المقسم به في القرآن الكريم

1- المتتبع لأيات القسم في القرآن الكريم يجد أن الله سبحانه قد أقسم في بعضها بذاته الموصوفة بصفاته، وهذا في القرآن الكريم كثير، وليس المقام هنا مقام حصر، فمن ذلك قوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (التغابن:7).
وقوله تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الغَيْبِ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (سبأ:3).
وقوله سبحانه: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (يونس:53).
وفي هذه الآيات الثلاثة أمر من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقسم به.
كما جاء القسم من الله تعالى بذاته في مواضع منها: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (الحجر:92-93) وقوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِياًّ (مريم:68) وغيرها.
2- كما أقسم الله تعالى بفعله، وذلك في قوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا *وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (الشمس:5-7) والمعني: والسماء وبنائها والأرض وطحوها ونفس وتسويتها، وفاعل ذلك كله هو الله تبارك وتعالى.
3- كما أقسم الله تعالى بمخلوقاته، وهو في القرآن الكريم كثير، منه قوله تعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ (الطور:1-2)، وقوله تعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا البَلَدِ الأَمِينِ (التين:1-3)، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ البُرُوجِ (البروج:1)، وقوله تعالى: فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (الواقعة:75-76)، وقوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (الشمس:7).
والمتأمل في هذه الآيات التي ورد فيها القسم بالمخلوقات يلاحظ ما يلي:
أ- أن القسم في بعضها ورد بشيء من المخلوقات العلوية التي يثير ذكرها والقسم بها الرهبة في النفس لعظم خلقها وجلال إبداعها، وذلك مما يثير الفضول العلمي الذي يفضي إلى توجيه النظر إليه بالبحث والدرس، ومحاولة الاستفادة من تسخير الله تعالى إياها لمنفعة الإنسان، وذلك كما ورد في القسم بالسماء والشمس والقمر والنجوم والرياح ونحوها، وقد حثنا الله تعالى على هذا النظر بقوله: قُلِ انظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ (يونس:101).
ب- أن القسم ورد في البعض الآخر مما ورد فيه القسم بالمخلوقات بشيء من الأمور الأرضية التي يشاهدها بل ويلامسها ويعايشها الإنسان، مثل القسم بالتين والزيتون، والبلد الأمين، والطور، والبحر المسجور، والعاديات وهي الخيل العاديات، وغير ذلك مما يلفت النظر إلى عظمتها عن قرب لا يخفي على أحد، وذلك يدعو إلى التأمل المفضي إلى الإيمان واليقين بقدرة الله تعالى والتصديق برسله، كما يدعو إلى الاستفادة منها.
جـ- أن القسم كذلك ورد في بعضها بما يلابس الإنسان ويلاصقه لا ينفك عنه، فهو ذاتي للإنسان شديد التعلق به كالقسم بالنفس البشرية وذلك في قوله تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (الشمس:7)، مما يلفت النظر إلى عجيب أسرارها مما لا يُدْرَكٌ كنهه فيسلم ذلك الناظر إلى عجيب صنع الله تعالى، ويقف بالعقل عند حدود العجز حتى لا يتمادى في غروره.
ثامناً: القسم بالمخلوقات، والأقوال في ذلك
تتبع آيات القسم في القرآن الكريم يكشف عن ورود القسم بالمخلوقات في مواضع أقسم الله تعالى بها وقد ذكرنا فيما مضي طرفا من ذلك، ونضيف هنا بعضا آخر:
نحو قول الله تعالى: وَالصَّافَّاتِ صَفاًّ * فَالزَّاجِرَاتِ زَجْراً * فَالتَّالِيَاتِ ذِكْراً (الصافات:1-3). قسم بالملائكة.
وقوله سبحانه: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً (المرسلات:1-2) قسم بالرياح.
وقوله عز وجل: وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (العاديات:1-2) قسم بالإبل أو الخيل.
وورود القرآن الكريم بذلك يعني جواز القسم بالمخلوقات، وعدم التحرج من ذلك، لكن السنة المطهرة ورد فيها نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن القسم بالمخلوقات، وأنه لا يجوز لأحد أن يقسم إلا بالله تعالى، فكيف نفهم ما ورد في القرآن الكريم من القسم بالمخلوقات في ضوء نهي النبي صلى الله عليه وسلم .
ولنذكر أولا نص ما ورد في السنة من النهي عن القسم بالمخلوقات، ثم نعقب بما قاله العلماء في هذا الشأن.
فقد أخرج البخاري( )- عَنِ ابْنِ عُمَرَ- رضى الله عنهما أَنَّهُ أَدْرَكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فِى رَكْبٍ وَهْوَ يَحْلِفُ بِأَبِيهِ، فَنَادَاهُمْ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – «أَلاَ إِنَّ الله يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ، فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ، وَإِلاَّ فَلْيَصْمُتْ».
