عام الحصاد المر

1

السعيد الخميسي :
* الأمانة فى ” الكتابة ” تتطلب من الكاتب الحر الأمين أن يكون موضوعيا ومتوازنا وصادقا . فلا يميل كل الميل فيذر الحقيقة كالمعلقة , متذبذبة ومتأرجحة فى عقول وأذهان الناس . من هذا المنطلق المتجرد من الهوى وحظ النفس , فكرت مليا فى أفضل اسم يمكن أن نسمى به عام 2016والذى أوشك أن تكسف شمسه , ويخسف قمره , ويأفل نجمه . فقلت فى نفسي نسميه عام المجاعة . لكنى تراجعت وقلت فلعل البطون الجائعة قد شبعت يوما ما . فقلت نسميه عام الظمأ . فقلت لعل الظمآن قد ارتوى يوما ما . فقلت نسميه عام الحزن . فقلت لعل الحزين قد فرح يوما ما . فقلت نسميه عام الخوف . فقلت لعل الخائف قد أمن على نفسه وأهل بيته يوما ما . فقلت نسميه عام “غياهب الجب . ” فقلت لعل بعض الأسرى قد تحرروا وعادوا إلى بيوتهم يوما ما . فقلت نسميه عام الاختفاء القسرى . فقلت لعل الغائب المخطوف يعود يوما ما . فقلت نسميه عام تعويم الجنيه . فقلت لعل الجنيه يرسو على شاطئ الأمان وبر السلام يوم ما . فقلت نسميه عام ارتفاع الأسعار . فقلت لعل نار الأسعار ينطفئ لهيبها يوما ما . فقلت نسميه عام برلمان تحصيل الحاصل . فقلت لعله يفئ للحق ويدافع عن مصالح الشعب يوما ما . فقلت نسميه عام حكومة تسيير الإعمال . فقلت لعلها تستيقظ من غفوتها وسباتها العميق وتوقف فرض الإتاوات على الفقراء والبؤساء يوما ما . وتبعثرت منى الأوراق , وتاهت منى الأفكار ,وغاصت منى المعاني والمفردات فى قاع رأسى وتحت صرير قلمى . ووقفت حائرا ومتسائلا : ألا من اسم يجمع كل ماسبق ذكره..؟ . لكن فى لحظة واحدة وعلى حين بغتة من نفسى قلت وجدتها , إنه عام ” الحصاد المر ” الذى يجمع كل ماسبق ذكره بالوصف غير المخل والتفصيل غير الممل.

* لست فى كل ماسبق ذكره أرتدي نظارة سوداء على وجهي فلا أرى إلا السيئات والعثرات والنكسات والهزائم والسلبيات . فالحقيقة أصبحت ساطعة كالشمس فى رابعة النهار, ترى بالعين المجردة , ولا تحتاج إلى ميكروسكوب مكبر ليراها من كان فى عينيه رمد أو عور . الحقيقة تقول أن عام 2016 كان عاما كبيسا ثقيلا ثقل الجبال الراسيات على ظهور المصريين الذين اكتووا بنار الأسعار وحرقوا بلهيب الدولار . وكأني أتحسس قول القائل : نحن فى زمن لا يزداد فيه الخير إلا إدبارا , ولا يزداد الشر فيه إلا إقبالا , والشيطان فى هلاك الناس إلا طمعا . أو بخيلا اتخذ بحق الله وفرا , أو متمردا كان بسمعه عن سماع المواعظ وقرا . اضرب بطرفك يمينا أو شمالا حيث شئت , هل ترى إلا فقيرا يكابد فقرا , أو غنيا بدل نعمة الله كفرا..؟ وكأني أرى الناس بلسان الحال يرددون قول القائل : رب يوم بكيت منه … فلما صرت فى غيره بكيت عليه . فقد ذهب الذين يعاش فى أكنافهم … وبقى الذين حياتهم لاتنفع . تسير فى كل مكان فى ليل أو نهار , فترى الوجوه عابسة , والنفوس بائسة , والمشاعر يابسة , والعيون زائغة حائرة . وكأني بأحدهم يقول غاضبا : ألا من موت يباع فاشتريه … خير من هذا الذى أنا فيه . ألا موت لذيذ الطعم يأتي …يخلصنى من العيش الكريه . إذا بصرت قبرا من بعيد … وددت لو أننى مما يليه . ألا رحم المهيمن نفس حر… تصدق بالوفاء على أخيه . هذا مجمل حال الناس إلا ما رحم ربك .

