لم يكن تأميم قناة السويس في 1956 استردادا لها من احتلال عسكري بل اقتصادي.

الكرة عائدة – ما لم تقف طليعة هذا الوطن لوقفها – فدلائل الاحتلال الاقتصادي لمصر كاملة أصبحت واقعا، وأخطر ما فيها احتلال قناة السويس.
فجغرافيا مصر لها ثلاث محددات.. سيناء والنيل والصحراء.
طرح أي منها يهدم تركيبة الوطن كما ورثناها وحفظناها وحفظت وجودنا.
ومنذ منتصف القرن الـ19 أضيف إلى تلك المحددات قناة السويس.. فتغيرت حركة التاريخ وأعادت الجغرافيا ترتيب أوراق المنطقة.
جرى اختصار مصر في القناة.. بحيث أصبحت البلاد كلها مرتبطة وجودا وعدما بها.
لم تكن القناة مجرد ممر بحري للتجارة الدولية بل الأهم أنها كانت معبرا للجيوش الغازية والنفوذ المتمدد عبر المحيطات ليخترق القارات ويبتلع البلدان من عدن إلى بومباي وحتى جاكرتا..
فالسفن التجارية والعسكرية وهي تمخر القناة كانت لا تخضع لرقابة مصر التي لم تكن تمتلك القناة بل نسبة هزيلة من أسهم الشركة المالكة..
وقبل كل ذلك كانت أداة بيد النظام الدولي لتقيد حركة مصر وحاجزا يمنع تمددها للشمال الشرقي في مجالها الطبيعي والتاريخي..
احتلت بريطانيا مصر بزعم حماية الشراكسة في الأسكندرية.. فلما تعذر عليها غزو مصر من شمالها الغربي اتجهت للشمال الشرقي ومرت من القناة لتبتلع مصر..
بقيت 70 سنة بزعم حماية القناة من المصريين.. باعتبار أن القناة ملك العالم، وأن المصريين ملك القناة..
ولم يطمئن النظام الدولي إلى أن القناة تمثل حاجزا كافيا يقيد حركة مصر، وأن الاتفاقيات الدولية المفروضة عليها لتقييد أعداد جيشها وأنواع تسليحها تكفي لإبقائها ضمن منظومة التبعية.
ومن ثمّ جاء زراعة كيان غريب على أرض فلسطين، وأصبحت القناة أحد معالم الاستراتيجية العسكرية للخصم؛ والذي لم تنقطع محاولاته بدعم مؤسسيه لتحويل سيناء حتى خط القناة منطقة عازلة لحمايته من جهة؛ والأهم – في نظر المهيمنين على النظام الدولي – لتقييد حركة مصر ومنعها من النهوض أو استعادة حيويتها.
ترجمت اتفاقيات السلام وملاحقها الأمنية الرؤية الاستراتيجية للخصم، فبعد بعد تحرير سيناء – إلا أم الرشراش – في 1982 ، كان توزيع الجيش المصري مقيدا شرق القناة باعتبار أن خط غرب القناة هو النقطة الذي يجب – وفقا للقواعد العسكرية المفروضة – أن يتوقف عنده الوجود المصري.
وكما قيدت اتفاقية 1840 حق مصر في صناعة السفن المدرعة ومدافع الميدان وحددت الجيش المصري بـ18 ألف جندي، فإن اتفاقات السلام حددت أعداد الجيش وقيدت إمكانات تسليحها وأنواع أسلحته ومدى نيرانه.
لو اعتقدنا أن الهدف هو فقط تحصين الكيان الدخيل على أرض فلسطين نكون قد سقطنا في إحد الكبائر التاريخية غير المغتفرة.. فالهدف الأسمى هو تقيد قدرة مصر على استعادة قدرتها على الحركة في مجالها الاستراتيجي الطبيعي، ومنعها من استعادة الوحدة العربية المأمولة.. فلا وحدة بدون مصر، ولا قدرة لمصر على صناعتها وهي مقيدة الحركة خلف قناة السويس.
ومع ذلك.. فإن اعداد الجيوش وانتشارها ليس الأساس الوحيد لاستعادة الحيوية أو لاسترداد القدرة على التأثير. فالانتصار الحضاري يُمكنه أن يكسر الحصار العسكري.
هكذا فكرت الثورة المصرية، التي لم تتبن المواجهة المسلحة مع الخارج، بل رغبت في انتهاج المواجهة الحضارية الكفيلة بأن تستعيد لمصر المبادرة العسكرية..
لذلك كان مشروع قناة السويس هو المكان الأنسب للمنازلة الحضارية، بإعادة موضعة قناة السويس من حاجز وقيد إلى بوابة للعالمية. فالعالم يرديها ممرا بديلا عن حمل بضاعته بين الشرق والغرب على ظهور الإبل، وعلينا أن نفرضها قاعدة للتنمية والإبداع تسمح لمصر أن تخترق الحصار الذي تعيشه منذ 150 سنة.
