علو الهمة

علو الهمة خلق رفيع ، تهفو إليه الفطر القويمة ، وتعشقه النفوس الكريمة ، وأهل الهمة العالية هم صفوة الأمة ، وأهل المجد والكرم ، فالحياة عندهم ايمان وجهاد وبر وفلاح ، وصبر وثبات ، فهم فرسان بالنهار رهبان بالليل تغلبوا على شهواتهم فسمت أرواحهم وارتفعت درجاتهم . 

ولقد حث القرآن الكريم والسنة النبوية على علو الهمة ، وبيان مكانتها في الإسلام ، ولعلو الهمة أسباب كثيرة أولها الإخلاص لله تعالى ، ثم طلب العلم ، واليقظة والتنافس في الصالحات ، والتطلع إلى الكمال والترفع عن النقائص ، والحرص على الوقت وتوظيفه ، والاهتمام بواقع الأمة والسعي لإصلاحه ، ومصاحبة أصحاب الهمم ومطالعة سيرهم ، وهذه الأسباب لعلو الهمة يمكن تحصيلها  في رمضان لأنه طريق إلى علو الهمة ، وتفاصيل ذلك في السطور الآتية : 


أولا : مفهوم علو الهمة :

1 .  معنى علو الهمة لغة :

 العلوُّ لغة : مصدر من علا الشيءُ ، ويقال: عَلا فلانٌ الجبل إذا رَقِيَه ، وعَلا فلان فلانًا إذا قَهَره .

والهمَّة لغةً كماقال ابن القيم في مدارج السالكين الهمة فعلة من الهمِّ ، وهو مبدأ الإرادة، ولكن خصوها بنهاية الإرادة، فالهمُّ مبدؤها، والهمَّة نهايتها) .

2 . علو الهمة في الاصطلاح هو: 

توجه القلب وقصده بجميع قواه الروحانية إلى جانب الحق ؛ لحصول الكمال له أو لغيره ، واستصغار ما دون النهاية من معالي الأمور ، وطلب المراتب السامية .

الهمة عمل قلبي، والقلب لا سلطان عليه لغير صاحبه، وكما أن الطائر يطير بجناحيه، كذلك يطير المرء بهمته، فتحلق به إلى أعلى الآفاق، طليقةًً من القيود التي تكبل الأجساد..

وقال الراغب الأصفهاني:  والكبير الهمة على الإطلاق : هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه ، فلا يصير عبد رعاية بطنه وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة .



ثانيا : مكانة علو الهمة :


1 . الهمة أبلغ من العمل :

وهمَّة المؤمن أبلغ من عمله قال صلى الله عليه وسلم : ( من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة  ) رواه البخاري
وقال صلى الله عليه وسلم: ( من سأل الله الشهادة بصدقٍ، بلَّغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه ) رواه مسلم وغيره
وقال صلى الله عليه وسلم فيمن تجهز للجهاد ، ثم أدركه الموت: ” قد أوقع الله أجره على قدر نيته ” رواه الإمام أحمد وغيره


2 . صاحب الهمة سباق :

وقد يتفوق المؤمن بهمته العالية ، قال صلى الله عليه وسلم في قوله: ( سبق درهم مائة ألف) ، قالوا : يا رسول الله ، كيف يسبق درهم مائة ألف ؟! ، قال: ( رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عَرْضها مائة ألف ) رواه أحمد وغيره .

وقال ابن القيم: ( فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلق جميل. ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خلق رذيل ) الفوائد .



ثالثا : علو الهمة في القرآن والسنة :


1 . علو الهمة في القرآن الكريم :

وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين  بالرجال الذين هم أصحاب الهمم العالية، فصدقوا ما عاهدوا الله عليه، ووفوا به، وأتموه، وأكملوه، فبذلوا مهجهم في مرضاته طاعته.

سجل القرآن ثناء الله تعالى على أصحاب الهمم العالية وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ) 35 الأحقاف .

وعبر سبحانه عن أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن الطهارة والعزيمة والثبات على الطاعة ، والقوة في دين الله ، فقال تعالى : ( فيه رجال يحبون أن يطهروا والله يحب المطهرين ) 108 التوبة .
وقال تعالى أيضا : ( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا ) 23 : الأحزاب .


2 . علو الهمة في السنة الشريفة :

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا ) .رواه البخاري  .

 عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ : ( إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ ، فَإِنَّهَا أَوْسَطُ الْجَنَّةِ ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ يُفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ) مرفوع

عن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول ، وخير الصدقة عن ظهر غنى ، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله )  رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري .



رابعا : أسباب علو الهمة  ووسائل تحصيلها في رمضان  :


  لعلو الهمة أسبابا إذا أخذ بها العبد علت همته وارتقت نفسه ، ونحن نعرض في إيجاز لبعض هذه الأسباب عسى أن يمن علينا اللطيف الخبير بعلو الهمة .