* إن سوسة الفساد عندما تنخر فى عظام أى مجتمع فإنها لاتتركه إلا جثة هامدة . يقول الحق عز وجل ” ظهر الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون . ” ولخطورة الفساد على أي مجتمع فقد جاء ذكر ه فى القران الكريم فى خمسين موضع كلها مشتقة من مادة ” فسد.” يقول ” الضحاك ” كانت الأرض خضرة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة ، وكان ماء البحر عذبا وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم ، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحا زعافا وقصد الحيوان بعضها بعضا .” فماذا لوعاش الضحاك ليومنا هذا وشاهد دماء المصريين وهى تسيل جهارا نهارا فى الشوارع والميادين والطرقات والجبهات..؟ ماذا لو عاش الضحاك وشاهد الناس وهم يكتوون بلهيب الأسعار ..؟ ماذا لو عاش الضحاك ورأى بعينيه الأغلبية العظمى من الشعب وقد ضاقت عليهم الدنيا بما رحبت وهم لا يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا يولون إليه.؟ ماذا لو عاش الضحاك ورأى كبار القوم يهربون بالمليارات إلى بنوك الغرب ويمزقون شباك القانون كسمكة القرش المفترسة , بينما صغار الموظفين يحاكمون إن تأخر أحدهم عن ميعاد عمله دقائق معدودات ..؟ ماذا لو عاش الضحاك ورأى كل شئ وقد انقلب رأسا على عقب..؟
* سئل الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أتوشك القرى أن تخرب وهى عامرة..؟ قال : إذا علا فجارها أبرارها . ” يقول صاحب ” المنطلق ” معلقا : “إن علو الفجار على الأبرار سبب الاضطراب والخراب . يعلو الفاجر فيولى أمثاله الأمور ولا ينفك كل فاجر أن يكون أسير شهواته فيطيع قلبه ويعيش فى غفلة عن ارتياد مافيه منافع قومه , ثم يكون أسير مصالحه فيظلم ويشتط ويتعسف فتهدر بالتالي طاقات كبيرة . وتتوارى الكفاءات تطلب لنفسها الستر . ستر عرضها من الاعتداء , وبدنها من العذاب . ويعود لايتصدى لأمور الأمة إلا كل جاهل أناني , فيعم الاضطراب الاجتماعي , ثم بعده الخراب الاقتصادي والمدني والعلمي . إذا تمادى الفاجر فى فجوره , وتمادى الأبرار فى خوفهم وجبنهم وسكوتهم وقعودهم عن النهى عن المنكر , اشتد غضب الله . فإذا غضب , عم وشمل غضبه الفجار بما فجروا وظلموا , والأبرار بما سكتوا وتقاعسوا ورضوا بالمذلة . ” قال الله تعالى : ” واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة.” وجاء فى الحديث : أنهلك يارسول الله وفينا الصالحون ..؟ قال : نعم إذا كثر الخبث. وما أكثر الخبث فى زماننا هذا .

* الناس تتساءل : ما الذي يحدث فى مصر ..؟ موجة من الإعصار المدمر من زوابع الأسعار تضرب استقرار المجتمع . الأسعار تطير كالبرق تخطف أبصار الناس فلا يكادون يبصرون من هول الصدمة والدهشة . والأجور متجمدة فى ثلاجة الموتى لاتجد حتى من يغسلها ويكفنها ويدفنها ترحما عليها . ماذا يحدث لأسعار الأدوات الكهربائية من ارتفاع غير مسبوق ..؟ ماذا يحدث لأسعار اللحوم والأسماك والبقوليات من ارتفاع غير معهود..؟ ماذا يحدث لأسعار فواتير الماء والكهرباء والتليفونات من ارتفاع غير معروف ..؟ ماذا يحدث لأسعار الملابس والأحذية ومواد البناء من ارتفاع غير مشهود..؟ ماذا يحدث من ارتفاع يومى جنوني لأسعار الدواء ..؟ تتكلم .. تشكو .. تئن .. تصرخ , يقولون لك أنها لعنة الدولار..! تتساءل : أين الحكومة والبرلمان والأجهزة الرقابية , فلا يجيبك أحد . وهل أصبح مصيرنا معلقا بأسعار الدولار ..؟ هل أصبحنا رهائن فى مستعمرة الدولار ..؟ هل أصبحنا عبيدا فى مملكة الدولار ..؟ ماهذا..؟ وما الذى حدث ويحدث وسيحدث فى مصرنا هذه الأيام..؟ ألا من حل يريح الناس ..؟ إلا من مخلص يضع الأمور فى نصابها ..؟ ألا من خطة ينجو بها المجتمع ..؟ ألا من حكومة راشدة تشعر بما يشعر به المصريون البؤساء الفقراء..؟ ألا من برلمان يقظ يقول للحكومة : كفاك ضحكا واستهزاء بمصير الشعب المطحون تحت عجلات الفقر ..؟

