مع أذان صلاة عصر اليوم، الخميس، يفتح المسجد الأقصى أبوابه لآلاف المصلين “ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً”. تصدح مآذن ومنابر أولى القبلتين وثالث الحرمين بالنصر المبين على صلف الاحتلال وبواباته الإلكترونية، التي آثر المقدسيون الصلاة خارج مسجدهم، على المرور عبرها. رفض المقدسيون دخول ساحات المسجد الأقصى عبر بوابات رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، حتى لو زرعها جنوده وعساكره بالورود.
إذن، إنه غضب مدينة السلام، وبوابة المعراج نحو السماء، إنه صمود وشموخ المقدسيين، شيباً وشباباً، نساءً ورجالاً، مسيحيين ومسلمين، الذي أعاد للقدس ضوءها وضياءها، بعد أن توضأت بدماء الشهداء والجرحى، وعرق المرابطين على باب المجلس، وباب السلسلة، وباب الأسباط، ومحيط المسجد الأقصى، وقبة الصخرة، وحائط البراق، وصولاً إلى جبل المكبر، وكنيسة القيامة، وكل حجر مقدس في مدينة الأنبياء.
وإن كان في صمود المقدسيين، واندحار الصلف الإسرائيلي وبواباته الإلكترونية، وكاميراته الذكية، الكثير من العبر والدروس الروحية، والمعاني الجليلة لمدينة القدس، وبهائها، فإن ما حدث منذ منتصف يوليو/تموز الجاري، وحتى صدور بيان المرجعيات الدينية صباح اليوم، يحيل إلى مجموعة من الحقائق السياسية التي سطرها الصمود الأسطوري للقدس وحماتها الفلسطينيين.
وأثبتت الأيام القليلة الماضية أن القدس، مدينة السلام، ستبقى الخط الأحمر الأصعب في وجه الاحتلال الإسرائيلي، وكما كان يقول الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات: “من القدس يبدأ السلام، ومن القدس تبدأ الحرب”. وقد أكدت الصحف الإسرائيلية خشية قيادات في الجيش والمخابرات “أن يؤدي العناد في نصب هذه البوابات إلى تداعيات خطيرة، تصل حد اندلاع موجة جديدة من الغضب الفلسطيني في القدس المحتلة، وفي الضفة الغربية، دون أن تستثني ارتدادات ذلك الدول العربية المجاورة، ولا سيما الأردن، التي يفترض أنها تتمتع بمكانة خاصة في الحرم القدسي الشريف وفق اتفاقية السلام بينها وبين إسرائيل”، كما ورد في تقارير لصحيفة “هآرتس”.
وعلى صخرة الصمود الفلسطيني تكسر زعم السيادة الإسرائيلية في القدس، وفي المسجد الأقصى، وأثبت “المقدسيون أنهم هم أصحاب السيادة الفعلية في الحرم القدسي الشريف”، كما كتب المراسل الصحافي المختص بتغطية القدس المحتلة في صحيفة “هآرتس”، نير حسون. كذلك، برهن الشعب الفلسطيني على سمو معركة القدس فوق كل الجراح والخلافات والانقسامات السياسية والجغرافية والدينية. في معركة القدس، صلى المسيحي إلى جانب المسلم، وقرعت أجراس الكنائس للصلاة عندما صمتت المآذن، ساند أبناء رام الله وجنين نابلس والخليل أشقاءهم أبناء القدس وحيفا ويافا والجليل، واصطفت المرابطات إلى جانب المرابطين في حارات وزواريب القدس، فكان الفلسطينيون المؤمنون “كالبنيان المرصوص؛ يشد بعضه بعضاً”، لا فصائلية، ولا أجندات حزبية، ولا انقسام مقيت، ولا تقاتل على جيفة “أوسلو” التي فشلت طيلة ربع قرن في تفكيك حاجز واحد من آلاف الحواجز التي تمزق الوطن الفلسطيني.
ثم إن هبة المقدسيين في وجه الغطرسة الإسرائيلية، أعادت الوهج للملف الفلسطيني على المستوى السياسي، بعد أن تراجع الاهتمام الإقليمي، والعالمي به، وبكل القضية الفلسطينية، مع الانشغال بملفات ساخنة ومتوترة. بل إن هبة القدس نفخت الروح في السلطة الفلسطينية، والرئيس محمود عباس، الذي بدا، أخيراً، في خلف المشهد، ودفعت به إلى حد وقف كافة الاتصالات مع إسرائيل، وعلى كافة المستويات، بما في ذلك “التنسيق الأمني”، الذي طالما ردد الرئيس الفلسطيني بأنه “مُقدس”. وكما تكسر التنسيق الأمني المدنس، على صخرة الصمود الفلسطيني المقدس، يأمل الفلسطينيون أن تشكل معركة القدس الأخيرة بوابة مراجعة سياسية فلسطينية شاملة، تتكسر فيها كل أوهام “أوسلو”.
ومع هبة الأقصى، تسابق النظام العربي الرسمي لغسل ما لحق به من أدران وذنوب منذ احتلال المدينة المقدسة في العام 1967، وتنافست أكثر من عاصمة عربية بالزعم أن مكالمة زعيمها “الساخنة” مع رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، هي التي دفعت الأخير إلى التراجع، وتفكيك البوابات الإلكترونية، وإعادة الوضع إلى سابق عهده. وقد تناسى هذا النظام العربي العاجز، أو كأنه أنكر، “أن الصمود التاريخي الساخن، الذي سطره أهل بيت المقدس خاصة، والشعب الفلسطيني عامة، وإجماعهم حول قضية الأقصى، وحده الذي أرغم الاحتلال على التراجع عن قراراته الأخيرة الباطلة والظالمة بحق المسجد الأقصى”.