أكد تقرير لـ “معاريف” الإسرائيلية أن هناك استياءاً في تل أبيب من الإخفاق المصري المستمر في القضاء على تنظيم داعش في سيناء، رغم الدعم اللوجستي من المخابرات الإسرائيلية والأمريكية والألمانية والفرنسية، ورغم الغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة، على مناطق ظل عجز النظام عن اقتحامها مستمراً، كان آخرها ” منطقتي بلعا وحي الرسم، التي فشل الجيش المصري على مدار الأسابيع الماضية في اقتحامها، بسبب تصدي مجموعات عسكرية تابعة لتنظيم “ولاية سيناء” لهذه الحملات العسكرية، ما أدى إلى فشلها، إضافة إلى استهداف عناصر من التنظيم وكذلك مهربين على الحدود من خلال غارات دقيقة”.
وبحسب العربي الجديد، نقلاً عن مصادر قبلية، فإن الغارات الإسرائيلية مستمرة على قرى ومدن شمال سيناء تستهدف عناصر تنظيم داعش، وقد أسفرت هذه الهجمات عن خسائر في صفوف التنظيم؛ فقد أعلن التنظيم مقتل عدد من قياداته الميدانية في غارات جوية من طائرات مصرية وإسرائيلية.
استمرار التنظيم وبقائه رغم الحرب المعلنة عليه منذ شهور “العملية العسكرية الشاملة”، والدعم الواسع من أجهزة استخباراتية عالمية للقوات المصرية، والتسليح والتمويل، والغارات الجوية الإسرائيلية المستمرة، يصبح الفشل خليقاً بكل هذه الاستخبارات المشاركة في استهدافه، وليست محصورة في الجانب المصري.
لكن التساؤل الهام في هذا التوقيت يكون عن العوامل التي منحت التنظيم القدرة على الصمود في مواجهة الحرب المعلنة عليه. ستظل الإجابة على هذا التساؤل من باب التخمين والتوقع في ظل حالة التعتيم المحيطة بالمشهد، وفق قرار رسمي يرغب في بقاء المعركة بعيدة عن الرأي العام.
مع ذلك يطرح المشتغلون بحركات العنف المسلح جملة من التفسيرات لتبرير أسباب استمرار هذه الكيانات رغم الحروب المعلنة عليهم من جانب جيوش نظامية، وبالتعاون مع أجهزة استخباراتية محترفة؛ سنحاول استقراء هذه التفسيرت في واقع تنظيم داعش في سيناء،
للوقوف على أيها أكثر قدرة على قراءة ما يجري في سينا، في هذه السطور.
التفسير الأول … الجغرافيا:
من الناحية الجغرافية لا يعد الساحل الشمالي الشرقي لشبه جزرة سيناء منطقة وعرة؛ إذ توجد جبال سيناء الوعرة في الجنوب (مثل جبل كاترين 8668، وجبل سيناء 7497)، وهي منطقة تقع خارج نطاق الموجهات بين الجيش والمتمردين . وبالتالي المتغير الجغرافي غير كافي لتفسير أسباب استمرار تنظيمات العنف المسلح في سيناء رغم مرور سنوات على إعلان الحرب عليهم.
لكن البعد الجغرافي يظل مؤثراً في الصراع الدائر في سيناء من وجهين: الأول ما يعرف بـ “تدرج فقدان القوة”، ويعني أنه كلما كان القتال أبعد عن المركز، وأشد في الأطراف، زاد احتمال فقدان قوات النظام قوتها على نحو متدرج . الثاني ويشير إلى “تدرج فقدان الدقة”، ويعني أن هجمات النظام لفترات طويلة المدى تكون أكثر عشوائية وأقل دقة (في قتل المتمردين) من الهجمات قصيرة المدى، ومن هنا يحدث نفور المدنيين نتيجة انعدام الدقة والقتل العشوائي (وقتل المدنيين المصريين نتيجة فقدان الدقة شائع في سيناء) .
التفسير الثاني … السكان:
الولاءات بين سكان سيناء متعددة، إذ يوجد تقريبا في كل قبيلة أو عشيرة في الشمال الشرقي لسيناء حيث تشتعل المواجهات، أعضاء وأنصار ومؤيدون لتنظيمات العنف المسلحة، ومخبرون، وقبليون مسلحون موالون للنظام. هذه الولاءات الموزعة نلمسها في البدو كما نجدها في المناطق الحضرية. في الدليل الميداني لعمليات مكافحة التمرد لقوات المشاة البحرية في الجيش الأمريكي ” أن عمليات التمرد تمثل تنافساً على الولاء، بين جمهور لا يتبع معظمه ولاء معينوبين آخرين إما يقفون إلى جانب النظام أو الثوار، وأن النجاح يتطلب إقناع هذا الجمهور بالاصطفاف إلى جانب قوات النظام عبر كسب قلوبهم وعقولهم” .
ويبدو أن الجيش قد خسر معركة الولاء في حربه مع تنظيمات العنف المسلح، نتيجة ركام من الممارسات السلطوية العنيفة بحق السكان ممتد على مدار سنوات؛ بدأت عقب الانسحاب الاسرائيلي من سيناء سنة 1982، إذ وضعت سياسات أمنية واجتماعية للمنطقة في إطار كونها تهديداً محتملاً أكثر من كونها فرصة محتملة، واعتبر السيناوي مخبر محتمل أو جاسوس محتمل أو إرهابي محتمل أو مهرب محتمل بدل من كونه مواطن. في برقية نشرها موقع ويكيليكس، قال مسئول كبير في الشرطة المصرية في سيناء لوفد رسمي أمريكي زائر “إن البدوي الجيد في سيناء هو البدوي الميت”.
