خربها وقعد على تلها.. آخر ما تبقى من انقلاب العسكر 1952

أنا في الشرطة وانت بقيت في الجيش وهانخربها ونقعد على تلها يا علي يا ويكا.. هذه الكلمات تعد أصدق ما قيل في فيلم “رد قلبي” الذي لا يمل نظام العسكر من إذاعته رغم أنه كان خير شاهد على فساد دولة العسكر، ولم ينتصر لها كما أراد نظام جمال عبد الناصر.

٦٦ عاما على حصار جيش نكسة يونيو وانقلاب يوليو، على مصر، بعد أن نجح عبد الناصر في الاستيلاء على الدولة المصرية مارس ١٩٥٤، وحسم عبد الناصر الصراعات لصالحه في أزمة مارس الشهيرة وتحديد إقامة محمد نجيب، حتى إن عبد الناصر قام بسجن الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس رئيس تحرير روز اليوسف حينما فطن لغدر عبد الناصر وكتب في مقاله الشهير الذي كتبه في ٢٢ مارس ١٩٥٤ تحت عنوان “الجمعية السرية التي تحكم مصر”، ما أغضب عبد الناصر وأدخله على إثرها السجن ٣ أشهر.

كان عبد القدوس يقرأ جيدا ما يدور في عقل ضباط الجيش، بعد أن كشفوا عن نيتهم الرغبة في البقاء بالحكم وعدم العودة لثكناتهم، حتى تحولت مصر إلى ثكنة عسكرية، ومنذ هذا التاريخ وحتى الٱن وبدلا من أن نكون وطنا يمتلك جيشا قويا أصبح جيشا يمتلك وطنا، لتحتكر المؤسسة الثروة والسلطة والسياسة بعد التخلص من الملك وطبقة الباشوات ليحل محلهم العسكر .

قمع وخيانة

ونادت يوليو بشعاراتها البراقة التي خدعت المصريين والفقراء، لتستمر الخديعة طوال 66 عاما لم يجن منها المصريون إلا الفقر والنكسات، وينجح عبد الناصر في إحكام قبضته الحديدية على الحكم وإلغاء السياسة والأحزاب وفرض فكرة التنظيم الواحد تحت دعاوي انصهار قوى الشعب العاملة.

وكان الطريق واضحا منذ البداية ووقعت أحداثا كانت بوصلة ومؤشرا للجميع كيف سيكون حكم الضباط الأحرار .. او بالأحرى كيف سيكون حكم عبد الناصر بعد أن تخلص من رفاق الدرب ولم يبق معه سوى شريكه الرئيسي عبد الحكيم عامر حتى هزيمة ١٩٦٧ .. فبعد حركة الجيش وبالتحديد في ١٢ أغسطس ١٩٥٢ قام عمال مصنع كفر الدوار باعتصام سلمي وإضراب اعتراضا على الأجور والحوافز ونقل بعض الزملاء تعسفيا ودون إبداء أسباب إلى كوم حمّادة وتطور الأمر سريعا.

وانتظر العمال حضور نجيب الذي لم يحضر وخرجوا ينتظرون عند أبواب المدينة ولكنهم اشتبكوا مع الجنود اشتباكا عنيفا وسقط من سقط وكان وقتها عبد الناصر وزيرا للداخلية وتشكلت لجنة تحقيقات عسكرية أسفرت أحكامها عن إعدام كل من محمد مصطفى خميس ومحمد عبد الرحمن البقري والتي عرفت إعلاميا بقضية خميس والبقرى وكانت المحاكمة هزلية لأقصى درجة ، ويبدو ان عبد الناصر ان يأخذ من هؤلاء كبش فداء لمرحلة قادمة ستكون أشد قسوة وتنكيلا لكل من يعترض والاسباب جاهزة أننا في مرحلة ثورة وهناك أعداء يجب القضاء عليهم.

أما مارس ١٩٥٤ كانت المؤشر الأكبر في طبيعة الطريق الذي اختاره عبد الناصر لمصر ، وانتهت الازمة والصراع الذي تأجج في مجلس قيادة الثورة بين الرفاق الذين قاموا بالحركة المباركة بعزل نجيب في فيلا بالمرج مكث فيها ١٧ عاما والقضاء على كل من كان معه او في صفه على اعتبار أن هؤلاء أصبحوا ضد الثورة لدعوتهم بعودة الجيش لثكناته وعودة الحياة البرلمانية مرة اخرى، وتم إلقاء مشروع دستور ١٩٥٤ في القمامة، كما تم الاعتداء على عبد الرازق السنهوري من قبل بعض ضباط الجيش أصحاب البلد الجدد.

وانفرد عبد الناصر بالسلطة ومعه شريك العمر عبد الحكيم عامر فالأول له الزعامة والتمدد الإقليمي عبر القومية العربية والثاني يسيطر على شئون الداخل.

