تأملات فى سورة الكوثر

﴿إنَّا أعطيناك الكوثر (1) فصل لربك و انحر (2) إن شانئك هو الأبتر (33) ﴾

معجم السور و لغتها
إن أول مفتاح فى طريق تحليل أي نص يكمن فى تأمل معجمه اللغوى ، ثم الترقي خطوة أخرى نحو فهم تراكيبه مع إجراءات أخرى كثيرة تتعلق ببنية النص الموسع ، وهو هنا النص العزيز كله الذى منه هذه السورة من حيث تحكيم أهدافه الكبرى المعلنة ، و السياقات الحاكمة للتعامل معه سواء كانت من داخله أو من خارجه وهو ما ينهض بعبئها تضافر علوم كثيرة جدا .
1-افتتح رب العزة سبحانه السورة بالتوكيد المستفاد من ( إنّ) متحدثا عن نفسه بصيغة الجمع لأمرين هما :
– الدلالة على عظمته سبحانه ، وهو الشائع المتداول فى فهم مثل هذا الإسناد .
– و ربما كان هذا الإسناد إلى ضمير (نا ) من قبيل نسبة الفعل الذى أمر به وهو الله سبحانه ، ومن نفذ مراده وهم ملائكته الموكلون بطاعته ، وهو الملحوظ فى كثير من آيات النص العزيز فى مثل هذا السياق حيث كانت عادة القرآن التعبير عما يأمر به الله سبحانه و ينفذه خلقه بطريق الإسناد إلى الجمع مما تجد له أمثلة فى :
﴿فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما ﴾
﴿ونرسل الرياح بشرا بين يدى رحمته ﴾
﴿وننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة ﴾
وهو بعض تجليات اسمه الجليل الشاكر .
و استعمال الفعل ﴿أعطيناك ﴾ يدعم بإسناده إلى ضمير المتكلمين ما مر من جانب ، و يوحى و لا سيما عند مقارنته بمجموعة من أفعال حقله الدلالي من مثل : وهب / ومنح بشئ من خصوصية تدور حول إمكان تخصيصه بما يكون من عطاء ورزق مترتب على تعب و كد ومجهود ، بمعنى أن الإعطاء لا يكون إلا بعد بذل ممن سيعطى ، وهو بعض ما توحي به دلالة الأخذ و التناول فى جذر المادة ( ع ط و ) ، و ربما يشهد لذلك قوله صلى الله عليه و سلم أعطوا الأجير حقه قبل أن يجف عرقه ، و فى الضمير ( ك ) و إن كان دالا على النبي صلى الله عليه و سلم معنى يتعداه إلى متابعيه بدليل بقاء الأمر فى الآية التالية فى الأمة بعد وفاة الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم ، و إنما كان الأفراد بخطابه لاعتبارات عديدة منها اعتبار مقام النبوة الذى يقضى بكونه مبلغا ، ومنها اعتبار دفع شبهة تكذيب الله سبحانه إن جاء النص بأعطيناكم ، وهو غير متصور مع النبي صلى الله عليه و سلم فهو الوحيد المأمون بحكم اصطفاء الله سبحانه له من تكذيبه ، أو من مظنة تكذيبه .
الكوثر : و فى الكوثر دلالات كثيرة جدا بلغ بها القرطبي [ 20/216-2188] ست عشرة دلالة هي كما يلي )نهر بالجنة / وحوض النبي صلى الله عليه و سلم فى الموقف / و النبوة / و القرآن / و الإسلام / و تيسير الإسلام و تخفيف الشرائع / كثرة الأصحاب و الأمة / و الإيثار / و رفعة الذكر /ونور فى القلب دل على الله سبحانه / و الشفاعة / و المعجزات / ولا إله إلا الله محمد رسول الله / و الصلوات )
ورجح القول بأن الكوثر هو النهر و الحوض يوم الموقف ، لموقع الأثر الصحيح المروى عن النبي صلى الله عليه و سلم فى تفسيره .
