امتهان الزي الأزهري في الجونة!

كان الشيخ محمد سعاد جلال (المتوفى سنة 1983) أزهريا، تخرج في جامعة الأزهر، وكانت له ميول ماركسية، ويفتي بأن “البيرة حلال”، وقد كتب هذا في عموده اليومي بجريدة “الجمهورية”، “قرآن وسنة”، ووصفه الشيخ عبد الحميد كشك بـ”الشيخ بيرة”!

وكان الشيخ “سعاد” يرتدي الزي الأزهري في المناسبات العامة، ليؤكد انتماءه للمؤسسة الدينية الأعرق في العالم، ويبدو أنه كان قادما من اجتماع بحزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بوسط القاهرة، ولم يتسن له التخلص من لباسه الأزهري، فذهب به إلى مقهى “الحرية” الشهير بمنطقة “باب اللوق”، وهو “مقهى” و”بار” في نفس الوقت، يقدم “البيرة” كما يقدم المشروبات الأخرى، وهناك طلب من “النادل”، الذي كان يعرفه، باعتباره من “عمّار المكان”؛ زجاجة “بيرة مشبرة”، وربما فاجأه “النادل” بامتناعه عن تلبية طلبه، فلما سأله مندهشا عن سبب ذلك، أشار إلى “الزي الأزهري”، وقال له: “ما يصحش”!

لا يوجد قانون يمنع “النادل” من تقديم الخمور لصاحب زي معين، لكن الرجل رأى أن التقاليد تتأذى من ذلك، فانصاع لها، وهو مجرد عامل صغير في “بار”.. لكن رجل الأعمال “نجيب ساويرس” حرص لأسباب غير معلومة لدينا؛ على امتهان الزي الأزهري في مهرجانه السينمائي بـ”الجونة”، من خلال استضافته لشخص عليه كلام وحوله لغط والاستمرار في تقديمه على أنه مفتي استراليا السابق، ومن المؤكد أن “نجيب ساويرس” يعلم أنه شخصية مثيرة للجدل، وتستدعيه بعض القنوات التلفزيونية لأجل الإثارة، وربما لدوافع مثل دوافع “نجيب ساويرس” التي لا أعتقد أنني أعرفها. وهو شخص يتصدى له أزهرية رسميون، على نحو كاشف بأن ما يقوله عليه اعتراض، داخل المؤسسة الدينية الاسلامية نفسها، ولتقريب الأمر إلى ثقافة “نجيب أنسي ساويرس”، فإن ما يقوله “مفتي استراليا السابق” يدخل في باب “الهرطقة”، ثم أنه هبط إلى مستوى دون ذلك، عندما يدعي صفة لنفسه غيره حقيقية، أو يسمح للإعلام التلفزيوني بأن يقدمه على أساسها دون أن يستنكر هذا أو ينفيه، وهو ما يسمى قانونا بانتحال الصفة، وهو من الجرائم التي تنطوي ضمن النصب والاحتيال!

فلم يحدث أن شغل “مصطفى راشد” منصب المفتي في استراليا، وهو المنصب الذي كان يشغله على التوالي الأئمة: “تاج الدين هلال”، و”فهمي الإمام”، و”إبراهيم أبو محمد”، و”عبد العظيم عفيفي” ولم يكن المذكور مجرد عضو في مجلس الأئمة هناك. واللافت أن مؤسسة الأزهر سبق لها أن أصدرت بيانا منذ عامين، أعلنت فيه أن “راشد” لا صلة له بالأزهر، وهو بيان كاشف عن أن المؤسسة الدينية الرسمية لا توافق على ما يقول.. فلماذا تحرص القنوات التلفزيونية على استضافته، وإسباغ صفة ليست له وهي “مفتي استراليا السابق”، لتضحى متواطئة معه في جريمة “انتحال الصفة”، اللهم إلا إذا كان هو من أخبرها بذلك؟ وقبل هذا وبعده، لماذا هذا الاحتفاء من قبل “نجيب ساويرس” به، واستدعائه بزيه الأزهري إلى “الجونة”، دون أن يمنعه بيان الأزهر من هذا التبني؟!

