مراتب الورع

الحمد لله رب العالمين .. حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا والصلاة والسلام على رسول الله وبعد
مراتب الورع :ـ
ترك الشبهات :ـ
الوقوف عند الشبهات واتقائها ، فإن الحلال المحض لا يحصل للمؤمن في قلبه منه ريب والريب :بمعنى القلق والاضطراب بل تسكن إليه النفس،ويطمئن به القلب ،وأما المشتبهات فيحصل بها للقلوب القلق والاضطراب الموجب للشك
عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ؛ فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ..الحديث.
فسّر الإمام أحمد رحمه الله الشبهة بأنها منزلةٌ بين الحلال والحرام، وقال: من اتقاها فقد استبرأ لدينه، وفسرها تارة باختلاط الحلال والحرام
وكذلك فإن الاستبراء للدين مهم جدًا في حياة الدين المسلم، والإنسان قد لا يشبع من الشبهة وقال الثوري رحمه الله في الرجل يجد في بيته الأفلس والدراهم: أحب إليّ أن يتنزّه عنها إذا لم يدري من أين هي.
ترك ما لا تطمئن له نفس المؤمن:
كقوله صلى الله عليه و سلم عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ: «الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ . مسلم
وحين جاء وابصةُ بن معبد إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال له صلى الله عليه و سلم: «جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ… اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ». رواه أحمد
وذلك التوجيه للإنسان المؤمن، أما الفاسق والفاجر فإن الإثم لا يحوك في صدره، بل ربما يتلذذ بالمعاصي، ويستمتع بالآثام، وهي متع ظاهرة، وتلذذ مغشوش، ولكن المسلم يجد لصدره انفساحًا، ولفؤاده انشراحًا مع البر ودروبه، ويجد في صدره ضيقًا، وفي قلبه حرجًا حين التلبس بالإثم ودواعيه.
ومن ذلك أيضا ما رواه الحسن بن علي بن أبي طالبٍ، سِبطِ رسول الله صلى الله عليه وسلم وريحانتِه رضي الله عنهما، قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم(دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك))؛ رواه الترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.
وقال صلى الله عليه وسلم ، قال : لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا مما به بأس
وقال سفيان بن عيينة : لا يصيب عبد حقيقة الإيمان حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزا من الحلال ، وحتى يدع الإثم وما تشابه منه.
وكان النبي صلي الله عليه وسلم يطبق هذا جيدا وكان حريصا عليه صلي الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : إنى لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي فأرفعها لآكلها ، ثم أخشى أن تكون من الصدقة فألقيها.
وقال عمر رضي الله عنه (كنَّا نَدَعُ تسعةَ أعشار الحلال؛ مخافةَ الوقوع في الحرام.
و قال ابن المبارك: “لأنْ أرُدَّ دِرْهمًا من شُبْهَةٍ؛ أحبّ إليَّ من أن أتصدَّق بمائة ألفٍ”.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم: «اشترى رجل من رجل عقارًا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرةً فيها ذهب، فقال له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني، إنما اشتريتُ منك الأرضَ ولم ابتع منك الذهب، وقال الذي له الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل، فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولدٌ؟ قال أحدهما: لي غلامٌ، وقال الآخر: لي جاريةٌ. قال: أنكحوا الغلامَ الجاريةَ، وأنفقوا على أنفسهما منه وتصدقا».
كان هذا في أهل الأمم ممن كانوا قبلنا، وإليك نماذج أخرى سريعة تطبيقية من حال سيد الورعين صلى الله عليه و سلم ومن حياة صاحبيه رضي الله عنهم.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الحسن بن علي رضي الله عنهما أخذ تمرةً من تمر الصدقة فجعلها في فيه، فقال له النبي صلى الله عليه و سلم بالفارسية: «كخ كخ، أما تعرف أنا لا نأكل الصدقة»
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان لأبي بكر غلامٌ يخرج به الخراج، وكان أبو بكر يأكل من خراجه، فجاء يومًا بشيء فأكل منه أبو بكر، فقال الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر: وما هو؟ قال: كنتُ تكهّنت لإنسان في الجاهليةِ وما أُحسِن الكهانةَ إلا أنني خدعتُه فأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلتَ منه. فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه» وفي رواية فيقل له: أرفق بنفسك لا تخرج روحك، قال: والله لو لم تخرج إلا بها لأخرجتها، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به
وهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان فرض للمهاجرين الأولين أربعةَ آلاف في أربعة، وفرضَ لابن عمر ثلاثة آلاف وخمسمائة. فقيل له: هو من المهاجرين، فلم نقصتَه من أربعة آلاف؟ فقال: إنما هاجرَ به أبواه، يقول: ليس هو كمن هاجر بنفسه .