1 . من أسباب علو الهمة : الإخلاص :

  أول أسباب علو الهمة الإخلاص وهو : نسيان رؤية المخلوقين بدوام النظر إلي الخالق تبارك وتعالى بأن تكون المشاعر والشعائر والشرائع من الله تعالى وله وحده لا شريك له سبحانه ، والإيمان الجازم بأن الناقد بصير ، يقول الإمام بن القيم رحمه الله : لقاح الهمة العالية: النية الصالحة .

رمضان يربي الإخلاص ، لأنَّ الصِّيام سرٌّ بين العبد وربِّه لا يطَّلع على ذلك غيره ، وحقيقته ترك حظوظ النَّفس وشهواتها الَّتي جبلت على الميل إليها لله عزَّ وجل ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : صلى الله عليه و سلم ، قال الله تعالى : ( كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ …. ) .

ولمَّا صار الصِّيام دليل إخلاص العبد ، وعنوانًا على نَبْذِ كلِّ رياء، ومعقد السِّرِّ بين العبد وربِّه في الدُّنيا ، فإنه يرفع همة المسلم ويعينه على فعل العالى من الإعمال واستسهال الصعب وبذل الغالى والثمين إبتغاء رضا الله والفوز بالجنة .


2 . الاجتهاد في طلب العلم والمثابرة في تحصيله :

وإن من أعظم ما يعين على علو الهمة طلب العلم ومطالعة ما أعده الله عزَّ وجلَّ لطالب العلم والعلماء ، فإنَّ الله سبحانه قد ذكر العلماء في كتابه فقال : ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ ) آل عمران : 18.

 والخشية لله التي هي سبب الفوز لديه وقد جعلها الله من سمات العلماء  فقال: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) فاطر : 28.
وأخبر عباده بأنه يرفع علماء أمته درجات فقال : ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) المجادلة :11
 
ورمضان شهر العلم والذكر ، والمساجد بيوت الله التي أمر سبحانه أن ترفع ويذكر فيها اسمه ، قال تعالى: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَال ِ} النور: 36 ،
وفي رمضان كان جبريل يلقى رسول الله ويتدارس معه القرآن ، كما روى البخاري عن بن عباس رضي الله عنهما، قال : “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل ، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن .

  وترتفع همة المؤمن بمشيه إلى المساجد ومكثه فيها فترفع درجاته وتحط خطاياه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ مَشَى إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ كَانَتْ خَطْوَتَاهُ إِحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً)) رواه مسلم .

وحلق العلم والذكر في رمضان بها تتنزل سكينة الله ورحمته على عباده  وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده).  رواه مسلم .


 3 . اليقظة والتنافس في الصالحات :

ينبغي لمن أراد الارتقاء بهمته أن يخلع ثوب النوم والرقاد فيفارق بيقظته جموع الغافلين ، ويعرض عن أفعال الجاهلين ، فلا يقر له قرار حتى يسكن في جنة عرضها السموات والأرض ، فقال الله تعالى : ( وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) آل عمران آية 133 .
قال الحسن: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره. ، وقال وُهيب بن الورد: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل)

ورمضان طريق اليقظة والتنافس في الصالحات ، وبداية الطريق إلى اليقظة هي التخفف من الأوزار والتغافر والتسامح بين المؤمنين ، فمن صام رمضان إيمانا واحتسابا غُفر له ما تقدم من ذنبه ، وكذلك من قام رمضان ، ومن قام ليلة القدر يغفر الله له ما تقدم من ذنبه .
 والتوبة سبب للفلاح والتدافع لعمل الصالحات والتنافس عليها ، قال الله تعالى : {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) النـُّـور ، من الآية: 31 .


4 . التطلع إلى الكمال والترفع عن النقص:

صاحب الهمة العالية يتطلع دائما إلى الكمالات ، ويترفع عن الدنايا ، وفي الحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  ( إن الله يحب معالي الأمور ، ويكره سفسافها ). أي يبغض الرديء الحقير من كل شيء وعمل.

ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : صلى الله عليه و سلم ، قال الله تعالى : ( …. والصِّيامُ جُنَّةٌ فإِذا كان يومُ صومِ أحدِكم فَلاَ يرفُثْ ولا يصْخَبْ فإِنْ سابَّهُ أَحدٌ أو قَاتله فَليقُلْ إِني صائِمٌ ،  ) .