هناك واقعة قديمة خاصة بالقس “إبراهيم عبد السيد”، وكيف أن البابا شنودة كان يطارده في كل مكان يكتب فيه، وعندما مات منع الصلاة عليه، مع أنه قس لم يشلح، وكان قبل وقفه معينا على كنيسة رسميا، على العكس من “مصطفى راشد”، الذي لم يؤكد ما يثبت ما يجري تقديمه به إعلاميا، من أنه “مفتي أستراليا”، وحاصل على درجة الدكتوراة من جامعة الأزهر!

وبعيدا عن الصفة وانتحالها، ما هو السر وراء هذه الدعوة للمذكور بزيه الأزهري، ومهرجان “الجونة السينمائي” لم ينعقد ليناقش فكرا، أو يعرض رأيا، بما في ذلك قضايا السينما وأزمتها، فطيلة الأيام الماضية؟ رأينا “مناظر” ولم نشاهد “قصة”، والمنشور عن المهرجان كله يدور حول فساتين الفنانات. ففلانة حدث لها موقف محرج بسبب فستانها، وعلانة ذهبت لتقوم بتغيير فستانها، أما الفنانة فلانة فقد اشترت فستانها من أرقى بيوت الأزياء في باريس، فلا فكرة ولا موضوع، وكأننا أمام عرض أزياء، فما هي الحكمة من جود شيخ معمم في هذه الأجواء؟!

قال “مصطفى راشد” إن دعوته بهذا الزي هي لتأكيد أن السينما ليست حراما، فهل هذه قضية مطروحة الآن؟.. وهل الحضور لمشاهدة فيلم سينمائي، أم للتزاحم في مهرجان “اللحم الأبيض”، القائم عليه يعاني من تشويه في الأفكار، ليعيد التذكير بالرأسمالية العفنة، وممارساتها؟!

إن من الغباء حصر الفن في زاوية الحرام والحلال؛ لأن هذا يشغلنا عن قضايا الفن الحقيقية، فهناك سينما نظيفة، وسينما تفتقد للنظافة، وهناك فن جاد، وفن مبتذل، وهناك أفلام راقية، وأخرى منحطة، وهناك أفلام المقاولات كانت نتاج انفتاح “السداح مداح”، والذي يمثل مهرجان ساويرس أحد امتداداتها السيئة!

والأمر عندما يحصر بين الحلال والحرام، فإنه يكون بغرض تمرير الفن المرفوض، فمن الآن مشغول بتحريم الفن، ليستدعي الأمر استدعاء “نجيب ساويرس” لصديقه “مصطفى راشد” بالزي الأزهري؟ وهل المذكور يمثل الثقل العلمي والديني الذي يجعل لحضوره مهرجان “اللحوم المجمدة”، رمزية، وقيمة مضافة؟!.. أم أن الأمر له أهداف أخرى، لا تعلمونها الله يعلمها؟!

لقد نشر “راشد” صورته مع “ساويرس”، وكتب أنه مع صديقه رجل الأعمال الوطني، وكأنه مانح صكوك الوطنية، وثقافة “ساويرس” تعرف الصكوك، ولا نعرف ما هو المبرر لهذا الوصف، وما هي صفة المانح ليمنح، لكنها الموضة المرتبطة بحكم العسكر، ففلان وطني ويحب وطنه. لا بأس، فربما أراد أن يميز بينه وبين “بطرس غالي”، وفي منتصف التسعينيات، كان الحزب الوطني قد قرر الدفع بحفيده “يوسف بطرس غالي” الوزير الجديد حينذاك لخوض الانتخابات البرلمانية في دائرة “شبرا” نظرا لوجود عدد كبير من المسيحيين فيها، فأعلن المسيحي المعارض “جمال أسعد عبد الملاك” أنه سيخوص الانتخابات في نفس الدائرة تحت شعار: “مسيحي وطني في مواجهة مسيحي خائن”، وكان شعارا فجا، فالخيانة لا تورث وكذلك الوطنية، لكن المهم هنا أن الحزب الوطني (الحاكم) سحب مرشحه!

ما علينا، فـ”راشد” بهذا الوصف: “صديقي”، كشف عن أن ساويرس يتبنى هذه الضحالة وصاحب الأداء الذي يصفه علماء الأزهر أنفسهم بأنه طعن في الدين الإسلامي، فلماذا يفعلها “ساويرس”؟ ولماذا كل النشاز الذي يحتفي به الإعلام في هذا الاتجاه، يقف خلفه نجيب ساويرس، الذي تبنى سيد القمني، كما تبنى أفكار “إبراهيم عيسي” منذ هجومه على الشيخ عمر عبد الكافي، والشعراوي، إلى تطاوله على البخاري وما إلى ذلك؟!