وعن ابن شهاب: قال ثعلبة بن أبي مالك: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قسم مروطًا بين نساءٍ من نساء المدينة، فبقي مرطٌ جيد، فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين! أعطِ هذا ابنة رسول الله صلى الله عليه و سلم التي عندك، يريدون أم كلثوم بنت علي، لأن عمر تزوجها فتكون حفيدة النبي صلى الله عليه و سلم، فقال عمر: أم سليط أحقّ، و أمُّ سليط هي من نساء الأنصار، ممن بايع رسول الله صلى الله عليه و سلم، قال عمر رضي الله عنه: فإنها كانت تزفر تخيط لنا القرب يوم أحد
ترك المؤمن ما لا يعنيه:
قال ابن القيم رحمه الله:وقد جمع النبي صلى الله عليه و سلم الورع كله في كلمة واحدة، فقال: «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ».حسن رواه الترمذي.
فهذا يعم الترك لما لايعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع. فعن عائشة رضي الله عنها: ( وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ما علمت؟ أو ما رأيت؟ فقالت: يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني ، تعاليني وتفاخرني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فعصمها الله بالورع ) (البخاري ومسلم).
ولا ريب أن حفظ اللسان والفرج والبطن والسمع والبصر، كل ذلك من عوامل النجاة }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36){ الإسراء.
حفظ الحدود والوقوف عندها:ـ .
الحفظ لحدود الله هي أعظم مراتب الورع في حياة أهل الإيمان في عبادة، لذا تكرر لفظ الحفظ وما وافق معناه في كتاب الله تعالى كثيرًا، فمن مثل ذلك قول الكريم} حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ(238)}
وقوله تعالى ) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)}{المؤمنون].
ويأمرنا عز وجل }وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ (
وقال في الصفات الإيمانية للمجاهدين } وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ(112){ التوبة .
والحدود كلها رحمة من الله، ونعمة على الجميع.
فهي للمجتمع طهرة من إثم المعصية، وكفارة عن عقابها الأخروي، وهي له ولغيره رادعة عن الوقوع في المعاصي، وهي ضمان وأمان للأمة على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبإقامتها يصلح الكون، ويسود الأمن والعدل، وتحصل الطمأنينة.
قال الله تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا(125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى{
وعَن أَبي ثَعْلبةَ الْخُشَنِيِّ جُرثُومِ بنِ ناشر رضي اللهُ عَنْهُ عَن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: إنَّ اللهَ تَعَالى فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْها. حديثٌ حسنٌ رواه الدار قطني وغيرُه
وحدود الله تعالى ثلاثة أنواع:
الأول: حدود الله التي نهى عن تعديها.
وهي كل ما أذن الله تعالى بفعله على سبيل الوجوب أو الندب أو الإباحة، والاعتداء فيها يكون بتجاوزها ومخالفتها، وهي التي أشار الله إليها بقوله سبحانه
}تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ {
فقد اعتبر القرآن الكريم العلاقة بين الرجل والمرأة ، حد من حدود الله تعالي
فقال عن الطلاق ( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ ).
وقال تعالي بعد الحديث عن الظهار } وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ{
وإذا انتقلنا إلي سورة النساء في اﻵية 13 والتي تحدد أنصبة الميراث في الأحوال المختلفة وتؤكد علي أن الالتزام بالأنصبة هو تطبيق لحدود الله
فقال تعالي ( تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار{ .
وفي الوقت الذي تتحدث فيه اﻵية التي تليها في نفس السورة علي ضرورة عدم عصيان الله ورسوله بالتعدي علي حدوده ،
فقال تعالي) ومن يعص الله ورسوله ويتعدي حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين ) .
الثاني: المحارم التي نهى الله عنها وهي المحرمات التي نهى الله عن فعلها كالزنا وهي التي أشار الله إليه بقوله سبحانه}
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ {
الثالث: الحدود المقدرة الرادعة عن محارم الله كعقوبة الرجم والجلد والقطع ونحوها.
فهذه يجب الوقوف عندما قدر فيها بلا زيادة ولا نقصان، وهي المقصودة هنا.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...