رفقاً بمن رقصوا أمام اللجان

وائل قنديل :

في كل مرة تندلع تظاهرات، تحت ضغط الأزمة الاقتصادية في مصر، يشتعل الجدل بشأن جدارة الفقراء بالغضب وبالثورة، ويتمدّد السؤال المتكرّر، مثل ثعبان أسود: كيف لمن لم تهزهم مشاهد الدم والقتل أن يثوروا ويغضبوا؟!

يكون السؤال متبوعاً، في الغالب، بسخرية من الذين رقصوا وصفقوا وطفلوا للاستبداد، أمام لجان الانتخابات، وقد تصل السخرية إلى حدود الشماتة المباشرة، والتشفي في الذين كانوا وقوداً لماكينة الطغيان والفشل التي دخلت الخدمة في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013.

في تظاهرات الخبز التي شهدتها مدن مصرية أمس، انتقل الجدل إلى مراحل أكثر عبثية، إذا كان البسطاء يواجهون آلة القمع، والفض، وحدهم، في الشوارع، بينما النخب تواجه بعضها بعضاً على “السوشيال ميديا”، في استعادة مضحكة للجدل القديم: الخبز، أم الحرية؟ وكأنه ليس مسموحاً بأن يطالب المواطن المصري بالاثنين، ويحصل عليهما، فتجد شططاً في ممارسة عنصرية سخيفة، ينتهي إلى الجزم بأن من ينتفض طلباً للخبز، لا يستحق الاحترام أو الدعم.

هذا المنطق هو ما تردّده أجهزة السلطة المستبدة على مر العصور، في مصر وغيرها، إذ يقايضون المواطن على حريته وكرامته، بخبزه، ويحشرونه في تلك المساحة الضيقة من الاختيار: طعامك أم كرامتك؟ وذلك انطلاقاً من قناعة المستبدين بأن الذين لا يجدون غذاءهم لا يمكن أن يثوروا أو يغضبوا من أجل معانٍ وقيم إنسانية وأخلاقية، كالحرية والكرامة والعدل والحق والخير.

ينطلق نفرٌ من المستنكفين من غضبة المواطنين البسطاء دفاعاً عن حقهم في الخبز، من أن هؤلاء هم السبب فيما آلت إليه الأوضاع في مصر، كونهم أيدوا الانقلاب، وهتفوا له.. صحيح أنهم أيدوا وهتفوا، لكنهم لم يكونوا سبباً لما جرى، بل كانوا، على الأرجح، أقرب إلى ضحايا، من كونهم جناة، فهم ضحايا دولة أمنية عسكرية مستبدّة، لم ترحم خوفهم وجوعهم للأمان، وقبل ذلك ضحايا مافيا إعلامية وسياسية وثقافية، لعبت برؤوسهم لصالح الجنرالات، وسكبت فيها كمياتٍ هائلة من الأكاذيب والأوهام، عن ذلك الجنرال الملهم الذي سيخلصهم من الجوع والخوف، بضربةٍ واحدة، وصورت لهم الظلم عدلاً، والخير شراً.. باختصار، لم ترحم بارونات الكلمة الأجيرة فقر الناس المعرفي والثقافي، فقادوهم عنوةً إلى حدائق الطغيان، العامرة بنسخ مزيفة من تماثيل أيزنهاور وجمال عبد الناصر.

باختصار شديد، يمكنك القول إن وراء كل رقصةٍ خليعةٍ من أجل الجنرال، هناك إعلامي، أو إعلامية، أو سياسي، أو سياسية، أكثر خلاعةً، روجوا للناس أوهاماً عن الزعيم القائد المُخٓلٍّص.

مرة أخرى، أكرّر أن ممارسة هذا النوع من الاستعلاء الممجوج، بالذهاب إلى أن نداء الجوع لا يكفي لإحداث ثورة، هو كلام يخلو من أي وجاهةٍ، فضلاً عن أنه لا يفعل سوى إخماد كل تحرّك شعبي عفوي بسيط، وأظن أن واحداً من أخطاء ثورة يناير أنها وقعت في فخ الاستعلاء على احتياجات الجماهير المادية، ومن الخطأ الجسيم أن يعتبر بعضهم أن الثورات فعلٌ ثقافيٌّ محض، ينبغي أن ينطلق من تنظيراتٍ فكريةٍ ضخمة، وقضايا مفاهيمية هائلة في مفرداتها ومصطلحاتها، أو لا يعترف بغضب أو انتفاضةٍ، إلا إذا كان في صدارتها رموز مشهورة، ومن خلفها أيقونات محترفة .

للمرة الألف: ليس مطلوباً في من يثورون ويغضبون أن يؤلفوا كتاب “فلسفة الثورة”، قبل أن يتحرّكوا ويدعوا الناس إلى التحرك، ولا يعقل أن نصادر حق البشر في التعبير عن آلام الجوع والفقر والتأزم المعيشي، بحجة أن الثورة لابد لها من شعاراتٍ أكثر تقعيراً، تتحدّث عن القيم الكلية المجردة، إذ لا تعارض أبداً بين مطلبي الخبز والحرية، أو بين الاستجابة لهتاف البطون وتلبية نداء العقول. فمن يطلب الخبز، بالضرورة، يسعى إلى الحرية، وليس صحيحاً أن الجوعى لا يطالبون بالحرية والعدل والكرامة.

في واحدٍ من نصوص كتابه “أوائل زيارات الدهشة”، كتب الشاعر الراحل محمد عفيفي مطر: لا تطأطئ بولائك إلا لأشدّ الأشياء هشاشة وضعفا: حشرة طنانـة، أو طحالب بركـة، أو بيضة طائر، أو رائحـة عرق، أو دمعــة مقهـور.

فقليلاً من الترفّق بجماهير مسحوقة، أراهم ضحايا أكثر من كونهم جناة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...