و إن كان لا يمنع ، وهو ما سوف نبرهن عليه أن يكون معناه الأمة بشهادة الاشتقاق.
فصل = أمر بإقامة الصلاة المفروضة علينا ،وجنح بها غير واحد إلى الأمر بصلاة العيد ، عيد الأضحى ، بقرينة النحر .
و ربما توسع فيها فكانت بمعنى أعبد .
لربك = اللام للغاية بمعنى أن على مقيم الصلاة أن يتغيا بها وجه ربه سبحانه .
و التذكير بالرب هنا ؛ تنبيها لإنعام الله سبحانه و تفضله على خلقه ، استجلابا لمعاني الشكر ، و تلطفا إلى أنفس الناس بالتذكير بالنعم المتوافرة وهو أمر مفهوم فى سياق من كان يتعبد لغير الله .
و انحر = الغالب المتبادر لغة أنه أمر من الذبح ، وهو أمر يفهم ذبح الأضاحي يوم الأضحى .
وهو قول يدعى أمران : الاشتقاق من ( ن ح ر ) ، و مناسبة أسباب النزول على من قال إنها نزلت فى الحديبية حين منع النبي صلى الله عليه و سلم و المسلمون عن مكة المكرمة فأمره الله سبحانه أن يصلى ثم يذبح ما كان يسوقه من الأنعام ( البدن ) و ينصرف .
وهناك من فهم منها أفعالا متممة لفعل الصلاة ، أي اجعل يدك عند نحرك فى افتتاح الصلاة برفع اليدين قبالة النحر ، أو استقبال المصلى بنحره القبلة . و الترتيب مرعى مستفاد من تركيب الجملة المبدوء بالأمر بالصلاة و المثنى بالنحر ، ومن بعض ما صح عنه صلى الله عليه و سلم من أنه كان يبدأ يوم الأضحى بالصلاة ثم يثنى بالنحر .
3- إن شانئك هو الأبتر :
الشانئ : المبغض الكاره ، و الصيغة الصرفية توحي بإمكان تجدد وجود المبغض ، إذ المشتقات من نوع اسم الفاعل دالة على التنقل و التوقيت و التجدد ، بمعنى أنه ليس حكرا على زمان واحد معين ، وهو ما يدعمه خلو الآية من عناصر زمنية ، وهو ما لا يصح معه حصره فى شخص بعينه و قرئ شنئ على صيغة المبالغة ( فعِل ) و اعتماد الصيغة الأولى أولى .
هو = ضمير فصل استعمل فتحقق به ما يسمى بدفع التوهم احتمال الوصف فى البتر ، أي لولا وجوده لتوهم القارئ لأول وهلة أن الأبتر قد يكون وصفا للشانئ و ينتظر الخبر ، وهو غير المراد فجاء الضمير ليقطع هذا الاحتمال ، و يصرف المرء إلى أن الأبتر هو خبر الشانئ و مصيره .
الأبتر = المقطوع ذكره من الخبر ماديا ومعنويا ، فهو من لا ولد له و إن كانت له بنات على بعض استعمال قديم فى العربية ، ثم توسع فى استعماله ليشمل المقطوع خيره كذلك و إن كان الاستنباط له بالمادة .
و تأمل التعريف بأل ربما أوحى باستغراق البتر للشانئين ، و ربما أوحى بان الشانئ هو المقطوع حقيقة ، و لا مجال لتصور انبتار يدانيه .
و ربما كان الاشتقاق على صيغة أفعل من أجل توكيد التفضيل من الدرجة القصوى ، بمعنى أن الشانئ هو الأكثر انبتارا من غير دخول فى مقارنة مع أنواع المنبترين الآخرين .
إعراب النص = تحليله من جهة التراكيب
1- إنا أعطيناك الكوثر
إن = حرف توكيد و نصب و التوكيد وظيفة دلالة المقصود منها تقفى الكلام بالثقة فى تحققه و النصب وظيفة نحوية تتطلب اسما وخبرا .
