السيسي زعلان.. لماذا تزدهر النكتة السياسية في عهد الديكتاتورية؟

تصل النكتة إلى ما لا تصل إليه حناجر الثوار وتقطع مسافة لا يستطيع غيرها ان يقطعها، وتتجاوز أبوابًا أمنية وحراسًا مدججين بالسلاح وبالصواعق الكهربائية، وتغافل كل كاميرات المراقبة وأجهزة الاستشعار، وتقطع السلالم قفزًا وتمرق من خلال الطرقات وصولا إلى غرفة الديكتاتور وتصعد إلى سريره وتنزع عنه غطاء الرعب، وتصفعه على وجهه.
هذا ما شعر به قائد الانقلاب السفيه عبد الفتاح السيسي، عندما حاول أن يعبر عن غضبه واستيائه جراء سخرية الشعب من أحاديثه التافهة وكلامه المُلغز الغير مفهوم، فقال متقمصًا الدعابة وقلبه يطفح غيظًا إن: “حجم النكت اللي طلع على الوزن الزائد فوق الخيال، ومعرفش هيطلعوا نكت إيه النهاردة؟، وأرجو تنكتوا على مهلكم شوية عليا”.
ولطالما شكّلت آلام الشعوب وتقلّبات الحكم والسياسة مادة خصبة لفن النكتة السياسية والاجتماعية الذي لا يموت، وسواء تناقلها الناس همسًا أو قيلت على مسرح، تلعب النكتة في كثير من الأحيان دور الدواء المهدئ للشعوب، وتلعب أحيانًا أخرى دورًا نضاليًا ضد السلطة، أو دورًا دعائيًا يصبّ في خدمتها!
النكتة مؤشر خطر
ومن المعروف أن الكبت السياسي والاقتصادي والقمع يولد انفجار النكتة قبل الثورة، ومن واقع الألم تولد السخرية التي اختارها الشعب المصري لتهوين ممارسات الديكتاتورية العسكرية، فخرجت النكتة السياسية المضحكة المبكية في آن واحد، شعب “ابن نكتة” اعتاد تحويل آلامه إلى منبع لضحكات ذابت في مرارتها، وبرغم ذلك لم يسلم المواطن من ردود فعل الديكتاتور التي انتهجت “تنغيص عيشة” المصريين.

واستنكر السفيه السيسي خلال افتتاح فنكوش أطلق عليه “بشاير 2″، بمحافظة الإسكندرية، قائلاً: “حد يقول بعاير .. هعاير أهلي؟!، المصريين أهلي وهفضل أبص عليهم، علشان اطمن على ولادى اللي هما مستقبل بكره هما بياكلوا إيه؟”، على حد زعمه.
ودعا السفيه السيسي الآباء الذين لا يجدون عملاً في ظل الانهيار الاقتصادي، والأمهات اللائي يجدن مرارة في الأسواق بعدما عجزن عن شراء كيلو لحم لأطفالهن، بضرورة الاهتمام بتنوع الغذاء، قائلاً: “بقول لكل أم وأب في البيت خاللي بالك من صحة طفلك، بعض الأكلات بتتخن وتضعف من قوته وصحته وتزود وزنه”!.
وليست هذه المرة الأولى التي يكتم السفيه السيسي غيظه جراء سخرية واستهزاء الشعب منه، فقد سبقها بأشهر قليلة تعليق السفيه على هاشتاج “ارحل يا سيسي”، قائلًا: “إحنا دخلونا في أمة ذات عوز، أمة الفقر، دخلونا فيها، ولما أجي أخرج بيكم منها يقولك هاشتاج ارحل يا سيسي، لما أجي أخرجكم من العوز، وأخليكم أمة ذات شأن تقولوا ارحل يا سيسي، ازعل ولا ما ازعلش، في دي ازعل”.
يخشاها الديكتاتور
تقول نتائج دراسة أجراها مركز البحوث الجنائية والاجتماعية بالقاهرة، حول سمات الشخصية المصرية بالأخص النكتة: “إن النكتة مخرج فردي من هموم ومتاعب شخصية ناتجة عن أزمة عامة”.
وتمثل النكتة السياسية أهم سمات الرأي العام المصري، وذلك ما علمته عصابة العسكر جيدًا، فذكر الكاتب الصحفي عادل حمودة في كتابه “النكتة السياسية” أنه يوجد بمصر 59 مركزًا للإعلام الداخلي تابع لهيئة الاستعلامات التي تديرها المخابرات، والتي من شأنها جمع النكات ضمن ما يقوله الرأي العام لإرساله للقاهرة وكتابته في نسخة تقرير سرية، تُرفع لرئيس الهيئة ومنها للديكتاتور، يتولى كتابته شخص واحد هو المسئول في حالة حدوث أي تسرب لمعلومات التقرير.
وأكدت الباحثة البريطانية “سيرلان دايتون” في أحد بحوثها أن “أول نكتة في التاريخ قالها مصري قبل 4550 عامًا على جدران المعابد المصرية”، وهذا ما أكده كتاب “أضحك على الرئيس” للكاتب الصحفي “منتصر جابر”، مشيرًا إلى أن السخرية سلاح مصري قديم يعود لما يقرب من 46 قرنا.
وفي عصر الملك سنفرو أبو الملك خوفو صاحب الهرم الأكبر جنوبي القاهرة، وأن أول نكتة كانت عندما “طُرح سؤال عن رفع معنوية الملك في رحلة الصيد، فكانت الإجابة بإلقاء أحد العبيد في النيل نكتة دون علم الملك وصرخ بأعلى صوت هناك سمكة كبيرة يا سيدي”.
واعتبرت الديكتاتورية النكتة السياسية جريمة توجب العقاب، ورد في كتب التاريخ أن “يوليوس قيصر” حاكم روما غضب من النكات السياسية التي أطلقها خصمه “سيسرو”، فكان “يوليوس” ينشر جواسيسيه في المدينة لرصد تلك النكات، فهل يفعلها السفيه السيسي؟
وأورد العقاد في مقال بعنوان “النكتة المصرية” أن الإمبراطور الروماني أصدر قرار بمنع اشتغال المصريين بالمرافعات القضائية لخلطهم بين الجد والهزل، وذلك بعدما أطلق المصريون النكات والفكاهات على عدوهم عقب هزيمتهم على أيدي الرومان.
الوالي كاكا!
ولم يتوقف المصريون عن سخريتهم من آلامهم، فسخروا من “نابليون بونابرت” وجنوده بصنع تماثيل من الحلوى والاستهزاء بهم، مما دفعه لإطلاق فتاوي تحرم النكات ضده، كما سخر المصريون من محمد على وأطلقوا عليه اسم “كاكا”.

