دراسة استشرافية لمستقبل الصراع في ليبيا بعد هزيمة حفتر في “غريان”

لم يجد الانقلابي خليفة حفتر ومليشياته، بعد الهزيمة الكبيرة لقواته في الغريان الليبية، الأسبوع المنقضي،

طريقا لاستعادة مكانته ودور  له ولحلفائه في الامارات ومصر وفرنسا، أو حتى لمواجهة الغضب الداخلي في معسكره بالشرق وما يضمه من قبائل وعشائر وقوى اجتماعية ليبية ، سوى اللجوء للقصف الجوي على مدينة طرابلس بلا تمييز بين الأهداف المدنية والعسكرية، منذ ليل الأحد الماضي..

بجانب حملة أكاذيب كبرى للبحث عن تبريرات واهية لهزيمته الكبرى في معركة طرابلس التي وعد قبل ثلاثة شهور بانهائها في 48 ساعة…

حجم الهزيمة العسكرية

وكان أشرف الشح المستشار السابق للمجلس الأعلى في الدولة بليبيا أكد أن الهزيمة التي مُني بها اللواء المتقاعد خليفة حفتر بمدينة غريان (غربي العاصمة طرابلس)، هي بداية النهاية له، ولما أسماه تحالف “قوى الشر العربي”، الذي قال إنه يتمثل في الإمارات والسعودية ومصر.وقال الشح في تصريحات اعلامية، إن الهزيمة التي مُني بها حفتر في غريان تخفي في طياتها هزيمة سياسية كبيرة له ولحلفائه العرب مناصري الثورات المضادة ولفرنسا أيضا.

الفضيحة الإماراتية

 وفي ما يتعلق بصعوبة موقف الإمارات تحديدا، بعد طرد حفتر وقواته من مدينة غريان؛ أوضح الشح أن الإمارات وجدت نفسها في موقف لا تحسد عليه، مؤكدا أن الأمر لا يتعلق فقط بمساندتها حفتر بالمال والأسلحة؛ فهو أمر معروف منذ فترة طويلة، لكن المشكلة تكمن في طبيعة هذه الأسلحة. حيث أشار الشح إلى أن قوات حكومة الوفاق الوطني التي سيطرت على غريان بعد طرد قوات حفتر وجدت صناديق ضخمة من الأسلحة والصواريخ الأميركية، كما عثرت فيها على عقود الشراء التي أبرمت بين الولايات المتحدة والإمارات، وتضمنت تعهدات إماراتية بعدم نقل هذه الأسلحة لأي ساحة حرب أخرى. وتأكيدا على خطورة المسألة، قال الشح إن مسؤولين عسكريين أميركيين كبارا تعرضوا خلال اجتماع عسكري بإيطاليا لأسئلة من قبل الصحفيين بشأن إذا كان لديهم علم بأن الإمارات نقلت هذه الأسلحة لدعم حفتر في ليبيا، مشيرا إلى أن الأميركيين نفوا علمهم بهذا الأمر. وتوقع الشح ألا يفوّت الكونغرس هذه القضية، وأن يستجوب الحكومة بشأن إذا كانت تعلم أن أسلحة أميركية تستغل لدعم جماعات إرهابية، خاصة أن حفتر يواجه تهما بالإرهاب أمام المحاكم الأميركية. وطالب رئيس المجلس الرئاسي في ليبيا فايز السراج بالتوقف عن التعامل بدبلوماسية مع النظامين “المجرمين” الحاكمين في الإمارات ومصر، التي قال إنه ثبت للجميع مشاركتهما في قتل الليبيين.

فيما أكدت تقارير إعلامية العثور على وثائق تثبت استعانة حفتر بضباط ومقاتلين أجانب، منهم مرتزقة تشاديون في حربه على طرابلس.

كما مثّل إعلان وزارة الخارجية الأميركية بشأن اهتمامها الكبير بالتقارير التي أثبتت سوء استعمال الأسلحة الأميركية في ليبيا، ضربة أخرى لحفتر بعد أشهر من محاولات وسائل إعلام محلية ودولية تسويق اتصال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بحفتر في العشرين من إبريل الماضي، على أنه مباركة لهجومه على طرابلس.

حيث أكدت الخارجية الأميركية، في بيان مساء السبت الماضي، أنها تأخذ بجدية فائقة جميع التقارير عن سوء استعمال أسلحة أميركية الصنع، مشددة على أن “السلامة والاستقرار في ليبيا لا يتحققان إلا عبر الحل السياسي“.

وجاء البيان الأميركي بعد تقرير نشرته صحيفة “نيويورك تايمز”، أكدت فيه أن وزارة الدفاع الأميركية بدأت تحقيقاً في كيفية وصول “صواريخ جافلين” الأميركية المضادّة للدبابات، إلى يد مليشيات حفتر في ليبيا،

تزامناً مع تقارير إعلامية تفيد بأن الإمارات هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي تمتلك هذا النوع من الصواريخ.

