حاليا هم من أبناء سيناء، لكن الصحيح أيضا أن الكثيرين من غير أبناء سيناء، بل من غير المصريين، هم أعضاء أيضا في التنظيم، وهم الذين يخوضون مواجهة مفتوحة وممتدة مع القوات المسلحة؛ تصاعدت بشكل أساسي منذ العام 2014، ووصل عدد ضحاياها من الجيش حتى الآن إلى 1226، بينما كان الضحايا من المدنيين وكذا القتلى من تنظيم داعش؛ أكثر من ثلاثة آلاف، حسب التقرير الأخير لمنظمة هيومن رايتس ووتش، وهو التقرير الذي حمل صورا مرعبة لعمليات الاعتقال والتعذيب والقتل خارج نطاق القانون لأهل سيناء، سواء على يد قوات الجيش والشرطة أو عصابات داعش، كما حملت تقارير سابقة للمنظمة ذاتها ولغيرها من المنظمات الحقوقية صورا بشعة لعمليات الهدم للمنازل وتهجير أصحابها منها، وهي صور أعادت للاذهان مناظر “التغريبة الفلسطينية” بعد نكبة 1948، لكن نكبة أهل سيناء للأسف تتم على يد إخوتهم من الجيش والشرطة المصرية.

كثيرة هي المشروعات التنموية لسيناء التي أعلنتها السلطات من قبل، لكن أهل سيناء “يسمعون جعجعة ولا يرون طحنا”، ويرون قتلا وتشريدا لا علاجا أو سكنا، وبدلا من رؤيتهم للآليات المدنية للبناء والتعمير، فإنهم يئنون تحت ضربات الآليات العسكرية والطائرات.

ولا يمكن تبرير تلك العمليات العشوائية، مثل قصف إفطارات جماعية لبعض العائلات والتي أبادت أسرا كاملة، كما أن “العملية الشاملة سيناء 2018″، التي انطلقت منذ شباط/ فبراير 2018 وكان مقررا لها ثلاثة شهور لتطهير سيناء من الإرهابيين لا تزال مستمرة حتى الآن، ولم تستطع القضاء على الألف مسلح، أعضاء تنظيم داعش، حسب تقدير السيسي نفسه، وهو ما يعني فشلا ذريعا في تلك المواجهة التي يدفع ثمنها أهل سيناء، بل مصر كلها.

شعور أهل سيناء بالظلم المركب والممتد لعقود طويلة هو شعور طبيعي، وإنكار تلك المظالم التي يتعرضون لها لن يحل المشكلة بل يفاقمها، والحل الحقيقي يبدا بالاعتراف بالمشكلة وامتلاك الإرادة الحقيقية لعلاجها، والاعتذار لأهل سيناء عن كل تلك المظالم التي تعرضوا لها، وجبر الأضرار التي لحقت بهم، وتنفيذ مشروعات التنمية التي وعدوا بها.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...