فكما حاولت القوى المهيمنة على النظام الدولي جعل القناة ثقبا أسودا يبتلع مصر بتاريخها وقدراتها، فإننا يُمكننا أن نحولها إلى بوابة الضوء التي تنقل مصر من الركن المظلم التي وُضعت فيه إلى مركز التأثير في العالم.
اقتضى ذلك النظر لقناة السويس باعتبارها محطة لالتقاء أطراف التجارة الدولية، الصناع والتجار والناقلين والأعمال البنكية ، وهو ما استلزم:
– توسيع مفهوم قناة السويس إلى “إقليم قناة السويس”.
– يشمل هذا الإقليم مساحة شاسعة لا تقل عن ثلاث مائة ألف كيلو متر مكعب، وهو ما يزيد على ربع مساحة مصر، ويزيد عدة أضعاف على مساحة دولة كالإمارات (83 ألف كم2) التي تحاول السيطرة على تلك المنطقة.
– يتحكم الإقليم في أهم المناطق الاستراتيجية في شرق المتوسط وشمال البحر الأحمر، بتحكمه في المرور لخليج العقبة عبر مضيق تيران، والمرور في شرق المتوسط بالنظر لامتداد شاطئه وعمق بحره الإقليمي ومنطقته الاقتصادية التي تُحاصر شاطئ فلسطين تقريبا وتلتقي مع التأثير التركي في شمال المتوسط.
– يشمل سبع موانئ بحرية ذات خصائص مختلفة: شمالا (دمياط – بور سعيد – العريش)، أما في الجنوب (الأدبية – العين السخنة – الغردقة – شرم الشيخ)
– يحتوي على مصادر طبيعية (الفحم – بترول – فوسفات – المنجنيز – اليورانيوم – الخامات الحديدية – ومعادن أخرى).
– يتوفر على تركيز سكاني معقول (1.5 مليون نسمة تقريبا) لالإضافة لقربه للوادي والدلتا كثيفة السكان قادرة على توفير الأيدي العاملة منخفضة التكاليف ( من 80 – 10 كيم).
– يشمل الإقليم بحيرتين (البحيرات المرة في وسطه وبحيرة المنزلة وبحيرة البردويل شماله).
– يحتوي أو يقترب من مناطق سياحية تاريخية و طبيعية مهمة.
– طول قناة السويس 193 كم
– طول خليج السويس 281 ك
– طول ساحله الشمالي حوالي 200كم.
هذه المنطقة المذهلة والتي ربما لا يوجد مثيل لها في العالم، أدارتها يد آثمة لعدة عقود جعلتها قاطرة للاقتصاد العالمي وعبئا على الاقتصاد الوطني، ظنا منها أن تحصيل رسوم مرور السفن هو مكسب في حد ذاته، وأن زيادة تلك الرسوم هو الهدف الأسمى.
فإعادة تأهيل الموانئ لتصبح مناطق تخزين للحاويات، ومحطات للخدمة اللوجستية للسفن وصيانتها أيا كان غاطسها يكفي لجذب أعداد أكبر من تلك السفن، يجعل مداخيل القناة الحالية من رسوم المرور مبلغا تافها بالمقارنة بالمتوقع.
كما إن تخطيط الإقليم لتوطين صناعات تحويلية وتجميعية وصولا للصناعات الثقيلة، سيشجع حركة التجارة العالمية بالقناة، لأنه سيقلل الكلفة ويوفر الوقت وينعكس زيادة في الجودة وتحسين السعر التنافسي للمنتجات الصناعية التي كان يقتضي نقلها مصنعة لآلاف الأميال زيادة في سعرها.
كما إن توطين المعاملات التجارية والمصرفية لتسوية عمليات البيع والشراء والتبادل بشروط ميسرة، سيحوّلها إلى مركز مالي وإداري عالمي لا يُمكن مقارنة أي مركز آخر بالمنطقة مع قدراته وإمكانات نموه.
يتناقض ذلك مع العودة بعد انقلاب 3 يوليو 2013 للسياسة الغبية – وربما المتعمدة – لتفكيك المنطقة وإضعاف القيمة الاستراتيجية للإقليم ولمصر بالتبعية.
فالتفريط في تيران وصنافير أفقدنا مضيق تيران، وأفقد إقليم قناة السويس ميزة استراتيجية وعزلته عن منطقة التأثير في خليج العقبة، ومنحت إسرائيل هدية تاريخية على حساب مصر، وأهمها إمكانية تطوير منطقة موازية ومنافسة لقناة السويس استراتيجيا واقتصاديا.
