بقلم : السعيد الخميسي .
* إذا ظلم أي بشر في محاكم “الإنسان ” وعجز عن الوصول لحقه بسبب الزور والبهتان , فليجأ إلى محاكم ” الغربان ” , ففيها العدل والإنصاف وكلمة الحق التي لا تحتقر ولا تهان . لقد قتل ” قابيل ” أخاه ” هابيل ” بعدما تأججت فى قلبه نار الحسد فأكلت الأخضر واليابس . قتل ” قابيل ” أخاه بدم بارد مع سبق الإصرار والترصد . ولكنه ظلم أخاه ظلما كبيرا بعد قتله , فترك جثته فى العراء عرضه للوحوش والهوام والسباع والكلاب الضالة , وفى رواية أخرى , حمله على ظهره سنة كاملة لا يدرى ماذا يفعل بجثة أخيه الذي قتله . لكن عدالة السماء تدخلت , فبعث الله عز وجل الغراب ليعلم الإنسان العدل والرحمة والشفقة . ” فبعث الله غرابا يبحث فى الأرض ليريه كيف يوارى سوءة أخيه ” بعث الله غرابين فاقتتلا , فقتل أحدهما الآخر , فحفر له حفرة بمنقاره ورجليه ثم ألقاه فى الحفرة ليوارى جسده إكراما للميت . ساعتها علم ” قابيل ” أن الغراب أكثر منه علما وفقها , وأرق منه شعورا وإحساسا , وأكتر منه رحمة وعدلا . فقال نادما متحسرا ” ياولتى ” وهى كلمة تحسر وتلهف على فعلته الشنعاء وجريمته النكراء . لقد حاكم ” الغراب ” ابن آدم ” قابيل ” ولقنه درسا فى الأخلاق , علمه أن حرمة الجسد ميتا كحرمته حيا. إنها “محاكم الغربان ” فى عالم الطيور ,أكثر علما بالقانون الالهى من محاكم ” الإنسان ” فى عالم لايهوى غير حب النفاق والظهور ولو على جثة أخيه المقتول..!.
* وقد أثبت الباحثون فى دراستهم العلمية أن هناك ما يسمى ” محاكم الغربان ” , تلتزم فيها الغربان بالعدالة وتطبيق القانون على أي ” غراب ” يخرج على نظامها الصارم دون محاباة أو واسطة أو تمييزعنصرى بين غراب أسود وآخر أبيض إن وجد . فالكل أمام منظومة العدالة الغربانية سواء..!. من بين الجرائم التى يحاكم عليها الغربان , محاولات التعدي على حرمات غراب آخر من أنثى أو فراخ أو عش أو طعام , ولكل جريمة عقوبتها الخاصة بها , ففي حالة اغتصاب طعام الفراخ الصغار , تقوم “جماعة الغربان” بنتف ريش الغراب المعتدي حتى يصبح عاجزا عن الطيران كالفراخ الصغار قبل اكتمال نمو ريشها . وفي حالة اغتصاب العش وتهدمه في مراحل الدفاع عنه , تكتفي “محكمة الغربان” بإلزام المعتدي ببناء عش جديد لصاحب العش المعتدَى عليه , وفي حالة اغتصاب أنثي غراب آخر فإن جماعة الغربان تقضي بقتل المعتدي ضربا بمناقيرها حتى الموت . وتنعقد محاكم الغربان عادة في حقل من الحقول الزراعية أو في أرض فضاء واسعة , تتجمع فيه “هيئة المحكمة” في الوقت المحدد , وينحي الغراب المتهم تحت حراسة مشددة , وتبدأ محاكمته فينكس رأسه , ويخفض جناحيه , ويكف عن النعيق اعترافا بذنبه . فإذا صدر الحكم بالإعدام , مزقت ” جماعة الغربان ” الغراب المدان تمزيقا بمناقيرها الحادة حتى الموت , وحينئذ تقوم هيئة تنفيذ الأحكام بحفر قبر للغراب المدان وتدفنه احتراما للموت والميت .. أرأيتم عدالة ناجزة فى عالم الإنسان مثل تلك العدالة الناجزة فى عالم الغربان..؟ لا… والله…!؟ ليتنا نحتكم إلى محاكم الغربان…!
