إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، وأحمد الله وأشكره
، وأعوذ به من الشيطان الرجيم ، واشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وأصلى وأسلم
على من أنزل الله عليه { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} .


أما بعد -أيها المسلمون- فإن الله جلت قدرته، أكرمكم وأتم عليكم نعمه بنعمة كبرى ، تلكم نعمة الله القرآن، وكبرى معجزات محمد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام . فلقد أنزله الله على رسوله، ليخرج الناس به من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والهدى { كتاب أنزلناه إليك مباركاً ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب } أنزله ليعرف الناس بخالقهم وليعرفهم بأنفسهم : أنهم عباد مربوبون مكلفون : { إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام } ، {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } أنزله بشيراً ونذيراً، بشيراً للمومنين ونذيراً للكافرين. {قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً ماكثين فيه أبداً } أنزله ليكون المحكم في جميع شؤون المسلمين أياً كانوا وأين كانوا { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون } .


أنرله تعالى عصمة ونجاة لمن تمسك به. { فإما يأتينكم مني هدى ، فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى }. أنزله حجة على العالمين وآية على صدق رسالة عبده محمد بن عبد الله الصادق الأمين { أو لم يكفهم أنا أنزلنا إليك الكتاب يتلى عليهم }


أنزله لتلكم الأمور ولغيرها ، وبأرفع أسلوب وأروع بيان وأجمع معنى عرفته لغات البشر جمعاء. ولا غرو أيها المسلمون أن ينزل القرآن بأروع لفظ وأجمع معنى وافصح بيان فهو كلام الله جل جلاله ، الذي تكلم به، وأنزله تشريعاً خالداً ، ثابتاً ، لا يُغير أو يتغير :
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، لاغرو فهو حجة الله على عباده ، وآية رسول الله ومعجزته التي تحدى الله الله بها أمراء البلاغة وفحول البيان على أن يأتوا بمثله فعجزوا ، ثم بعشر سور مثله فنكصوا، ثم بآية فانقطعوا، وصدق الله العظيم { قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً } .


يروي أحد المفسرين أن الوليد بن المغيرة أحد المشركين استمع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { حم ، تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لاإله إلا هو إليه المصير }، فلما فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم أعاد قراءتها، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم فقال : والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ، لا هو من كلام الإنس ولا هو من كلام الجن، إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة ، وإنه لمثمر أعلاه ، مغدق أسفله ، وإنه ليعلو وما يعلى ، وإنه ليحطم ما تحته ، ولا عجب أن يشهد هذا الطاغية بهذه الحقيقة، فمستوى القرآن البلاغي فوق ذلكم، بل فوق كل معارضة ومعاندة . وها هو يُتلى من مئات السنين فلا يشبع منه عالم ولا يمل منه تال أو سامع متدبر، ولا يخلق مع كثرة الرد ، بل يزداد بروز معان جديدة وحكم وأسرار تتجلى بكثرة تكراره، أودعها فيه من جعله تشريعاً وديناً ونظاماً للبشرية جمعاء إلى أن تقوم الساعة.


لا عجب، فمن جعله بهده الصفة هو خالق البشرية والعالم بنفسياتها ومتطلباتها وطبائعها في كل زمان ومكان .


أيها المسلمون ، إن بين ظهرانيكم لكنزاً عظيماً لا ينفد ، ومنهلاً عذباً صافياً لا ينضب ولا يسن أبداً بين ظهرانيكم هذا القرآن الكريم الذي جعله الله لكم مخرجاً من كل فتنة ، ونجاة من كل بلية، جعله لكم هدى ونوراً ورحمة وشفاءً وبركة ، جعله خيراً محضاً . فتلاوته واستماعه طاعة لله ، والعمل له والدعوة إليه طاعة لله ، وإنكم اليوم لفي زمن فتن عظمى تموج أعاصيرها كموج البحار : فتن شهوات وشُبهات، فتن قيل وقال، فتن كقطع الليل المظلم، ولا حولة ولا قوة إلا بالله ، وإنه لا سلامة لكم ولا نجاة ،إلا بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بالقرآن الكريم قولاً وعملاً واعتقاداً ، بالعمل بمحكمه والإيمان بمتشابهه، والتصديق باخباره ، فهوحبل الله القائم بينكم وبينه إن تمسكتم به وصلتم إلى الله ، وإن أفلتموه انقطعتم عن الله .


فاتقوا الله وتمسكوا بكتاب ربكم تمسكاً صادقاً ترى آثاره في أعمالكم وأقوالكم، في آدابكم ومعاملاتكم ، في إقبالكم عليه تلاوة ودعوة وتعلماً وتعليماً وتحاكما وتحكيماً ، في كل شأن من شؤونكم أياً كان اجتماعياً ، أو إقتصادياً ، أو ثقافياً ، أو عسكرياً . فلا يصح أن يحكم بعض القرآن ويعطل بعضه ، كما لا يصح أن يؤمن ببعضه ويكفر ببعضه ، فخذوا به جملة وتفصيلاً ، فما هو إلا التمسك به والنجاة، أو الإعراض عنه والهلاك . يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو داود : ( إني تارك فيكم ما لن تضلوا إذا اعتصمتم به : كتاب الله وسنتي) .


ويقول جل جلاله : { فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى ، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً ، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } .


أقول قولي هذا وأسال الله تعالى أن يرزقنا التمسك بكتابه ، وأن يبارك لنا فيه وأن يفيض علينا من شفائه وهداه إنه خير مسؤول غفور رحيم . 

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...