دعوة عامة إلى التقشف والتعفف !

1

السعيد الخميسي :
* نظرا للظروف العصيبة والكئيبة التى تمر بها البلاد ويئن منها العباد بسبب ارتفاع الأسعار وجنون الدولار ومعه انكشفت كثير من الأسرار , فقد قررت طواعية التخلى عن إدارة شؤون البيت وتفويض الأمر لربة الأسرة لإدارة شؤونه وتدبير أحواله هربا من المساءلة والمحاكمة اليومية بسبب ضيق ذات اليد , من باب ” لابد مما ليس منه بد. ” وخاصة بعد اختفاء السكر من المحلات والأسواق مما نتج عنه ارتفاع نسبة ” السكر ” فى الدم وإعلان حالة التقشف وإغلاق ” الفم ” من الصباح إلى المساء من باب ” صوموا تصحوا ” وما عليك من ضيق الصدور وانتشار الظلم والجور من كبار المسؤولين والسادة الوزراء الموقرين الذين لايرقبون فى مصرى إلا ولا ذمة وكأنهم من أشراف قريش ونحن من عبيد الحبشة لاحق لنا فى هذا الوطن , ولا فى ثرواته , ولا فى خيراته , ولا فى أرضه ولا فى سمائه . فالعصى الغليظة لمن عصى فوق رؤوسنا , والكرابيج السوداني تسلخ ظهورنا , والأحكام المغلظة المؤبدة تنتظر مصيرنا لكى تهوى بنا فى مكان سحيق لا نرى فيه شمسا ولا قمرا ولانجوما ولا أرضا و لا سماء . فماذا أنت فاعل يا عبد الله , أو يا أمة الله , غير الشكوى إلى الله ثم إعلان حالة التقشف العامة وربط الأحزمة على البطون حتى لانصاب بالخبل والجنون , ولنصبر ولنتحتسب أجرنا وصبرنا على الله حتى تمر الأيام والسنون , وما عند الله خير وأبقي . فاصبروا واحتسبوا , فعسى الله أن يأتى بالفرج القريب من عنده .

* إن الدعوة إلى التقشف والزهد والامتناع والتعفف عن حياة البذخ والترف فى نعيم الدنيا الزائل لهو خلق رفيع ومقام كبير لا يرقى إليه إلا أولو الهمم العالية الذين يقدرون ظروف البلاد ويستشعرون آلام العباد من طلوع الشمس حتى غروبها . فجدير بنا أن ننتقل من ثقافة الاستهلاك إلى ثقافة الزهد والتقشف والاقتصاد والتوفير رحمة بحكومتنا الرشيدة التى تكمل عجز ميزانيتها من جيوب الفقراء والمعدومين , فهى ترى وتسمع دبيب النملة التى تسرق حبة السكر فى ظلمة الليل ولا ترى ولا تسمع نهيم الفيل الذى يسرق محل السكر جهارا نهارا . وذلك من باب احترام وتقدير قول الإمام الشافعي رضى الله عنه ساعة قال : وعين الرضا عن كل عيب كليلة …. وعين السخط تبدى المساويا . فعين الحكومة لاترى كبار اللصوص ولا القطط السمان ولا الأفيال من قدم الزمان , ولا الوحوش فى الأدغال , ولا أسماك القرش التى لاتخطر لأحد على بال , ولا بنوك الغرب التى قد طفح فيها المال العام المسروق والمنهوب حتى فاض وسال , ولكنها فقط ترى الفقراء والمساكين والمطحونين الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف . أقول لهولاء اللصوص كما قيل : ” رغيف خبز يابس تأكله فى زاوية , وكوب ماء بارد تشربه من صافية , وغرفة ضيقة نفسك فيها خالية , أو مسجد بمعزل عن الورى فى ناحية , تدرس فيه دفترا مستندا بسارية , خير من الساعات فى القصور العالية , تعقبها عقوبة , تصلى بنار حامية .”

* هل تتذكرون يا أبناء شعبنا العظيم يوم أن تولى “عمر بن عبد العزيز” الخلافة , فقام المنافقون والمقربون بالتقرب زلفى إلى الخليفة الزاهد العادل المتقشف فقربوا له المراكب والمواكب كما فعلوا مع أسلافه , فقال لهم : ” لا…. إنما أنا رجل من المسلمين، غير أني أكثر المسلمين حملا وعبئا ومسئولية أمام الله، قربوا لي بغلتي فحسب، فركب بغلته، وانطلق إلى البيت، فنزل من قصره، وتصدق بأثاثه ومتاعه على فقراء المسلمين. ثم نزل في غرفة في دمشق أمام الناس؛ ليكون قريبًا من المساكين والفقراء والأرامل، ثم استدعى زوجته فاطمة، بنت الخلفاء، أخت الخلفاء ، زوجة الخليفة، فقال لها: يا فاطمة، إني قد وليت أمر أمة محمد عليه الصلاة والسلام , فإن كنت تريدين الله والدار الآخرة، فسلّمي حُليّك وذهبك إلى بيت المال، وإن كنت تريدين الدنيا، فتعالي أمتعك متاعاً حسنًا، واذهبي إلى بيت أبيك، قالت: لا والله، الحياة حياتُك، والموت موتُك، وسلّمت متاعها وحليّها وذهبها، فرفَعَه إلى ميزانية بيت مال المسلمين .” هذا أمير المؤمنين يعطى درسا عمليا لكل الأمرء والوزراء والحكومات من بعده إن التقشف ليس خطبا منبرية براقة تخطف القلوب والأبصار , ولكنه سلوكا عمليا طبقه أمير المؤمنين أولا على نفسه وعلى آهل بيته . فهل تتعلم حكومتنا وتطبق سياسة الزهد والتقشف على نفسها أولا قبل أن تطالب الشعب البائس الفقير.