وأخرج أحمد( ) عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ لاَ وَأَبِى. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – «مَهْ إِنَّهُ مَنْ حَلَفَ بِشَىْءٍ دُونَ اللهِ فَقَدْ أَشْرَكَ».
وقد حمل العلماء ذلك على من يتعمد ذلك على وجه التعظيم، وعلى كل فالواجب الامتثال لتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم في عدم الحلف بغير الله تعالى.
ونعود إلى ما قاله العلماء في كيفية الجمع بين ما ورد في القرآن الكريم من الحلف بالمخلوقات، وما ورد في السنة من النهي عن ذلك والتشديد فيه، فقد أوردوا في توجيه ما جاء في القرآن الكريم من ذلك أقوالا أهمها:
1- أن المُقْسِم في القرآن الكريم هو الله، والنهي في السنة للعباد، وفرق بين الله تعالى وبين خلقه، فإن الله سبحانه له أن يقسم بما شاء على ما شاء، فهو صاحب الأمر كله، أما العباد فليس لهم أن يقسموا إلا بما شرع لهم من ذلك وهو القسم بالله تعالى.
2- أن الكلام في القسم على حذف مضاف، تقديره: «رب» والمعني: ورب التين، ورب الشمس… إلخ.
3- قال ابن أبي الإصبع في «أسرار الفواتح» القسم بالمصنوعات يستلزم القسم بالصانع، لأن ذكر المفعول يستلزم ذكر الفاعل، إذ يستحيل وجود مفعول بغير فاعل، فكان القسم على الحقيقة هو بالله تعالى.
4- أن العرب كانت تعظم هذه الأشياء، وتقسم بها فنزل القرآن على ما يعرفون( ).
وأولي هذه الأقوال بالقبول وأقواها القول الأول، ويليه الثاني، أما الثالث فدونهما، وإن لم يكن من القول به مانع، وأما الرابع فعندي أنه لا يستقيم، لأنه ليس كل ما جرت به عادة العرب أقَرّه القرآن، وقد يفضي هذا القول إلى عدم الحرج من قسم العباد بالمخلوقات من هذا المنطلق.
بقي في هذه المسألة نقطتان:
الأولي: ورود القسم في القرآن الكريم بحياة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل الله تبارك وتعالى، وذلك في قوله عز وجل: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (الحجر:72).
أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: ما خلق الله ولا ذرأ ولا برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره، قال: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (الحجر:72)( ).
النقطة الثانية: ما ورد من قسم النبي صلى الله عليه وسلم بأبي رجل جاء يسأله.
فقد أخرج مسلم( ) عن طلحة بن عبيد الله: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ ثَائِرُ الرَّأْسِ نَسْمَعُ دَوِىَّ صَوْتِهِ وَلاَ نَفْقَهُ مَا يَقُولُ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – «خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِى الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُنَّ قَالَ «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ». فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهُ فَقَالَ «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ». وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – الزَّكَاةَ فَقَالَ هَلْ عَلَىَّ غَيْرُهَا قَالَ «لاَ إِلاَّ أَنْ تَطَّوَّعَ» قَالَ فَأَدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ وَاللهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صلى الله عليه وسلم – «أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ» وفي رواية أخري لمسلم بعدها مباشرة: «أَفْلَحَ وأبيه إِنْ صَدَقَ».
فكيف ينهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله، ثم يقسم على هذا النحو، وفي الجواب على ذلك أورد الحافظ ابن حجر- رحمه الله- أوجها نختار من بينها:
1- أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القسم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف. وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي: إنه الجواب المرضيّ.
2- أنه كان يقع في كلامهم على وجهين: أحدهما للتعظيم، والآخر للتأكيد، والنهي وقع عن الأول، فمن أمثلة ما وقع في كلامهم للتأكيد لا للتعظيم قوله الشاعر: «لعمر أبي الواشين إني أحبها»
وقول الآخر:
فإن تلك ليلي استودعتني أمانة
فلا وأبي أعدائها لا أذيعها
فلا يظن أن قائل ذلك قصد تعظيم والد أعدائها، كما لم يقصد الآخر تعظيم والد من وشي به، فدل على أن القصد بذلك تأكيد الكلام لا التعظيم، وقال البيضاوي: هذا اللفظ من جملة ما يزاد في الكلام لمجرد التقرير والتأكيد ولا يراد به القسم، كما تزاد صيغة النداء لمجرد الاختصاص دون القصد إلى النداء.
3- أن هذا كان جائزاً ثم نسخ، قاله الماوردي، وحكاه البيهقي، وقال السبكي: أكثر الشراح عليه قال السهيلي دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ.
4- أن في الجواب حذفاً تقديره، أفلح ورب أبيه، قاله البيهقي( ).
وأولي هذه الأوجه الأول، ثم الرابع، لعدم التكلف فيها.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...