* روى فى فى عهد الفاروق عمر “كانت الرمادة جوعاً شديداً أصاب الناس بالمدينة وما حولها، حتى جعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، وحتى جعل الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمقفر” وقال الحافظ ابن كثير: “وقد روينا أن عمر عسَّ المدينة ذات ليلة عام الرمادة، فلم يجد أحداً يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلاً يسأل، فسأل عن سبب ذلك، فقيل له: يا أمير المؤمنين، إن السؤَّال سألوا فلم يعطوا، فقطعوا السؤال، والناس في هم وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون”. فلجأ الناس إلى أمير المؤمنين فانفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الأطعمة والأموال حتى أنفذه. وألزم عمر نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس. فكان في زمن الخصب يبث له الخبز باللبن والسمن ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت ولايشبع مع ذلك فاسود لون عمر وتغير جسمه حتى كاد يخشى عليه من الضعف. واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر ثم تحول إلى الخصب والدعة بفضل الله ثم بفضل شفافية كبار المسؤولين ونظافة أيديهم من نهب وسرقة المال العام .

* وكأني بحديث أنس رضى الله عنه الذى رواه عن الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة قال : ” ما من يوم ولا ليلة ولا شهر ولاسنة إلا والذي قبله خير منه . سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم . ” وكان معاوية رضى الله عنه يقول : ” معروف زماننا منكر زمان قد مضى , ومنكره معروف زمان لم يأت .” يقول الشاعر الحكيم :” أف للدنيا إذا كانت كذا … أنا منها فى بلاء وأذى . إن صفا عيش امرئ فى صبحها… جرعته ممسيا كأس الردى . الله نسال العفو والعافية فى الدين والدنيا والآخرة . وأخيرا , السؤال الحائر هو : هل تستطيع أجهزة الرقابة اليوم أن تطبق قانون ” من أين لك هذا على كبار القوم ؟” هل يحاسب الكبار إذا فسدوا مثلما يحاسب صغار القوم ..؟ هل يحاسب الشريف مثل الضعيف الفقير ..؟ هل يحاسب الوزير مثل الغفير ..؟ هل يشعر ويئن كبار القوم بما يشعر به السواد الأعظم من الناس من فقر وهم وغم وغلاء وبلاء ..؟ هل الملايين التى يتقاضاها كبار القوم شهريا تتناسب مع ما يقدمونه للوطن من خدمات..؟ هل العدالة ناجزه مع الكبار الأقوياء كما هى ناجزه وسريعة مع الضعفاء ..؟ هل القانون يطبق على الجميع دون النظر إلى المنصب أو اسم العائلة دون محسوبية أو واسطة ..؟ هل المناصب تعطى لأصحاب الكفاءات أم لأصحاب الو لاءات ..؟ هل تعويم العملة أضر بأصحاب الملايين كما أضر بأصحاب الملاليم..؟ هل تم محاسبة نظام حكم مصر ثلاثين عاما شهد بفساده القاصي والداني والقريب والبعيد..؟ الإجابة على تلك الأسئلة توضح لنا هل كان العام المنصرم حصاده ملح أجاج أم عذب فرات..؟ نسال الله السلامة فى ديننا والأمن والأمان لوطننا . والله من وراء القصد والنية .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...