وفي عهد أبو الهزائم الانقلابي جمال عبد الناصر، وجه خطابًا للشعب يطلب منهم التوقف عن إطلاق النكات السياسية عن الجيش، بعد هزيمة 67 لأنها تؤثر على معنويات جنرالات الخراب، وحرص أبو الهزائم على مراجعة التقرير الأسبوعي من وزارة الإرشاد القومي، عن أبرز اتجاهات الرأي العام، ومن بينها النكات المنتشرة بين الناس المتعلقة بالأسعار والتموين.
ويحكى أن هناك رجلًا في عهد أبو الهزائم عبد الناصر كان يسير في الشارع وصرخ قائلًا “منك لله يا عبد الستار” فضربه مخبر على “قفاه” قائلًا “وكمان مش عارف اسم الريس؟”، فهل يتكرر السيناريو وتقوم النكتة بخلخلة عرش السفيه السيسي في انتظار أيادي المصريين لتسقطه؟ربما يعلم السفيه السيسي ذلك جيداً، لأنه تعلم من رأس الذئب الطائر المخلوع مبارك؛ حيث انتشرت في آواخر عهده النكات السياسية لاعتماده على سياسية “خليهم يتسلوا”، كما قال في إحدى خطاباته بالبرلمان، بالأخص قبل اندلاع ثورة يناير، وتوالي النكات التي تسخر من رموز نظام مبارك بشكل مباشر وصريح، وكان أبرزها “بيقولوا للريس قبل الانتخابات مش هتودع الشعب ولا إيه؟ قالهم “ليه هو الشعب رايح فين”؟ وغيرها من النكات التي سخرت من الغلاء والقمع والتوريث.
لا تصدر النكتة السياسية على السفيه السيسي، ليضحك القراء على الفيس بوك وتويتر فقط، فدراسة نوعية النكات التي كانت تقال فترة حكم هتلر التي دامت اثنتي عشرة سنة، تكشف شكل من المقاومة وتنفيس الغضب في حكم الرايخ الثالث الذي راح يهدد الأقليات والجوار غزواً وبطشاً وإبادة، والعجيب هو كيف تستنسخ الديكتاتوريات نفسها وتجترّ الأساليب ذاتها، من غير أن تعي أن المقدمات ستقود بالضرورة الى النهايات نفسها. حتى النكات التي تعلق على هتلر لا تختلف عن السيسي، ومقابل القمع الشديد تتشابه في منطقها النكات ولو اختلفت في التفاصيل، فهي تريد أن تقول: “أنا أضحك، اذاً أنا أقاوم الديكتاتور”.
x

‎قد يُعجبك أيضاً

في الذكرى التاسعة للثورة.. مواقع التواصل تغرد «ثورة الغضب 25»

في الخامس والعشرين من يناير كل عام، يحيي المصريون ذكرى ثورتهم الخالدة التي أطاحت برأس ...