نا= ضمير المتكلمين جاء على التعظيم له سبحانه أو على الحقيقة فى أنه الآمر و ملائكته الطائعين هم المنفذون – مبنى فى محل نصب اسم إن .
أعطيناك = أعطى = فعل ماض مبنى على السكون لاتصاله بنا الدالة على الفاعلين ، و الفعل و إن جاء على صيغة المضى يحتمل الدلالة على الحال و الاستقبال ، أي هو الذى أعطى سبحانه و معطى الآن و يعطى بعد الآن ، و صوغه على هيئة الماضي إقرارا للتحقق اليقيني . النا ضمير مبنى فى محل رفع فاعل لأعطى و الكاف ضمير المخاطب الدال على محمد صلى الله عليه و سلم ضمير مبنى فى محل نصب مفعول به أول لأعطى .
الكوثر = مفعول به ثان لأعطى . وجملة أعطى فى محل رفع خبر إن و التقدير معطيك الكوثر ، و عدل عن التقدير إلى التعبير بالفعل لاستغراق الزمان مضيا وحالا و استقبالا .
2- فصل لربك و انحر = الفاء حرف يفيد التعقيب أي الترتيب و التسبيب أو أي جعل الثاني نتيجة تلزم من الشعور بالفضل المتمثل فى العطية وهو مبنى على الفتح .
صل = فعل أمر مبنى على حذف حرف العلة كما يقول النحاة العرب وهو مبنى على تقصير الحركة الطويلة و الانتقال بها من مقطع إل مقطع ، من مقطع مكون من ( ل + ى )إلى ل + – كسرة قصيرة .
و الفاعل ضمير مستتر وجوبا تقديره أنت عائد على المخاطب سلفا وهو الكاف .
لربك : اللام حرف جر يفيد الغاية و الاستحقاق أي بيان من نتوجه إليه و بيان من يستحق الفعل . حرف مبنى على الكسر . و ( رب ) اسم مجرور باللام و علامة جره الكسرة الظاهرة وهو مضاف .
و الكاف ضمير المخاطب مبنى على الفتح فى محل جر مضاف إليه و الإضافة هنا حقيقية محضة .
وجاءت شبه الجملة ( لربك ) متوسطة بين الأمرين صل / انحر لتتعلق بهما ،و لدفع توهم ارتباطها بأحدهما فقط .
وانحر = الواو حرف عطف مبنى على الفتح أفاد الترتيب و الجمع بعد إذ لم يكن يفيد الترتيب = بتطبيق النبي صلى الله عليه و سلم ؛ أي بصلاته أولا ثم بنحره .
انحر = فعل أمر مبنى على السكون لصحة آخره و الفاعل مستتر وجوبا تقديره أنت عائد على المخاطب صلى الله عليه و سلم ، و لا يخفى دلالة الأمر على الحضور المطلق فى حق كل متعبد بالنص .
3- إن شانئك هو الأبتر =
إن = حرف توكيد ونصب مبنى على الفتح .
شانئك = اسم إن منصوب وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة وهو مضاف . و الكاف ضمير المخاطب مبنى فى محل جر مضاف إليه على تقدير حذف اللام ، أي إن شانئا لك ، ولعل فى حذف اللام و التحول إلى الإضافة يوحى بمعنى حذف معنى الغائية ؛ أي عدم وصول الشنآن إليه و الابتعاد كذلك عن معنى الاستحقاق بمعنى أنه شنآن ظالم لا يستحقه صلى الله عليه و سلم .
هو الأبتر : و قد يكون ( هو ) فى محل رفع مبتدأ ثان و الأبتر = خبره مرفوع و علامة رفعه الضمة الظاهرة و الجملة منهما فى محل رفع خبر إن .
