عنق الزجاجة الممتد

مجدي مغيرة

مازال أسلوب الخداع بتقديم جرعة الأمل شرط الصبر والتحمل حتى نخرج من عنق الزجاجة من الأساليب التي تعطى مفعولا كبيرا عند كثير من الناس ، إذ تعودت كثير من الشعوب على الانتظار حتى يروا نتائج الوعود ، وما إن يحل موعد الاستحقاق المنتظر حتى تخرج أبواق النظام بقصة عاطفية مؤثرة تتحدث عن الكارثة التي حلت في اللحظات الأخيرة قبل قطف ثمار العمل الرائع والإنجاز المستحيل الذي تحقق على يد الحاكم الفذ الذي لا نظير له في الوجود ماضيا وحاضرا ومستقبلا .

وما إن يهضم الناس هذه التوليفة القديمة الجديدة ، حتى تبدأ ماكينة الإعلام في رسم خطوط الحلم الجديد ، الحلم الواعد الذي سيحقق الرخاء ويقضي على البطالة ويعمر البلاد ويُغْنِي العباد ويفيض الخير فيه على الجميع حتى على الطير في السماء وعلى الديدان تحت الأرض .

رأينا ذلك في عهد جمال عبد الناصر الذي ملأ الدنيا دعاياتٍ بأنه بَنَى بين كل مصنعٍ ومصنعٍ مصنعاً ، والذي أنتج دباباتٍ وطائراتٍ وصواريخَ يعجز الإنس والجن على أن يصنع مثلها ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، والذي بنى سدا عجز الأولون والآخرون عن بنائه حتى أتى عهدُه الميمون فصنع معجزة السد التي حيرت أهل المشارق والمغارب ، لكن مؤامرات الأعداء وحروب الخبثاء أخرت من قطف الشعب المصري لثمار تلك الإجازات ، وما عليه سوى الانتظار قليلا حتى نخرج من هذه الضائقة ، إذ لامجال الآن بأي مطالبات مادية أو معنوية ، حيث إننا في معركة ، أخرج لها أحد حواة عبد الناصر شعار”لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ” .

ولما أتى السادات بعده لم يبخل هو أيضا على الشعب بالوعود ، فقد وعد جنابُه أن كلَّ مصري ستكون له شقة يتزوج فيها وسيارة يركبها ، فضلا عن المال الوفير الذي سيمكنه من البدء في حياة زوجية سعيدة ، وأعلن بكل تحدٍ وثقة أن عام 80 ( 1980م) سيكون عام الرخاء ، قال ذلك ردا على شكاوى الناس من الغلاء وضيق العيش ، وفحوى كلامه :”اصبروا قليلا حتى يأتي موعد الرخاء” ، وقد كثرت في أيامه الثورات والأعياد ، مازلت أذكر منها ثورة القمح التي ستجعلنا لا نحتاج حبة قمح من الخارج ، وكذلك عيد القمح ، عدا طبعا عيد الفلاح .

وعلى نفس المنوال كان محمد حسني مبارك صاحب مشروع توشكا العملاق الذي سيملأ الأرض رخاء كما مُلِئت قبله فقرا ودمارا .

لكنْ كل هذا جانب ، والوعود التي وعدنا بها العهد الميمون الحالي جانب آخر

فقد بدأت ماكينة الكذب في إنتاج سلالة جديدة من الوعود سريعة النتائج قريبة التحقيق عظيمة الفوائد ، والأعجب منها أن الناس صدقوها رغم انخداعهم من قبل عشرات بل مئات المرات ، وانتظروا نتائجها في لهفة ، وصنعوا لها دعاياتٍ ضخمة خيَّلت لمن لا يعرف حقيقة الأوضاع في مصر أن البلد ستكون في مقدمة صفوف العالم خلال سنوات معدودة .

وقد كان أول وعد سمعناه هو أن ” وبكرة تشوفوا مصر” و “مصر أم الدنيا وهتبئى أد الدنيا” وقد رأيناها كيف صارت بفضل السيسي بالفعل “أد الدنيا” .

كما وعد السيسي بأن الأسد لا يأكل أولاده ، وهو بذلك يطمئن الناس أنه لن يؤذيهم ، وها هو الآن تشهد عليه السجون والمعتقلات – الجديد منها والقديم – كيف أنه لم يأكل أولادَه فقط ، وإنما أيضا طحنهم طحنا ، وقد رأينا أحكام الإعدام في عهده تصدر في سرعة مذهلة على أعداد كبيرة شملت الموتى الذين تحللت أجسادهم وصارت ترابا ، والمسافرين البعيدين عن البلد منذ سنين عديدة قبل الانقلاب ، والذين لم يسمعوا أبدا بالجريمة التي عوقبوا عليها إلا في المحاكم التي حوكموا أمام قضاتها ، بل وشهداء حماس الذين اختارهم الله تعالى إلى جواره منذ ما قبل ثورة 25 يناير بسنين عديدة .

وقد كانت أبرز الوعود التي صدقها كثير من الناس ، وتسابقوا بالمساهمة بأموالهم طمعا في أرباحها هو مشروع قناة السويس الجديدة ، وقد سمعنا عن أرباحها روايتين :

الأولى على لسان رئيس الهيئة بأن أرباح القناة سيصل إلى مليار دولار سنويا،

أما الرواية الثانية فقد كانت على لسان رأس النظام نفسه الذي أكد في لقاء تم بعد افتتاح التفريعة بأسبوعين قائلا: “لو على العشرين مليار اللي إحنا دفعناهم، إحنا جبناهم” .

ومشروع المليون شقة ، ومشروع العاصمة الإدارية الجديدة ، ومشروع تنزيل أسعار السلع ، وتخفيض سعر الدولار حتى يصل ثمنه إلى أربع جنيهات فقط .

وبينما تزيد ديون الدولة بنسب تتخطى حدود الأمان الاقتصادي المعروفة ، ويزداد فقر الناس بسرعات عالية ، وترتفع الأسعار ارتفاع حمم البراكين في الهواء ، وتُغلق المصانع ، ويسرَّح العمال ، وتنتشر البطالة انتشار النار في الهشيم ، يؤكد الطبالون والمصفقون والمبررون في كلاحة ووقاحة لم أجد لها مثيلا أن الاقتصاد في العهد الميمون ينطلق متقدما بسرعة الصاروخ ، وما على الناس سوى أن تصبر قليلا حتى نخرج من عنق الزجاجة ، ويأتي الفرج ؛ فيأكلون الشهد ويشربون شراب الورد .

إن عنق الزجاجة الذي يبرر به النظام فشله ، سيظل ممتدا بلا نهاية إلا في حالة واحدة فقط وهي انتهاء أجل هذا النظام الفاشل .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...