إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ

بين نصر العبد للرب في مرحلة ما قبل النصر , إلي نصر الرب للعبد في مرحلة النصر , إلي تثبيت الرب للعبد في مرحلة ما بعد النصر بآماد بعيدة , يحدثنا القرآن الكريم فيقول تعالي :
( (7)) – محمد-
في القرطبي :
أي إن تنصروا دين الله ينصركم على الكفار, نظيره: ( وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ) – الحج : 40- ,
وقال قطرب: إن تنصروا نبي الله ينصركم الله، والمعنى واحد ,
( وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) أي عند القتال , وقيل : على الإسلام , وقيل : على الصراط.
وقيل : المراد تثبيت القلوب بالأمن، فيكون تثبيت الأقدام عبارة عن النصر والمعونة في موطن الحرب.
وكيف ينصر المؤمنون الله , حتى يقوموا بالشرط وينالوا ما شرط لهم من النصر والتثبيت ?
في الظلال :
(1) نصر الله في ذوات النفوس :
– إن لله في نفوسهم أن تتجرد له , وألا تشرك به شيئا , شركا ظاهرا أو خفيا , وألا تستبقي فيها معه أحدا ولا شيئا ,
– وأن يكون الله أحب إليها من ذاتها ومن كل ما تحب وتهوى ,
– وأن تحكمه في رغباتها ونزواتها وحركاتها وسكناتها , وسرها وعلانيتها , ونشاطها كله وخلجاتها . .
فهذا نصر الله في ذوات النفوس .
(2) نصر الله في واقع الحياة :
وإن لله شريعة ومنهاجا للحياة , تقوم على قواعد وموازين وقيم وتصور خاص للوجود كله وللحياة .
ونصر الله يتحقق بنصرة شريعته ومنهاجه , ومحاولة تحكيمها في الحياة كلها بدون استثناء ,
فهذا نصر الله في واقع الحياة .
شرط الله على الذين آمنوا :
– ونقف لحظة أمام قوله تعالى: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ). . وقوله: (إِن تَنصُرُوا اللَّهَ). .
في كلتا الحالتين . حالة القتل وحالة النصرة :
يشترط أن يكون هذا لله وفي سبيل الله , وهي لفتة بديهية , ولكن كثيرا من الغبش يغطي عليها عندما تنحرف العقيدة في بعض الأجيال , وعندما تُمْتَهَنُ كلمات الشهادة والشهداء والجهاد وترخص , وتنحرف عن معناها الوحيد القويم .
يعني أنه :
– لا جهاد , ولا شهادة , ولا جنة , إلا حين يكون الجهاد في سبيل الله وحده , والموت في سبيله وحده , والنصرة له وحده , في ذات النفس , وفي منهج الحياة .
– ولا جهاد ولا شهادة ولا جنة إلا حين يكون الهدف هو أن تكون كلمة الله هي العليا , وأن تهيمن شريعته ومنهاجه في ضمائر الناس وأخلاقهم وسلوكهم , وفي أوضاعهم وتشريعهم ونظامهم على السواء .
عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال: سئل رسول الله – صلي الله عليه وسلم – عن الرجل يقاتل شجاعة , ويقاتل حمية , ويقاتل رياء , أي ذلك في سبيل الله ? فقال:\” من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله \” .
وليس هنالك من راية أخرى , أو هدف آخر , يجاهد في سبيله من يجاهد , ويستشهد دونه من يستشهد , فيحق له وعد الله بالجنة , إلا تلك الراية وإلا هذا الهدف , من كل ما يروج في الأجيال المنحرفة التصور من رايات وأسماء وغايات !
ويحسن أن يدرك أصحاب الدعوة هذه اللفتة البديهية , وأن يخلصوها في نفوسهم من الشوائب التي تعلق بها من منطق البيئة وتصور الأجيال المنحرفة , وألا يلبسوا برايتهم راية , ولا يخلطوا بتصورهم تصورا غريبا على طبيعة العقيدة .
لا جهاد إلا لتكون كلمة الله هي العليا :
– العليا في النفس والضمير … والعليا في الخلق والسلوك …
– والعليا في الأوضاع والنظم … والعليا في العلاقات والإرتباطات في كل أنحاء الحياة …
– وما عدا هذا فليس لله . ولكن للشيطان … وفيما عدا هذا ليست هناك شهادة ولا استشهاد …
وفيما عدا هذا ليس هنالك جنة ولا نصر من عند الله ولا تثبيت للأقدام ….
وإنما هو الغبش وسوء التصور والانحراف .
وإذا عز على غير أصحاب الدعوة لله أن يتخلصوا من هذا الغبش وسوء التصور والانحراف , فلا أقل من أن يخلص الدعاة إلى الله أنفسهم ومشاعرهم وتصورهم من منطق البيئة الذي لا يتفق مع البديهة الأولى في شرط الله
وبعد فهذا شرط الله على الذين آمنوا .
فأما شرطه لهم فهو النصر وتثبيت الأقدام :
وعد الله لا يخلفه . فإذا تخلف فترة ; فهو أجل مُقَدَّرٌ لحكمة أخرى تتحقق مع تحقق النصر والتثبيت , ذلك حين يصح أن المؤمنين وفوا بالشرط ثم تخلف عنهم – فترة – نصر الله .
معنى التثبيت على النصر :
ثم نقف لحظة أمام لفتة خاصة في التعبير: (يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ). .
إن الظن يذهب لأول وهلة أن تثبيت الأقدام يسبق النصر , ويكون سببا فيه , وهذا صحيح .. ولكن تأخير ذكره في العبارة يوحي بأن المقصود معنى آخر من معاني التثبيت : معنى التثبيت على النصر وتكاليفه .
فالنصر ليس نهاية المعركة بين الكفر والإيمان , وبين الحق والضلال …
فللنصر تكاليفه في ذات النفس وفي واقع الحياة …
للنصر تكاليفه في عدم الزهو به والبطر , وفي عدم التراخي بعده والتهاون ….
وكثير من النفوس يثبت على المحنة والبلاء .. ولكن القليل هو الذي يثبت على النصر والنعماء .
وصلاح القلوب وثباتها على الحق بعد النصر منزلة أخرى وراء النصر , ولعل هذا هو ما تشير إليه عبارة القرآن . والعلم لله .

