ثورات العرب فيما بعد الديكتاتوريات

لدي يقين فى زوال الديكتاتوريات العربية جميعها، ورحيل الاستبداد الذى مزق الأمة وخلفها عن ركب الحضارة؛ لكن لدي مخاوف كذلك مما ستنشره هذه الديكتاتوريات من فوضى ودمار بعد هذا الرحيل، والأمر متوقف على وعى الشعوب، وتمييزها بين الوطنى والعميل، والبرىء وصاحب المصلحة، وظنى أن شعوبنا بدأت فى التعافى وصارت لديها القدرة على تشخيص الداء، بدليل إصرارها على بتر نموذجين من هذه الديكتاتوريات من جذورهما فى كل من الجزائر والسودان، مستفيدة بما جرى لإخوانها فى الجولة الأولى للربيع العربى.

ما أسهل انهيار العصابات العربية الحاكمة، فالذى بقى فى الحكم ثلاثين سنة تحوطه أقوى جيوش المنطقة وأمهر أجهزة الأمن، سقط فى ثمانية عشر يومًا عام 2011، وأسقط إخوة السودان نظامهم بمجرد التظاهر ولم يسقط منهم سوى بضعة شهداء إلخ. أما الأصعب فهو استقرار الدول بعد هذه الانتصارات؛ لكثرة التحديات، ومن بينها فلول النظام السابق، والجماعات والدول المستفيدة منه، وأيضًا الممالك والعروش التى تصاب بالقشعريرة لمجرد ذكر الثورة؛ خوفًا من امتدادها إلى شعوبها فتحرق ملكها الفاسد وتبدد عرشها العضوض.

وهذه التحديات وغيرها، مما رأيناها بوضوح عقب الثورة المصرية وحتى الآن، لا تساوى شيئًا أمام التحدى الأكبر وهو دور الغرب والصهاينة؛ فما من ثورة عربية إلا وكان لأمريكا واليهود مخطط لإفسادها، أو نشر الفوضى فى إثرها، والغرب على عهده القديم بأمتنا القعيدة؛ فهو إن كان ترك أرضها بعد احتلال وسلب دام عقود، فإنه لم يتركها خالصة لمواطنيها، وإنما ولَّى عليها «رجالاً!!» من رجالاته، ممن يلبسون لباسنا ويتكلمون لغتنا، لكنهم مع العدو قلبًا وقالبًا. ومن الطبيعى أن يضعوا الخطط ويبتكروا الوسائل إذا سقط أحدهم فى قبضة الشعوب..

من أجل ذلك لجأ الغرب- وصراعنا معه حضارى ودينى- إلى طرق أخرى هدفه منها ألا تستقر دولنا، وألا تنجو شعوبنا، وأن نظل هكذا فى حال الضعف والهوان؛ كى تتغول دولة الكيان الصهيونى، ثم تحقق حلمها فى مملكة يهودية من الفرات إلى النيل، بعد أن يخمد المارد الإسلامى فى نفوس العرب والمسلمين فلا يكون لديهم القدرة على الحرب أو حتى المناوشة.

يخلق الغرب الفتن بين أبناء الشعب العربى الواحد، ويثير النعرات، ويؤلب أطرافًا على أطراف، ويطلق الشائعات يرعب بها الضعيف ليثير طائفيته ويستحث ضغينته إلخ.. وما نراه فى السودان الآن من محاولة تخريب الثورة هو من عمل الغرب؛ ببث الفرقة بين الثوار ولم يمض على كشح النظام المستبد سوى أيام، وهم يعلمون من أين تؤكل الكتف، فيشترون الذمم بالمال أو الوعد بالسلطة أو بالتستر على فضائح شخصية، وفى النهاية يركبونهم كالحمير ليوصلوا الشعب إلى نقطة الصفر، وربما أبعد منها، حتى يندم الناس على قيامهم بالثورة. تمامًا كما حدث للثورة المصرية؛ إذ يترحم البعض على «أيام مبارك!» بعدما صدمهم الواقع على المستويات كافة، وكانت تيارات علمانية قد استجابت لإغراءات الغرب حتى أزاحوا من اختارهم الشعب عن كرسى الحكم وأتوا بنفس الوجوه البائسة التى قامت عليها ثورة يناير؛  فعادوا وفى نيتهم الانتقام، ولديهم العزم على الانسلاخ من كل ما يمتُّ للوطنية بصلة، والارتماء فى حضن الأعداء -وهم من أعادوهم إلى السلطة- ملبّين كل ما يأمرونهم به.

الواقع يؤكد أنه مهما كان خلاف الغربيين؛ فإنهم يتفقون على شىء واحد: محاولة التخلص من الإسلام والمسلمين، وإبقاء بلادهم ومواطنيهم على هذا الوضع المزرى من الفقر والعَوَز. من أجل ذلك يضعون (السيناريوهات)، ولكل منهم دوره المرسوم، وإن بدا الأمر ألا صلة لأحدهم بالآخر أو أنهم مختلفون، لكن الحقيقة أنهم مجتمعون على تدميرنا [انظر سوريا ودور كل من أمريكا وروسيا فى هدمها وتهجير أهلها رغم التنافر الظاهر بين القطبين]، مصممون على إفنائنا؛ فهم لذلك يخترعون أدوات جديدة للالتفاف حول الثورات، عن طريق وكلائهم العرب، منزوعى الضمير، ممن ذكرناهم، والمال يفعل ما لا تفعله الحرب. وللطرافة فإن هذا المال يوخذ من جيوبنا؛ ونضرب المثل أيضًا بالثورة المصرية وما أعقبها من أحداث حتى اليوم؛ فالراعى الأمريكى يخطط، ويضع الميزانية، وساعة التنفيذ يدفع الوكيل الخليجى، وهكذا تسير الأمور.

إننى لا أخشى شيئًا على بلادنا قدر خشيتى من هذه السيناريوهات البغيضة كالتى نراها فى سوريا وليبيا واليمن وفلسطين، فـ(حمير الغرب) فى هذه الدول يقومون بدور المحتل أو أشد، والخلاص منهم أو القدرة عليهم تعنى الحرب الأهلية التى لا تُبقى ولا تذر. من أجل ذلك لا بد أن تكون الشعوب يقظة، خصوصًا ساعة مخاض الثورات؛ إذ فى هذه اللحظة الفاصلة قد يُسرق المولود، أو يُستبدل، وكله بإيعاز الغرب وتحت عينه؛ فلا تسمح شعوبنا بهذه الألاعيب التى تبدو هيّنة فى نظر البعض، لكنها فى الحقيقة هى الخطر ذاته.. والثائر المخلص من لا يأذن بضياع حلمه فى الحرية وعدم التبعية، ولو كلفه ذلك نفسه وماله.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...