و قد يكون ( هو ) ضميرا للفصل لإخلاص الأبتر للخبرية لأن ؛ أي دفعا لتوهم كون الأبتر لو لم يأت (وهو ) صفة للشانئ ، و يظل المتلقي معلقا فى انتظار الخبر ،فجاء هذا الضمير ليفصل بين المبتدأ الذى هو شانئ و بين خبره الخالص له وهو الأبتر .
عطاءات السورة
إن تأمل آيات هذه السورة يمكننا من استنطاقها استنطاقا لا يتصادم مع المأثور مما روى عن بعض تفسيرها ، و يمكننا استنباط بعض المعاني التي تتحملها طاقات التأويل التي لا تخاصم بطبيعة الحال معجمها اللغوى باعتبار الحرص على هذا التواءم من أصول التفسير المستقرة التي تقرر ضرورة أن يكون القول فى تفسير نص قرآني غير مصادم للمفهوم من اللسان العربي زمان التنزل الكريم من جانب ، وبالتالي غير مصادم لما تفرضه قوانين التركيب النحوي ، و ما قد تفرضه بعض التقنيات البلاغية من جانب آخر ، و سنقف أمام عدد مما نسميه عطاءات السورة فى صورة فقرات نرجو أن نصنع إطارا مترابطا يخدم قضية مركزية هي ( انكسار المعاديين للإسلام ) محاطة بعدد من القضايا الدائرة فى فلكها المعينة على تفهمها و تحققها :
(1)مضمون العطية الربانية
ظاهر النص يقرر أن الله أعطى نبيه كوثرا معهودا ، و توجه تفسيره و تأويله فى اتجاهين أساسيين هما :
أ‌- اتجاه مادي ( خير مادي أيا ما كان نوعه )
ب‌- اتجاه معنوي ( خير معنوي أيا كان ما كان نوعه )
ت‌- وتميل هذه القراءة نحو اعتباره ( الأمة ) ؛ أي أن الكوثر الممنوح للنبي صلى الله عليه وسلم وهو الأمة يدعمنا فى ذلك الاشتقاق اللغوى الذى يقرر أن الكوثر بناء على زنة فوعل من الكثرة ؛ بمعنى الخلق الكثيرين ، و ليس يمنع من ارتباط هذه التسمية بالتزاحم عند حوض أو نهر خاص بالنبي صلى الله عليه و سلم لمن أخلص فى متابعته و التأسي به .
و إذا كانت العطية ( أمة / أمة مرتبطة بالنهر أو الحوض ) فإنه يلزمها منهج للتربية أو منهج للتنمية البشرية لكي يتحقق لها التزاحم على نهره وحوضه صلى الله عليه و سلم .
و أتصور أن طريق هذه التنمية لهذا الخلق / الكوثر منضو تحت جناحين كبيرين يمثلهما :
أ- الأمر بالصلاة ، لرب العالمين .
ب- الأمر بالنحر ؛ لرب العالمين .
وحرص النص الكريم على هذين الجناحين ، و أحدهما من باب الفروض والواجبات و أعمدة الدين ، و آخرهما من باب المندوبات و النوافل المشروعة أصلا لتمام التزكية .
واستثمار مقولة التوليد الدلالي يقود إلى استخراج عدد هائل من دلالات رحم المحورين ( الصلاة / النحر) وهى دلالات تفرضها الأصول المعجمية و السياقات اللغوية و غير اللغوية كما يلي :
أولا = تفجر الكلمة المحورية الأولى (صل ) الدلالات اللازمة التالية:
أ‌- التطهر (شرط تبطل بدونه وهو فى غير أفعالها ) وهى مادية فى المفتتح تئول إلى معنوية بحكم ربط الصلاة بما تقود إليه فهي وسيلة إلى ما وراءها من نهى عن بغى و منكر .
ب‌- العلم ( وهو ما يلزم لإدراك طبيعة الميقات الزمانى اللازم لإقامتها و المكاني لإدراك جهة القبلة ونوع المكان الصالح لها ونوع الماء اللازم لوضوئها و الملابس الساترة للعورة و الحفظ الخ )
ج-الوحدة ( فيما رتب الصلاة الجماعة من أجر فائق مقارنا
بالمنفردة ، و التراص فى صفوف منتظمة و الحرص على
ذلك فى لين ) .