* إن جثث البشر ولاسيما من العرب والمسلمين خاصة هذه الأيام , فى كثير من الدول العربية والإسلامية , تلقى فى الشوارع والطرقات بالآلاف بلا حرمة , وكأنها جثث حيوانات نافقة , أكلت الذئاب والكلاب منها أجزاء فشبعت , ثم تركت أجزاء أخرى لحين جوعة..!. اختلطت جثث الشيوخ الركع بالأطفال الرضع , وجثث النساء بالرجال , وجثث الصغار بالكبار , وسالت الدماء انهارا , تجرى فى موج كالجبال فى سوريا وليبيا واليمن والعراق وقبلها فى الصومال والشيشان والبوسنة والهرسك وإفريقيا الوسطى . صرنا شعوبا رخيصة , أعراضنا ودماؤنا وأموالنا , رخيصة لا ثمن ولا قيمة لها . إن قتل فرد من الغرب أو الشرق بحق أو بغير حق , انتفض العالم كله , وهاج وماج , وشجب واستنكر , وهدد وبدد , وأرغد وأزبد . بل واتهم المسلمين بأنهم هم القتلة والمجرمون من غير تحقيق ولا تدقيق . فنحن إرهابيون إن قتلنا , وإرهابيون إن دافعنا عن أنفسنا , وإرهابيون إن تكلمنا , وإرهابيون إن صمتنا , وإرهابيون فى كل لحظة بليل أو نهار طلعت فيه الشمس أو غابت . وكأننا فى نعيش فى غابة حيوانية البقاء فيها للأقوى لا قوانين تحكم ولا دساتير , وكأننا إلى عالم الجاهلية الأولى نتقدم وبخطى سريعة نسير . إن الحيوانات تدفن قتلاها , أما قتلانا فتلقى جثثهم فى النواصي والطرقات بلا أخلاقيات أو حرمات . ليتنا نحتكم إلى محاكم الغربان…!
* ومع كل الجرائم والموبقات التى ترتكب ضد عالمنا العربي والاسلامى سواء من الداخل أو الخارج فإن منظمة ” الأمم المتحدة ” وأمينها العام ” بان كى مون ” لا تستيقظ من سباتها العميق لا فى صيف ولا فى شتاء , ولا يستنكر الرجل ولا يشجب إلا حين يريد ويشاء . فإن تحرك لسانه بين فكيه ببطئ السلحفاة ليعرب عن أسفه , فاعلم أنه يعرب عن أسفه لان المجرمين والسفاحين أخذوا وقتا طويلا فى الإنهاء على ضحيتهم أكثر مما ينبغى . أما إذا أعرب عن قلقه , فاعلم أن هذا القلق نابع من حقيقة أن المجني عليه أو الضحية يكاد يتغلب على الجاني المجرم ويهزمه بالضربة القاضية , وهذا ما يخشاه الرجل كما يحدث فى سوريا اليوم . أما إذا قال أن على جميع الأطراف ضبط النفس , فاعلم انه يريد من الضحية الضعيف الأعزل أن لايدافع عن نفسه ويستسلم للمجرم المعتدى , ويرفع يديه لأعلى ووجهه للحائط حتى يقتل بدم بارد , كما يحدث فى فلسطين . تلك هى حل شفرات لغة الأمين العام لهذه المنظمة التى مانصرت يوما حقا , وما أدحضت باطلا , وما وقفت مع مظلوم , وما ردت حق الضعيف إليه . وصدق الشيخ ” كشك ” حين وصفها ساخرا قائلا : ” إذا احتكمت دولتان صغيرتان إلى هيئة الأمم المتحدة , ضاعت الدولتان الصغيرتان معاً، وإذا احتكمت دولة صغيرة ودولة كبيرة إلى هيئة الأمم المتحدة , ضاعت الدولة الصغيرة، أما إذا احتكمت دولتان كبيرتان إلى هيئة الأمم المتحدة ضاعت الأمم المتحدة نفسها..!”
* هل أخطا الشاعر حين قال يوما : إذا كان الغراب دليل قوم… فأبشر بالخراب..!. هل أساء الشاعر الظن بالغربان..؟. هل سيأتى أو أتى اليوم الذي يقول فيه الإنسان ندما على انتسابه لمحاكم البشرية الظالمة : ياليتنى كنت غرابا..؟ تنعقد ” محاكم الغربان ” فى ارض زراعية أو أرض فضاء جهارا نهارا لمحاكمة أفرادها المتهمين على مرأى ومسمع من العالمين . أما المحاكم البشرية اليوم فى أنحاء المعمورة , فلا تعلم نفس ما أخفى فيها من ظلم وزور وبهتان . وكما يقولون فى بلاد العرب والمسلمين : لايهم أن توكل عنك محاميا يعرف القانون , لكن الأهم أن توكل عنك محاميا يعرف القاضى..! . ليتنا نتعلم من ” محاكم الغربان ” التى تتسم بالشفافية والعدالة وعدم المحسوبية والمحاباة للقوى على حساب الضعيف , لان الكل أمام القانون سواء..! فهل يتعلم بنو الإنسان..؟ أم أن الطريق طويل والزاد قليل ..؟ رحم الله الفاروق عمر ساعة قال : لوماتت شاة على شاطئ الفرات ضائعة لظننت أن الله سائلى عنها يوم القيامة . واليوم يموت ملايين العرب والمسلمين ولن يسأل عنهم أحد إلى يوم الدين . ولله الأمر من قبل ومن بعد .