وما يشير إليه قوله تعالي :
(وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) ) – الحج –
قال ابن كثير :
(وصف نفسه بالقوة والعزة , فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديرا , وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب , بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه , ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور وعدوه هو المقهور, قال الله تعالى ( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) وقال تعالى ( كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)
فوعد الله المؤكد الوثيق المتحقق الذي لا يتخلف هو أن ينصر من ينصره . .
فمن هم هؤلاء الذين ينصرون الله , فيستحقون نصر الله , القوي العزيز الذي لا يهزم من يتولاه ?

إنهم هؤلاء:
– (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ). . فحققنا لهم النصر , وثبتنا لهم الأمر : :
1- (أَقَامُوا الصَّلَاةَ) . . فعبدوا الله ووثقوا صلتهم به , واتجهوا إليه طائعين خاضعين مستسلمين . .
2- (وَآتَوُا الزَّكَاةَ). . فأدوا حق المال , وانتصروا على شح النفس ,
وتطهروا من الحرص , وغلبوا وسوسة الشيطان ,
وسدوا خلة الجماعة , وكفلوا الضعاف فيها والمحاويج ,
وحققوا لها صفة الجسم الحي – كما قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم – : \”مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى \” . .
3- (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ). . فدعوا إلى الخير والصلاح , ودفعوا إليه الناس . .
4- (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ). . فقاوموا الشر والفساد ,
وحققوا بهذا وذاك صفة الأمة المسلمة التي لا تبقى على منكر وهي قادرة على تغييره , ولا تقعد عن معروف وهي قادرة على تحقيقه . .
يقول الإمام الغزالي – رحمه الله – :
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين , وهو المُهِمُّ الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ,
ولو طُوِيَ بساطه , وأُهْمِلَ علمُه وعمله , لتعطلت النبوة , واضمحلت الديانة , وعَمَّت الفترة , وفَشَتْ الضلالة , وشاعت الجهالة , واستشري الفساد , واتسع الخرق , وخربت البلاد , وهلك العباد , ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد .
وقد كان الذي خِفْنا أن يكون , فإنا لله وإنا إليه راجعون ,
إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه , وانْمَحَلَّ بالكلية حقيقته ورسمه ,
واستولت علي القلوب مداهنة الخلق , وانمحت عنها مراقبة الخالق , واسترسل الناس في اتباع الهوي والشهوات استرسال البهائم ,
وعَزَّ علي بساط الأ{ض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم ,
فمن سعي في تلافي هذه الفترة , وسد هذه الثُّلمة , إما متكفلا بعملها , أو متقلدا لتنفيذها , مجددا لهذه السنة الدائرة , ناهضا بأعبائها , ومتشمرا في إحيائها ,
كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضي الزمان إلي إماتتها , ومستبدا بقُربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها . – إحياء علوم الدين –
هؤلاء هم الذين ينصرون الله , إذ ينصرون نهجه الذي أراده للناس في الحياة , معتزين بالله وحده دون سواه . وهؤلاء هم الذين يعدهم الله بالنصر على وجه التحقيق واليقين , والتثبيت علي النصر ومقتضياته بعد ذلك .
فمن ذا الذي يستهين بهذه التبعة ? وهي تبعة تقصم الظهر , وترعد الفرائص , وتهز المفاصل ?!
فلا استمرار فيها إلا بعون الله , ولا تحمل لها إلا بمدد منه سبحانه , ولا ثبات عليها إلا بإخلاص الوجه له ,
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)) – محمد-
وصلي الله علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...