وهو الذي تبنى “محفظ القرآن” السابق، محمد أبو حامد (اكتشاف الإخوان الذين رعوه وتبنوه قبل أن يختطفه ساويرس)، ولا نعرف ما هو المغري لرجل أعمال مثل “نجيب ساويرس” لينتج هذا الاختطاف لمحفظ قرآن، وليغير مساره ويدفع بها للذهاب للكنيسة وتقبيل يد البابا منحينا، ويحوله إلى سياسي وبرلماني، ليس في أجندته سوى موضوع واحد وهو الهجوم على الإخوان، متحاشيا تماما الكلام عن التاريخ؟ فمن الأفضل والأكثر إثارة أن يكون الهجوم منطلقا من العلاقة التي كان فيها “أبو حامد” طرفا.. هل كان الإخوان يبخسونه الأجر؟.. هل كانوا يقاسمونه في معاشه؟.. هل كانوا يجمعون التبرعات لفضلية “المحفظ” ثم لا تذهب إليه؟!

وفي ذات الاتجاه، تبنى ساويرس المعتقل جنائيا “نبيل نعيم” من الجماعة الإسلامية، ودفع به للقنوات التلفزيونية محللا، ومتحدثا فيما لا يجيد، فانخراطه في التنظيمات الدينية في السجن بعد اعتقاله جنائيا، لا يجعله مطلعا على طبيعة الحركات الدينية ومن القاعدة إلى تنظيم الدولة، فيأتي ليهرتل، فالمهم أن يصنع منه “ساويرس” نجما!

ما علينا، فامتهان الزي الأزهري في الحفل السامر بالجونة، يمثل في جانب منه امتدادا لامتهانه في الدراما القديمة، ولأسباب تحتاج لبحث ودراسة، فدائما ما يظهر الشيخ الأزهري بالذات في وضع يثير السخرية والاشمئزاز، لكن عادل إمام عندما أراد أن يظهر قسا في فيلمه ذهب إلى البابا شنودة، ليستأذنه في ذلك، بحسب تصريح له!

ولا شك أن هذا الظهور للزي الأزهري في مهرجان “الجونة” يأتي استكمالا للأداء التمثيلي، لا سيما إذا علمنا أن الشخص الذي يتبناه “ساويرس” هو أجهل من دابة، وقد ظهر في برنامج تلفزيوني وهو يُنكر وجود مصنف اسمه “صحيح البخاري”، وعلى أساس أن البخاري كان اسمه “جمعة محمد إسماعيل”، قبل أن نكتشف بأنه أساء القراءة، فكان حريا به أن يسيء الفهم. فالمصنف الذي أشار اليه كتب عليه “جمعه” أي قام بجمعه، محمد بن إسماعيل، فلأنه أمي لم يعرف الفرق بين الهاء المربوطة والتاء المربوطة، وهذا هو الجهل الذي يتبناه “ساويرس”. فأي عالم مهما كان فكره يمكنه أن يقبل ابتذاله وابتذال الزي الأزهري في سوق الجواري بالجونة، ولا تقل مهرجانا سينمائيا، فلم نسمع كلمة عن السينما في هذا التجمع!

لا بأس.. لا يجد رمز الاستنارة “نجيب ساويرس” في وجود الزي الأزهري ما يسيء، باعتباره مستنيرا استنارة جبارة، فلماذا لم يستقدم أحد القساوسة لعموم الفائدة، ولتأكيد الوحدة الوطنية؟ فهل السينما لدى أهل الكهنوت حلال؟.. ولماذا لم نشاهد راهبا أو قسا، في أي دور من دور السينما؟!.. لماذا الزي الأزهري فقط؟!

ولو فكر “ساويرس”، ولعله فكر ولهذا أقدم، لعلم أن الأمر مرتبط باللياقة، وإن لم يكن له علاقة بالحرام والحلال، فهل يجوز له أن يذهب إلى الكنيسة بملابس البحر مثلا؟ وهل يمكنه أن يذهب بملابسه الداخلية لسرادق عزاء؟ وكل من ملابس البحر والملابس الداخلية ليست حراما!

هل يعقل أن نادل بار الحرية يفهم في اللياقة، أكثر من نجيب ساويرس؟!

أم أنها مقصودة؟!

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...