د- الهوية التاريخية ( وهو ما يتبدى فى الحرص على الصلوات
السرية على الرغم من تغير الأجواء التي دعت إليها ؛ لتذكر
الأمة جهاد الجيل الأول الذى عانىو لم يستطع أن يجهر بصلاة
فى أوقات معلومة حكمتها اجتماعيات المجتمع العربي القديم )
هـ- التضحية ( وهو ما يتمثل فى ضرورة التضحية بالأوقات
و الانصراف عن أي مشاغل ) .
و- الارتباط بالله سبحانه ( وهو ما يتجلى فى معناها اللغوى
( الدعاء ) و فى الإقبال عليه سبحانه و ضرورة الخشوع بين
يديه ، ومناجاته بكلامه سبحانه ، و إعلان الخضوع بالقول
و الحركة الخ )
وهو ما يتجلى كذلك فيما تلا هذا المر من تقييده بقوله ( لربك )
ز- الوعي ( وهو المتمثل فى ضرورة التعقل فليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها / وترتب الزيادة عليها إن سها فيها صاحبها بما شرع من سجدتي السهو نكاية للشيطان ودحرا له )
ح- تربية الأمة على مقاومة الخلل ( بما شرع فيها من الفتح على الإمام إن أترج عليه ( أي سكت فى القراءة ) وتصويب خطئه إن خلط فى قراءته ، و عدم متابعته فيما يأتيه من زيادات فيها ، وهو تدرج عجيب قلما توقف أمامه احد)
ط- الحرص على الإتقان ( مبدأ الجودة ) وهو فيما تواتر من ضرورة الاطمئنان فى أعمالها قياما و كوعا و سجودا و رفعا منهما ، و فى عدم جواز إتيانها قعودا مع القدرة عليها وقوفا وعدم جواز إقامتها اضطجاعا مع القدرة عليها قعودا ، و الاطمئنان فى قراءة الفاتحة بما ورد من أن صلى الله عليه و سلم كان يقف عند رأس كل آية من آياتها ، و إن كان المعنى يستلزم الوصل .
ثانيا – تفجر الكلمة المحورية الثانية (انحر ) عددا آخر من الدلالات التي تشتبك مع ما مر داعمة ومؤكدة وهى كما يلي :
أ‌- الاستنقاذ الإنساني مهمة جليلة راسخة وهو ما يبدو فى تأمل الأضحية باعتبارها قربانا لله سبحانه ، وهو فى أصله القديم افتداء الإنسان ن أنزله الله تعالى ، وهو من أعلى دلائل الرحمة الربانية بالخلق .
ب-ترسيخ مفهوم التضحية المادية ، وهو ما تجلى فى تقسيم الأضحية و الحض على إخراج أغلبها لنفع الناس .
ج-الحرص على مفهوم الوحدة و التأليف بين دوائر طبقات الناس وهو عكس نسك الأضحية حيث يظهر عناية الإسلام بتأليف دوائر الأسرة ثم الأقارب ثم الجيران ثم الناس جميعا و لا سيما الفقراء .
د- العناية بمفهوم تواصل الأمة تاريخيا باعتباره الوحدة التاريخية مقوما من مقومات الهوية ؛ إذ استمرار الأمر بالنحر إلى وقت نزول القرآن الكريم ثم استمراره إلى اليوم يعكس هذا الامتداد التاريخي الذى هو فى أصله تذكر جهاد امرأة ارتبطت بالله سبحانه وتعالى و أقبلت عليه ، و حملت هم استبقاء الإيمان فى الأرض فى صورة الحرص على وليدها و حياته و مؤازرة زوجها فى دعوته .