وفي هذا الإطار، يقول الدكتور عصمت سيف الدولة في كتابه هل كان عبد الناصر ديكتاتورا ؟ ” لاشك في ان الوحدة الوطنية تمثل حدا على نشاط الديمقراطي يجعل الفاصل بين النشاط المشروع والنشاط المعادي او بين المعارضة والتآمر فاصلا دقيقا وقد يختلطان على مستوى القاعدة النشيطة او في تقدير السلطة المتوترة ، فتدفع الحركة الديمقراطية ثمن التآمر او الخوف من التآمر” .

ولازال الكلام لعصمت سيف الدولة “أنه ينتج عن هذه الحالة صعود القوات المسلحة إلى المركز الأول من مراكز القوى في الدولة على أساس انها المسئولة الأولى عن سلامة الوطن . واكتسابها ، بحجة ان الحرب أو خطر الحرب او الاستعداد للحرب سلطة تعلو في كثير من المجالات على السلطة المدنية التي تصبح احد وظائفها الأساسية تنفيذ متطلبات القوات المسلحة ماديا واقتصاديا وبشريا وتأمينا وأمنا ، وتحصينها صد المعرفة او النشر او النقد.

ويعني سيف الدولة أن عبد الناصر أسس لأن تكون قيام دولة عسكرية فوق الدولة المدنية ، وقد بلغ امر هذا الصعود حد صدور قانون ( ١٦٠ لسنة ١٩٦٢ ) يحرم على ديوان الموظفين والوزارات والمصالح والهيئات والشركات العامة والخاصة والجمعيات تعيين اي موظف او عامل في اية وظيفة إلا بعد إخطار مكتب نائب القائد الأعلى المشير عبد الحكيم عامر ثم الانتظار شهرا لمعرفة ما اذا كان سيادته من أفراد القوات المسلحة العاملين فعلا من يرشحه لإشغال الوظيفة الخالية فأذا ما رشح له احدا أصبح له الأولوية في التعيين على المرشحين معه في نفس مرتبة النجاح . ثم وهذا الكلام اغرب اذا تم تعيين مرشح القيادة فأنه لا ينتقل اليها ليشغلوا فعلا بل تبقى شاغرة ويحافظ له بها ويكون في حكم المعار الى القوات المسلحة اي يتقاضى راتبها.

صدر هذا القانون بمناسبة حرب اليمن وكاد يشل الجهاز المدني للدولة ثم استطرد عصمت سيف الدولة عن إجراءات سقوط الدولة العسكرية والتي حدثت بعد هزيمة ١٩٦٧ وما جرى من محاكمات عن جرائم تعذيب قد ارتكبت في السجن الحربي.

ويأتي عام ١٩٦١ واعلان الميثاق والقرارات الاشتراكية والتأميم، حيث حاول عبد الناصر أن يعطي لنفسه صورة مزيفة كمجدد في الحياة المصرية بينما الواقع انه أنهى الموجة الثورية، حتى الإصلاحات التي زعم أنها تصب في مصلحة الفقراء، كانت بشكل فوقي وغير ديمقراطي . فأنتج النظام ما كان يستطيع ان ينتجه في ظرف ١٠ سنوات لا أكثر ثم دخل في ازمة بعد ما بلغ حدوده وفقد نفسه . وانتهز الاستعمار الأمريكي عن طريق الصهاينة هذا الضعف وضربه في عام ١٩٦٧ ” .

ويضيف الكاتب سمير أمين: إن الطريق الى هزيمة ١٩٦٧ لم تكن مجرد مؤامرة على مشروع عبد الناصر الذي صوره نظامه في هده المرحلة وإنما هو نتيجة لإخفاقات وضعف وهشاشة هذا النظام وغطرسته احيانا كثيرة دون قدرة حقيقة للدولة .. فمصر في خيال جمال عبد الناصر قوة عظمى ولكنها في الواقع غير ذلك لم تمتلك مقومات وقدرات القوة العظمى الحقيقية التي كنا نستطيع بها أن نضرب اسرائيل ومن وراء اسرائيل ، او أن نكون أقوى قوة ضاربة في الشرق الأوسط.

وتستمر تحربة دولة يوليو وانقلابها علىا لحكم في مصر، لما بعد عصر حسني مبارك، بنفس عناصر التجربة الفاشلة في الانهيار والنكسة، حتى خرج الناس في ٢٥ يناير ٢٠١١ ويستمروا في اعتصام حتى ١١ فبراير وإسقاط حسني مبارك ولكن هذا المشهد لم يخرج مبارك على متن باخرة للخارج مثل الملك فاروق وإنما ظل في مصر وخرج من القصر الى السجن ثم الى البيت في مشهد درامي اقرب للمسلسل منه للحقيقة .. وحاصرت الدبابات مرة أخرى مصر وليس القصر.