كما إن تخصيص مساحات واسعة من الأراضي لرجال أعما – هم في حقيقتهم وكلاء لشركات عالمية – أو لشركات تتبع دول وأمارات تخضع سياستها للوبي دولي، هو تفتيت لجسد الإقليم وتحويله لقطعة لحم مفتت يُمكن أن ترعى فيه الديدان ولا يسمح بنمو جسد الوطن.
ثمة عودة حثيثة – فيما يبدو تحت توجيه دولي – للتأكيد على أن قناة السويس ليست إلا معبرا لمرور للسفن، وأن مصر مجرد حارس يحصل عى “الكارتة” أو رسوم مرور تافهة، وليس مالكا يتحكم في طريقة استغلال المنطقة واستثمارها.
لم تضف الترعة الخدمية التي جرى إنفاق 64 مليار جنيه لإنجازها خلال عام سوى عبء عسكري جديد على قدرات مصر الدفاعية، دون أن يترافق ذلك بأي ميزات اقتصادية أو تدعيم للقدرات العسكرية المصرية على الشاطئ الشرقي للقناة وداخل سيناء، فمازالت حركة الجنود والطائرات تتم بسماح اسرائيلي وبظل نفس الاتفاقات الأمنية المرفقة باتفاقيات السلام، ولأهداف تحقق صالح الطرف الآخر.
والحدث الأخطر الذي حملته الأنباء – وما أكثر ما تحمل من أنباء مشئومة – هو إبرام اتفاق مع شركة موانئ دبي وما يسمى بالهيئة العامة الاقتصادية لقناة السويس.
فقدرات الهيئات العامة الحالية في مصر محدودة، سواء من الناحية التمويلية أو من الناحية الفنية. بينما أن القدرات المالية لشركة موانئ دبي مذهلة، كما أن دعما فنيا وتقنيا هائلا تتوفر عليه من اللوبي الدولي الذي يوجه الاستثمارات لصالح المهيمنين على النظام الدولي وليس لصالح دول المنطقة.
إن الوضع أقرب ما يكون بطرح الاكتتاب في ملكية قناة السويس في بورصتي لندن وباريس في القرن التاسع عشر، وتمليك أغلبية أسهم القناة للأجانب، ومن ثم خروج القناة عن سيطرة الدولة المصرية. لم يكن الأمر بسبب الاحتلال العسكري لاحقا بقدر ما كان بسبب الاحتلال الاقتصادي.
ويخطئ من يظن أن الاحتلال الاقتصادي يتحقق بنفس آليات القرن الـ19، فالمقاصد واحدة بينما الأدوات الاقتصادية تختلف.
كما يُخطئ من يعتقد أن الشركات المالية الكبرى لدول الخليج تمتلك الحق في توجيه استثماراتها أو القدرة على الاستثمار الكامل لرؤوس أموالها، فثمة معادلة دولية تضمن للدول الكبرى توجيه استثمارات تلك الشركات وجعلها واحدة من أدوةات تحقيق مصالحها.
وإذا كان يكفي لأي شركة مالية خليجية أن تقوم بالتمويل وتحصل على قدر من العائد، فإن الطرف الموجه لعمليات الاستثمار والاستحواز على المشروعات والفرص الاستثمارية لا يكفيه ذلك، بل يستخدم تلك الادوات لتدعيم استراتيجيته العالمية المحمولة على جناحي القوة العسكرية والاقتصادي.
وتقبع قناة السويس على رأس الأولويات الاقتصادية والاستثمارية والاستراتيجية للدول الكبرى، ولذلك فإن عملية الاستثمار فيها يجب أن يحصل على ضوء أخضر. وكانت نفس الجهات لا تستريح لتنمية منطقة قناة السويس وتحويلها لقاطرة للاقتصاد المصري وتصر على إبقائها ممرا للنقل وعائقا أمام تمكين مصر من السيطرة الكاملة والكافية على مقدرات المنطقة المملوكة لها.
كانت الشركة العالمية لقناة السويس تمثل تحالفا دوليا دخل حربا إقليمية كبرى ضد مصر عند أُممت القناة، ولا يختلف الأمر عما يجري حاليا. فقد تختلف أسماء الشركات وجنسياتها، لكن نفس التحالف لازال يؤمن أن عنق مصر يكمن في منطقة القناة، وأن إحكام قبضتهم عليها يجعل مصر تحت رحمتهم.
وإذا كان الخديوي ومن ارتدوا الطربوش العلوي هم من وضعوا القناة تحت رحمة التحالف الدولي فإن الأكثر خزيا أن يقوم بنفس الدور اليوم من يرتدي البزة العسكرية. فالجنود الذين ضحوا لاستعادة القناة وتحريرها وعبورها لتمكين الوطن فيها، لا يجوز أن يسمحوا بتمكين الأغراب من الوطن.
د. محمد محسوب
x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...