إنسانيتنا في الجحيم

لا جديد فيما يحدث، ولا جديد فيما تقرأ وتسمع وتشاهد، فمثل كل مرةٍ تبدأ آلات الحزن التجاري، الاستثماري، في الدوران، من قبل أن يتبيّن أحد حجم الكارثة، أو من أين أتت.

كم مرة قلت لك إنهم جاهزون بمقاطع الفيديو ووصلات العويل البذيء، منزوع الصدق والإحساس، حيث يكون التركيز كله منصبّاً على استحضار الخصوم التقليديين، متهمين بارتكاب الجريمة، والعمل على استثمارها بشكل كامل في التغطية على كوارث وجرائم أخرى للسلطة.

هذا ما يجري مع فاجعة محطة قطارات مصر، كما جرى من قبل في فواجع أخرى عديدة، من حرائق وسيول مغرقة، وقتل للمصريين في الكنائس والمساجد والملاعب والسجون.. وفي سيناء أيضًا.

في كل مرة، يشعرونك وكأنهم كانوا يستعجلون وقوع الكارثة، حتى يمدّوا موائد الوطنية الملوّثة، ويقيموا مهرجانات البكاء المصنوع. وفي هذا الضجيج، يحرقون آخر ما تبقى من ملامح الوطن الحقيقي، ويستبدلون به وطناً صناعياً، مهندساً وراثياً، في معامل أعدائه وكارهيه الفعليين.

على أننا، هذه المرة، انتقلنا من منطقة الوطنية الفاسدة إلى مساحة الإنسانية الفاسدة، تلك الإنسانية التي تحدّث عنها عبد الفتاح السيسي أمام المراسلين والسياسيين الأوروبيين في شرم الشيخ، حين أبدوا انزعاجهم من دوران مقصلة الإعدامات على نحو يؤرّق الضمير الإنساني.

لخص عبد الفتاح السيسي الموضوع كله في جملة واحدة “لن تعلمونا إنسانيتنا.. فهي غير إنسانيتكم”. هذا يساوي بالضبط أن إنساننا يختلف عن إنسانكم.. الإنسان عندنا أرخص من الإنسان عندكم، فلا تحدّثونا عن معايير وقيم إنسانية واحدة.

هذا الخطاب، من الشخص الذي يغرق البلاد في بحيرة من الدماء، يمثّل بالمعايير القانونية الدولية جريمةً عنصريةً ضد الإنسانية، كونه يعبر عن تمييز إثني بين البشر، ويدوس بحذائه على المواثيق الدولية، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فضلًا عن أنه يتناقض مع كل قيم العدالة والمساواة التي أقرّتها الأديان والمذاهب الفلسفية.

ينظر السيسي إلى المصريين باعتبارهم في مرتبةٍ أدنى من كل البشر، لا يستحقون الحرية والديمقراطية، وتليق بهم عقوبة الإعدام، لأن الإنسانية هنا تختلف عن إنسانية العالم الأول.

في هذا الإطار، تأتي فاجعة الجحيم الذي استعر في محطة مصر، إذ حضر، مبكرًا جدًا، التوظيف السياسي، من قبل سلطة تتغذّى على الدم، فاشتغلت فرقة الميكروفون المسعور في الاستوديو المسحور، منذ اللحظة الأولى بالتلميح إلى أن الحادث إرهابي.. مذيع أحضروا له سائق القاطرة التي تسبّبت في الكارثة، أو استدعوه لمحاورة السائق، ليقول إن الحادث يذكّر ب “11 سبتمبر” في 2001 في نيويورك، ويمضي إلى أبعد من ذلك، ليقارن بين طائرتين انفجرتا في برجين، وجرار قطار انفجر في محطة مصر.

ثم يشتعل هذا الجنون المسعور أكثر في حنجرة مذيعٍ آخر، فيقطع بأن السائق تربية إخوانية، وأظن أنهم يدركون في أعماقهم أنهم يردّدون كذبًا، ويسبّحون في محيطات اللامعقول، لكنها العقلية المبرمجة على استخدام كل كارثةٍ وقوداً لمزيدٍ من جرائم النظام ضد البشر، فيقتل ويعذب ويعتقل ويطارد كل من لا يكيّف نفسه مع منظومة القيم القبيحة التي تتحكّم في كل شيءٍ في مجتمع مهزوم ومقهور، تتخطفه جوارح الطغيان من ناحية، وكواسر الرقص الجنائزي الكريه من ناحية أخرى، كلاهما يريد أن يستمر في رقصه المجنون، حتى لو انتهى الأمر بالوطن جثة متفحمة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...