* وهل تنسى صفحات التاريخ أيضا عمر بن عبد العزيز يوم أن بلغه أن ابنا له اتخذ خاتما، واشترى له فصًا بألف درهم، فكتب إليه عمر قائلاً: “أما بعدُ، فقد بلغني أنك اشتريت فصًا بألف درهم، فبعه، وأشبِع به ألف جائع، واتخذ خاتمًا من حديد، واكتب عليه: رحم الله امرًأ عرف قدر نفسه ” بل إنه فى مرض الموت لم يكن له إلا ثوب واحد . فعن مسلمة بن عبد الملك , قال : دخلت على “عمر بن عبد العزيز” أعوده فى مرضه , فإذا عليه قميص متسخ , فقلت لفاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر : اغسلي قميص أمير المؤمنين . قالت : نفعل إن شاء الله . ثم عدت فإذا القميص على حاله . فقلت : يا فاطمة الم آمركم بغسل قميص أمير المؤمنين..؟ فقالت والله ماله من قميص غيره..!.أين حكومتنا الرشيدة وكبار مسئوليها من هذا الزهد والتقشف والتعفف..؟ أين هم من هذا الأدب الربانى والسلوك الحضاري ..؟ أين هم ومعظمهم فى الترف والنعيم غارقون , وفى بحار أموال الدولة يسبحون ..؟ أسألوا التاريخ عن ثلاثين سنة عجاف هى مدة حكم نظام مبارك , أين ذهيت أموال الدولة , اسألوا عز ورشيد وبطرس وسالم والذين سبقوهم عن مصادرة العقارات ونهب والمليارات ولا حسيب ولا رقيب . بل أسألوهم أين لجنة استرداد أموال مصر..؟

* وهل نتحدث عن التقشف والتعفف والزهد فى المال العام بل فى الدنيا بأسرها ولانذكر “عمر بن الخطاب ” رضى الله عنه يوم أن مرض يوما ما, فوصفوا له العسل كدواء. وكان بيت المال به عسلاً جاء من البلاد المفتوحة فلم يتداوى عمر بالعسل كما وصف الأطباء إلا بعد أن جمع الناس وصعد المنبر واستأذن الناس وقال لهم-” لن أستخدمه إلا إذا أذنتم لي، وإلا فهو علي حرام . فبكى الناس إشفاقا عليه .. وأذنوا له جميعاً .. ومضى بعضهم يقول لبعض: لله درك يا عمر . هو نفسه عملاق الإسلام الذي يروى عنه أن زوجته دخلت عليه عقب توليه الخلافة فوجدته يبكي، فقالت له: ألشيء حدث؟ قال: لقد توليت أمر أمة محمد صل الله عليه وسلم .. ففكرت في الفقير الجائع و المريض الضائع و العاري المجهول و المقهور و المظلوم و الغريب و الأسير و الشيخ الكبير .. وعرفت أن ربي سائلي عنهم جميعاً.. فخشيت…. فبكيت . تلك هى الخشية من تبعات المسؤولية أمام الله يوم العرض والحساب ” . فهل لكم أيها المسؤولون أن تتذكروا الفقير والمريض وذى الحاجة ..؟ هل لكم أن تتذكروا الذين لايسألون الناس إلحافا يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ..؟

* إن دعوة الحكومة الشعب إلى التقشف , هى دعوة قد تكون مقبولة شكلا شريطة أن تضرب الحكومة المثل الأعلى بنفسها أولا , فلا نرى سفها ولا ترفا ولا تبذيرا ولا إسرافا فى مال الدولة الذي هو ملك للشعب . هل من التقشف أن يتقاضى الإعلاميون والمقربون والوزراء والمدراء ومن حولهم الملايين كل شهر من خزينة الدولة الخاوية على عروشها , والغالبية العظمى من الشعب ترقد فى كهف مظلم يعشش على جوانبه وفى داخله عنكبوت الفقر والجهل والمرض..؟ هل من المعقول أن تتوسع الحكومة فى بناء السجون والمعتقلات وكأن شعار المرحلة زنزانة لكل مواطن ..؟ ألم تعلم الحكومة أن الدولة فى حاجة إلى بناء مدارس وجامعات ومستشفيات لمحاربة الجهل والمرض والتخلف والأمية ..؟ هل من التقشف أن يكون لكل وزير وكبير أسطول من السيارات الفارهة له ولأفراد أسرته , والشعب يتلظى تحت حرارة الشمس لايجد من يحنو عليه أو يرحمه ..؟ هل من التقشف أن يبيت السادة الوزراء وبطونهم ملأى بكل مالذ وطاب من خير هذا الوطن , ناهيك عن أرصدتهم فى البنوك , وعامة الشعب لايجدون كسرة خبز أو شربة ماء …؟ هل من التقشف أن يدخل المسؤول الوزارة خماصا ويخرج منها بطانا ..؟ قولا واحدا : أقول للمسؤولين : أكلتم فشبعتم فنمتم فنسيتم آلام البطون الجائعة…!. تقشفوا يرحمكم الله .

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هزيمة مؤقتة

محمد عبدالقدوس الأوضاع في بلادي بعد تسع سنوات من ثورتنا المجيدة تدخل في دنيا العجائب.. ...