هـ- التطهر المعنوي ، وهو ظاهر فى السنة العملية التي كان يحرص عليها النبي صلى الله عليه و سلم – و يأمر من نوى الأضحية ألا يقص شيئا من شعره أو أظافره حتى ينحر لتذهب و تشهد له.
و- العناية بمفهوم التعبد العملي الذى عائده على أكبر عدد ممكن و فى ذلك إشارة واضحة إلى قيمة الطاعات ذات العائد على الأمة و تقدمها على غيرها من العبادات الذاتية الفردية وهو ما يعكس ضرورة تربية الأمة على فقه الأولويات .
و من الملاحظ أن تنمية ( الأمة / الكوثر / – الخلق الكثيرين ) وفق هذين المحورين تقود إلى الحصول على عطية الله سبحانه وهو النهر و إن كان المعنى هو الخلق ، فإن عطية الله هذه تستوجب رعايتها وتنميتها وفق المنهجية التي تخطط لها الآية الكريمة بمحوريها المركزيين ( الصلاة / النحر ) .
و بعد ذلك يأتي الضمان الإلهي الذى يقع فى أي وقت وهو قدرته سبحانه على بتر أي عدد مبغض شانئ كاره .
و الوعيد بكسر أي مبغض شانئ يشمل القطع المادي و المعنوي بحكم الدلالة المعجمية أولا ؛ لأن البتر قطع الذنب ( المادة ) و قطع الذكر ( المعنوي ) ، بما يحمله من الانكسار و الهزيمة ومن الغياب عن قيادة البشرية و انقطاعه الحضاري .
و فى الآية الأخيرة مجموعة من المعاني يحسن تأملها :
1- يقول أبو السعود 951هـ فى تفسيره المسمى ( إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم ) 9/205 معلقا على قوله تعالى ﴿إن شانئك ﴾ أي : مبغضك كائنا من كان ” و فى هذه العبارة الأخيرة من معاني الاستغراق الشئ الكثير ؛ أي أن الموعود الإلهي متوجه بحكم ظاهر النص إلى كسر الشانئ أيا ما كان شأنه .
2- و فى سبيل دعم تفسير الكوثر بالأمة يمكن استثمار التقنية البلاغية التي تحمل عنوان ( رد الأعجاز على الصدور ) و استعمالها هنا يقود إلى ترجيح هذا المعنى الذى قدمناه بعد شهادة اللغة له . إن الوعيد بالانتقام يكون من جنس ما سبق من جريمة ؛ بمعنى إذا كان اتهام كفار قريش للنبي و تعييرهم له صلى الله عليه و سلم بأنه مقطوع الذكر من جراء موت ولده عليه السلام – فإن المنطقي أن يأتي الرد العقابي من جنس ما بدر منهم فيكون الأمر كما يلي
( الكفار يرمون النبي بانقطاع نسله و ذكره صلى الله عليه و سلم
الله يتوعد الكفار بقطعهم استغراقا ) .
ومن ثم يكون الوعد بالعطية فى استفتاح السورة ردا على دعوى الكافرين ، و لو أنهم رموه بالفقر و العوز لكان منطقيا أن يعد الله نبيه صلى الله عليه و سلم بعطية من الحقل الدلالي المتعانق مع دعواهم فيكون إنا أعطيناك الكوثر / النهر و الخير الكثير المادي ، و يكون المتوقع ختام السورة أن يتوعد الله كارهيه صلى الله عليه و سلم بقطع الخير عنهم .
فى هذا النص الكريم يقين فى مناصرة الله سبحانه للأمة ما استقامت على منهج واضح تخطط قسماته ﴿فصل لربك و انحر ﴾ ، و فى هذا النص الكريم دعوة للاطمئنان بما جاء فى افتتاحه من توكيد العطاء ، وبما وقع فى ختامها من ضمان كسره سبحانه للعدو ضمانا دائما مستمرا على الجهة التي تناسب جبروته من غير لبس و لا غموض مهما كانت قوة هذا العدو ومهما كان ارتفاع بطشه و قوته .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...