والصوم في رمضان وفي سائر الشهور وسيلة الى الكمال والبعد عن النقائص ، فبالصوم ترتقي المشاعر تهذب الجوارح تعلوا الأخلاق ويتحقق الإخلاص والصدق مع الله تعالى ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله : صلى الله عليه و سلم ، قال الله تعالى : ( كُلُّ عَمَل ابن آدم لَهُ إلاَّ الصومَ فإِنَّه لي وأنا أجزي بهِ …. ) .
ورمضان شهر الصوم ومن آداب الصائم غض البصر ومن فوائده ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال : ( غض البصر يورث ثلاث فوائد : حلاوة الإيمان ولذته ، نور القلب والفراسة ، قوة القلب وثباته وشجاعته ) .

 الصيام من أعظم أسباب التقوى : قال جل وعلا” ( يأيها الذين امنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ) البقرة: الآية 183.
ومن وجوه التَّقوى أنَّ الصَّائم يترك ما حرَّم الله عليه من الأكل والشُّرب وسائر المفطرات الَّتي تميل النَّفس إليها، متقرِّبًا بذلك إلى الله تعالى، راجيًا ثوابه.رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) .


5 . الحرص على الوقت وتوظيفه :

 فأصحاب الهمم العالية يحرصون على كل ثانية  فالوقت هو الحياة ، وإنما سعد من سعد ، وارتقى من ارتقى في مراتب المجد من استثمر الأوقات، وكان حريصا على الدقائق واللحظات .
 
والطاعة في شهر رمضان تعلمنا الحرص على الوقت وتوظيفه بحيث يكونُ الوقت متوزعًا بين الصيامِ العبادة ، فالمسلم يستيقظ قبلَ الفجر ليتهجد حيث قال الله تعالي: ” أمَن هو قانتٌ آناء الليل ساجداً وقائماً يحذرُ الآخرة ويرجو رحمة ربه ” سورة الزمر .
ثم السحور حيث قال رسول الله صلي اله عليه وسلم :”تسحروا فإن في السحور بركة ” متفق عليه .
 وفي وقت السحر  يكون الاستغفار حتي آذان الفجر حيث قال تعالي : ” وبالأسحار هم يستغفرون ” سورة الذاريات .
 ثم أداء سنة الفجر لقوله رسول الله صلي الله عليه وسلم  : ( ركعتا الفجر خيرٌ من الدنيا وما فيها ” . 

ولم يكن أبدا رمضان شهر كسل وتراخٍ يسهر الناس ليله وينامون نهاره ، فهو شهر العمل ، والعمل عبادة يسعى بها المسلم إلى إرضاء ربه ومولاه ، فلقد ربط الله سبحانه بين الصلاة  والسعي في الأرض فقال تعالى : ( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) 10 سورة الجمعة ، 
وربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الصوم والعمل , فقَالَ عن شهر شعبان انه ( . . .  شَهْرٌ تُرْفَعُ فِيهِ الأَعْمَالُ إِلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ. )رواه أحمد والنسائي عن أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ .

وتاريخ المسلمين الطويل شاهد على أن رمضان شهر الجهاد والانتصارات الكبرى للمسلمين ، فكانت فيه غزوة  بدر الكبرى 2هـ ، وفتح مكة 8هـ ،  موقعة البويب 13هـ في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب على ضفاف نهر الفرات في بلاد فارس، وفتح الأندلس 29هـ على يد طارق بن زياد ، وفتح عمورية 223هـ في فلسطين بقيادة قطز انتصر على المغول ، وفتح أنطاكية 666هـ في بلاد الشام بقيادة الظاهر بيبرس ، ومعركة شقحب 702هـ بمدينة دمشق على المغول ، والعاشر من رمضان 1393هـ انتصر المصريون والعرب على اليهود على أرض سيناء ، كل هذه الانتصارات كانت في شهر رمضان المبارك .


6 . الاهتمام بواقع الأمة والسعي لإصلاحه : 

اصحاب الهمة العالية أشد انشغالا بقضايا أمتهم واحساسا بآلامها ، فيفرحون لفرحها ، ويحزنون لماأصابها .
قال الله تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) آل عمران : 104 .
ويدفعهم ذلك الشعور إلى العمل لرفعتها وعزها واستعادة سؤددها وكرامتها ، فيوقنون بمسؤليتهم نحو أمتهم ويسعون إلى إصلاح المجتمع الذي يعيشون فيها .

وفي رمضان توثق روابط الأمة ، وتقوى صلة الأرحــام وذوى القــربى ، حيث يتم التزاور بين الأسر والعائلات ، وفي رمضان يسعى المؤمنون لقضاء حوائج بعضهم بعضا ، ولزكاة الفطر اثرها الفعال في تحقيق التكافل ، وكذلك الكفارة على من يفطر يوما عمدا ، فضلا عن تبادل الهدايا المالية والعينية بين المسلمين بصفة .