الاقتصاد في عهد العسكر

كان الوضع الاقتصادي المصري قبل انقلاب يوليو في حالة يحسد عليها؛ فقد كان الجنيه المصري أعلى قيمة من الجنيه الذهب، وخرجت مصر من الحرب العالمية الثانية وهي دائنة لبريطانيا. وكان الاقتصاد المصري يخطو خطوات واسعة باتجاه التحديث والتمصير وظهور طبقة برجوازية مصرية وطنية لعبت دورا قويا ضد الانجليز، وفي ثورة 1919م، وأسست أول بنك مصري وأصدرت العملة الورقية.

كانت هناك ثورة مصرية تغلي تحت التراب مما استوجب إجهاضها بثورة مضادة، فكان انقلاب يوليو. فقد شهدت الفترة من نهاية الحرب العالمية الثانية إلى انقلاب يوليو حراكا مصريا قويا تمثل هدفه في الخلاص من الاستعمار والملك مع المناداة بالجمهورية والديمقراطية. فقد شهد عام 1946م مظاهرات واسعة للطلبة تنادي بالجلاء التام عن مصر شهدت قمعا واسعا للطلبة، وتلاه إضراب عام للطلاب على مستوى الجمهورية شاركت فيه كافة فئات المجتمع، وسقط في هذه الأحداث 23 قتيلا وما يزيد عن 400 مصاب.

توالت الإضرابات والمظاهرات التي تحركت فيها كافة فئات المجتمع، من الطلبة إلى العمال والفلاحين، وكان هذا الحراك – رغم ما فيه من تعدد الاتجاهات والأفكار والأيديولوجيات- يحمل خطرا شديدا علي الاستعمار الأنجلو-أمريكي؛ فكان لزاما عليه التخطيط لتحرك استباقي لضرب الثورة. وقد وضع السفير الأمريكي تقديرا للموقف في مصر حذر فيه من غضب الشباب والفلاحين، وانتشار الأسلحة الفردية في مصر، واحتمال قيام تحالف بين الاخوان والوفد، وقال أيضا إن «الجيش والشرطة يمكنهم السيطرة على القاهرة لكن الاضطرابات في الأقاليم سوف تكون خارج قدرتهم وإمكانياتهم، وهناك شكوك حول إذا ما كان صغار الضباط سينفذون الأوامر اذا تضمنت استخدام العنف».

أما الإنجليز فقد كانوا على وعي بانتهاء دورهم في المنطقة، وكانوا على استعداد للتسليم والجلاء عن مصر؛ ولكن في ظل شرطين مهمين: الأول ألا تنتقل مصر إلى الهيمنة الأمريكية أو السوفييتية، والثاني هو فصل مصر عن السودان، والذي كان عماد المشاريع الإنجليزية في أفريقيا.

ليتضح لنا أن الجيش المصري لم يستحدث ثورة يوليو 1952م ، بل كان الشعب المصري في حالة زخم ثوري لا تتوقف ضد الانجليز وضد الملك فاروق ، وبدأت الثورة بقرارات جريئة أصدرتها حكومة مدنية منتخبة انتخابا نزيها هي حكومة الوفد بقيادة زعيم شعبي منتخب هو مصطفي النحاس بتاريخ 8/10/1951م ، تبع هذه القرارات ثورة شعبية وحرب تحرير ضد الانجليز استشهد فيها أعداد كبيرة من أبناء الشعب المصري بدءا من شهر أكتوبر 1951م واستمرت خلال عام 1952م ، ولم يشارك فيها الجيش علي نحو ما أوضحنا والذي كان يقوم بدوره بجانب الملك والانجليز لدرجة أن الضباط الأحرار – علي نحو ما قيل في ذات الكتاب – وزعوا منشورات بعد حريق القاهرة ليمنعوا الجيش من توجيه سلاحه إلي الشعب .

وبعد أن آتت الثورة الشعبية ثمارها ضد الانجليز والملك وتسببت لهم في خسائر كبيرة وأصابت الملك بالفزع من المصير المجهول ، هنا قفز العسكر علي الثورة الشعبية ليسرقوها ويسرقوا خيراتها حتي يمنعوا أن تؤول السلطة والمكاسب والمغانم لحزب الوفد الذي اتخذ القرارات أو الإخوان المسلمين الذين قاموا بأكبر الأدوار في مواجهة الانجليز ، ونجحت خطتهم وسرقوا ثورة يوليو 1952م واستأثروا بها لأنفسهم وحرموا كافة القوي المدنية من المشاركة في الحكم، إلا أن الظروف أرادت أن تتكر هذه التجربة مرة أخى في سرقة ثورة يناير من الشعب، والارتداد عليها كما ارتدوا على ثورة الشعب المصري في 1952.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

في الذكرى التاسعة للثورة.. مواقع التواصل تغرد «ثورة الغضب 25»

في الخامس والعشرين من يناير كل عام، يحيي المصريون ذكرى ثورتهم الخالدة التي أطاحت برأس ...