تفاقمت السياسات القائمة على هذا التصور، في : سنة 2000 مع اندلاع الانتفاض الفلسطينية الثانية، وبعد تفجيرات نويبع وطابة في اكتوبر 2004، وبعد تفجيرات شرم الشيخ في 2005، والذي أعلنت جماعة التوحيد والجهاد في سيناء مسئوليتها عنه، وباتت السمة الرئيسية للسياسات الأمنية في هذه المنطقة الجمع بين القمع ومحاولات استقطاب الزعماء القبليين ليقدموا معلومات استخباراتية. وكانت موجات العنف الرسمي هي الردود المصاحبة لأية من هذه الأحداث.
باتت هذه العلاقة القائمة على القمع والكراهية المتبادلة، راسخة في وجدان المواطن السيناوي؛ وظهرت تجلياتها عقب أحداث 3 يوليو 2013، وخاصة بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة؛ فقد قال أحد سكان الشيخ زويد، سبق أن اعتقل لمدة شهر في عام 2004، وأطلق سراحه دون أن توجه إليه تهمة: “كنا نعرف أن التعذيب في طريقه إلينا، وأنها مسألة وقت”، وفي اغسطس 2013، عقد دعاة سلفيون سنة وشخصيات عامة مؤتمراً عاماً في مدينة الشيخ زويد، طالب فيه أحد الخطباء بتشكيل مجلس حرب لدرء موجة متوقعة من القمع.
وقد استغلت تنظيمات التطرف العنيف انتشار حالة من الذعر بين الأهالي في استقطابهم، فبدأت في تبني خطاب جيد يقوم عى فكرة أن التنظيم “يدافع عن مسلمي مصر ضد هجمة جيش من المرتدين”. وهو ما يفسر اشتداد الهجمات الإرهابية بعد 30 يونيو 2013، فقد كان الخوف من عودة الدولة لممارسة القمع بحق الأهالي في سيناء هو الوقود المغذي لكل هذا العنف المندلع هناك.
التفسير الثالث … القدرات العسكرية للتنظيم:
لم يشهد تاريخ حركات التمرد في مصر مثيلاً للقدرة القتالية لتنظيم ولاية سيناء، بما فيها التمرد المسلح في صعيد مصر في الفترة 1992 – 1997، ومواجهات الفترة 1952 – 1954 في القاهرة الكبرى .
يستخدم التنظيم نوعين من التكتيكات والعمليات الميدانية؛
الأول: هو التكتيكات الشائعة في عمليات “إرهاب المدن” مثل السيارات المفخخة والهجمات الانتحارية والاغتيالات الفردية.
والثاني: هو حرب المغاوير، وفيه تتبع وحدات صغيرة تكتيك “اضرب واهرب” ضد أهداف عسكرية وأمنية، وعادة ما تكون أسلحتها خفيفة وتتجنب أي مواجهة مباشرة ممتدة مع قوات النظام .
على صعيد موارد التنظيم، يمثل التسليح والتدريب والتجنيد الأركان الأهم في تدعيم نشاطاته المسلحة. يحصل التنظيم على أسلحته من ليبيا ومن الهجمات التي يشنها على قوات الجيش والشرطة.
ويستمد قدراته العسكرية من ثلاث فئات من أعضائه؛
الفئة الأولى: أفراد منشقون عن القوات المسلحة المصرية.
الفئة الثانية: مقاتلون متمرسون في المعارك تدربو في ساحات قتال خارجية كقطاع غزة وسورية والعراق. الفئة الثالثة: متمردون محليون راكموا خبرة كبيرة على مدى العقد الماضي في المواجهات مع القوات النظامية وفي بناء شبكات دعم لوجستي .
التفسير الرابع … رغبة الجيش في الفشل:
إن هدف الجيش احتواء هذه التنظيمات وإضعافها دون تدميرها؛ والهدف: الحفاظ على الشرعية الدولية، وتحويل الانتباه عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، والحفاظ على تدفق الدعم اللوجستي، بما في ذلك الأسلحة والمعدات والأموال، على أساس أن النظام لا يزال في صراع مع تنظيم متطرف ذي قدرة عسكرية تابع لتنظيم الدولة الأشد تطرفاً وفتكا في المنطقة .
الخاتمة:
إضافة إلى هذه المتغيرات التي تسلط الضوء على أسباب قدرة تنظيمات العنف المسلح في سيناء على البقاء رغم الحرب المعلنة عليهم، بقي أن نشير إلى أن السياسة ثلاثية الأركان: القمع، المخبرين، البروباجندا. التي يتبعها النظام في مواجهة هذه التنظيمات، تقوض بعضها بعضا؛ فالقمع يؤثر سلباً على المخبرين أو المتعاونين أو المؤيدين المحتملين، والبروباجندا رديئة المستوى تؤثر بالسلب على صدقية الجيش، والقمع يؤكد كذب البروباجندا وينفر من التأييد والتعاون بدوره، عبر حلقة مغلقة تغذي التطرف العنيف وتغذي استمراره .