قال الله تعالى : ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) الرعد :11 .
ورمضان شهر التغيير والإصلاح ، وتصاحب هذا الشهر الكريم انطلاقة قوية وصادقة لعودة الأمة إلى الله تبذل فيها الجهود الكبيرة لواجب الدعوة الى الله تعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتبصيرا وهداية للغير ممن غفل عن الحق والهدى, وهذا هو الطريق لوصول الأمة إلى العزة والقوة والجهاد والنصر فيه بإذن الله, قال تعالى: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ) محمد:7 ، 


7 . مصاحبة أصحاب الهمم ومطالعة سيرهم:

من أراد تحصيل الهمة العالية فليصاحب أصحاب الهمم العالية، فإنه يستفيد من أفعالهم قبل أقوالهم، ومن لم يوفق لصحبة هؤلاء فليكثر من مطالعة سيرهم، وقراءة أخبارهم فإن ذلك مما يبعث الهمة، ويدعو إلى علوها.

يقول ابن الجوزي: (فسبيل طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب، التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة؛ فإنه يرى من علوم القوم، وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة…
فعليكم بملاحظة سير السلف، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم)  (19) . إلى أن قال: (فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سير القوم، وقدر هممهم، وحفظهم وعباداتهم، وغرائب علومهم: ما لا يعرفه من لم يطالع، فصرت أستزري ما الناس فيه، وأحتقر همم الطلاب)  (20) .



خامسا : نماذج راقية لعلو الهمة :


أ – الرسول صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة والقدوة الرائعة،

1 . القمة في الشَّجَاعَة والإقدام :

رواه الشيخان عَنْ أَنَسٍ قَالَ : (كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَأَجْوَدَ النَّاسِ وَأَشْجَعَ النَّاسِ وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَانْطَلَقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوْتِ فَاسْتَقْبَلَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سَبَقَ النَّاسَ إِلَى الصَّوْتِ وَهُوَ يَقُولُ لَنْ تُرَاعُوا لَنْ تُرَاعُوا وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ مَا عَلَيْهِ سَرْجٌ فِي عُنُقِهِ سَيْفٌ فَقَالَ لَقَدْ وَجَدْتُهُ بَحْرًا أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ ) .
وروى البخاري و مسلم  أن علي بن أبي طالب يقول: ( كنا إذا حمي الوطيس واشتدت المعركة اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

– روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده، لولا أن رجالًا من المسلمين لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني، ولا أجد ما أحملهم عليه، ما تخلفت عن سرية تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل ثم أحيا، ثم أقتل )  . 

2 . القمة في العبادة :

– وكان صلى الله عليه وسلم القدوة في الهمة العالية في العبادة. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ( أفلا أكون عبدًا شكورًا )  رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري.


ب – نماذج للصحابة في علو الهمة :

الصحابة رضي الله عنهم قد ضربوا لنا أروع الأمثلة في الهمة العالية ، وهذه بعص النماذج منها. 

1 . علو الهمة في طلب العلم 
عبد الله بن مسعود :
– عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعًا وسبعين سورة، والله لقد علم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله، وما أنا بخيرهم)   رواه البخاري  ، قال شقيق: فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت رادًّا يقول غير ذلك.
 
2 . علو الهمة في الجهاد:
 أنس بن النضر رضي الله عنه :
عن أنس رضي الله عنه قال: ((غاب عني أنس بن النضر عن قتال بدر، فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتال قاتلت المشركين؛ لئن الله أشهدني قتال المشركين ليرينَّ الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال : اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء، يعني أصحابه – وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء. يعني المشركين، ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ، الجنة وربِّ النضر، إني أجد ريحها من دون أحد. قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع  ( ، قال أنس: فوجدنا به بضعًا وثمانين ضربة بالسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نرى أو نظنُّ أنَّ هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) الأحزاب: 23   رواه البخاري  


ج – مع السلف في علو الهمة :

1 . قال الإمام أحمد: “ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) -أصله في البخاري- فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام دينارا”.

2 . وعن محمد بن سلمة أنه كان يجزئ ليله ثلاثة أجزاء: جزء للنوم، وجزء للدرس، وجزء للصلاة، وكان كثير السهر، فقيل له: “لم لا تنام؟”، فقال: “كيف أنام، وقد نامت عيون المسلمين تعويلاً علينا؟ وهم يقولون: إذا وقع لنا أمر رفعناه إليه، فيكشفه لنا. فإذا نمنا ففيه تضييع للدين”.

3 . وروي عن الإمام ابن خفيف أنه كان به وجع الخاصرة، فكان إذا أصابه، أقعده عن الحركة، فكان إذا نودي بالصلاة يُحمل على ظهر رجل، فقيل له: “لو خفّفت على نفسك”، فقال: “إذا سمعتم حي على الصلاة، ولم تروني في الصف، فاطلبوني في المقبرة”.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...