أهمية غريان الاستراتيجية

وكانت قوات اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، تمكّنت مطلع شهر إبريل المنقضي، من الاستيلاء على مدينة غريان الاستراتيجية (75 كلم جنوب العاصمة) في وقت وجيز، عقب ترتيبات سرّية عقدها أتباع حفتر مع بعض شيوخ القبائل وجماعات سلفية مدخلية في المدينة. ومثّل ذلك الاختراق الذي قامت به كتائب عمليّة الكرامة إحراجاً لحكومة الوفاق الوطني التي باغتها هجوم “الفتح المبين”، بسبب حالة الارتخاء الأمني، وانشغالها بالتحضير للمؤتمر الوطني الجامع تحت إشراف الأمم المتحدة.

وتعتبر غريان أكبر مدينة في الجبل الغربي من حيث عدد السكان والمساحة، وهي معبر حيوي لسكان الجبل الذين يتخطى عددهم نصف مليون نسمة في طريقهم إلى العاصمة طرابلس. وكان حفتر يتخذ هذه المدينة القاعدة الأمامية الرئيسية لعمليته العسكرية ضد العاصمة، حيث تصل إليها القوات والأسلحة والذخيرة من الشرق.

تبريرات واهية للهزيمة

وفي أول خطابات قادة حفتر بعد الانتكاسة، برر المتحدث باسم القيادة العامة، أحمد المسماري، والمتحدث باسم إدارة التوجيه المعنوي، خالد المحجوب، خسارة غريان، بتعرض قوات حفتر لـ”خيانة” من داخل المدينة، من دون أن يحددا الجهة التي كانت توالي حفتر وخانته في ما بعد، ولا الأسباب التي دعت تلك الجهة إلى التخلي عنه.

ولم يبد هذا التبرير مقبولاً، ولقي سخطاً في أوساط داعمي حفتر في شرق ليبيا، عكسته عشرات التدوينات لنشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع قادة حفتر لتهدئة الوضع من خلال اتهام قوات حكومة “الوفاق” بتصفية عشرات الجرحى في مستشفى غريان.

لكنّ وزارة الصّحة في حكومة “الوفاق” أكدت، في بيان أصدرته ليل الأحد، أن الجثث التي سلّمها “الهلال الأحمر الليبي” لقادة قوات حفتر في بنغازي، هي جثث لجنود اللواء المتقاعد كانت مكدسة في ثلاجات الموتى، فيما يبدو أن قادة حفتر كانوا يحاولون عدم إبلاغ أهاليهم بمقتلهم خشية بروز أي معارضة في صفوفهم.

حرب بالوكالة

وفي تصعيد جديد للتعمية عن حقيقة ومجريات خسارة غريان، خاصة بالنسبة للرأي العام الليبي، اتهمت قيادة حفتر تركيا بالانخراط في معركة المدينة ضدها، وذهبت إلى حد التلميح أن أنقرة تورطت في قتل العشرات من المقاتلين بواسطة طائرات، وحملت تصريحات المسماري والمحجوب شعارات مثل “الاحتلال” و”الغزو التركي” و”انتهاك السيادة الوطنية”، ليصل حد التهديد إلى صدور أوامر بقصف أي سفينة تركية تدخل المياه الإقليمية الليبية، في محاولة لإيهام الرأي العام بأن جيش حفتر لا يزال قادراً على السيطرة وحسم المعركة.

وعلى الصعيد نفسه،  أمر حفتر قواته باستهداف السفن التركية في المياه الإقليمية الليبية وكافة “الأهداف الإستراتيجية التركية” على الأراضي الليبية من شركات ومقار ومشروعات ورحلات طيران من وإلى تركيا، بل أقدمت الأجهزة الأمنية الموالية لحفتر بشرق ليبيا على اعتقال ستة أتراك، يشتغلون عمال في ورش للسيارات تم الافراج عنهم لاحقا، بعد تهديدات أطلقها الرئيس التركي أردوغان بالرد العسكري على  مهاترات حفتر…

فيما  جرى منذ الخميس الماضي تعليق الرحلات الجوية من بنغازي إلى تركيا (الشرق الخاضع لحفتر)، بينما في الغرب الليبي تواصلت الرحلات الجوية بين تركيا ومدينتي مصراتة وطرابلس كالمعتاد.

وقد أعلن مطار بنينا في مدينة بنغازي عن إلغاء جميع رحلات الذهاب والعودة إلى تركيا، ودعا المسافرين الذين اشتروا تذاكر لإسطنبول إلى مراجعة مكاتب الحجز لاسترجاع 75%من قيمة الحجز. وطالبت إدارة المطار المسافرين الموجودين في إسطنبول الذين سافروا عبره بإلغاء الحجز عبر خط إسطنبول بنغازي واستبدال ذلك بالعودة عبر خط إسطنبول دمشق بنغازي.

كما قامت السلطات التابعة لحفتر أيضًا بإغلاق المطاعم والمحال التجارية التي تحمل أسماء تركية، مثلما حصل في مدينة إجدابيا شرق البلاد.

وطالبت مديرية أمن إجدابيا الواقعة قرب ميناء البريقة النفطي، مديري الأمن التابعين لها في جنوب شرق ليبيا ومنطقة الهلال النفطي باغلاق المحلات والورش والمطاعم التي يعمل فيها مواطنون أتراك وحصر الشركات التركية العاملة في هذه المناطق وإزالة اللافتات التي عليها شعارات تركية.

في نفس السياق، قالت قناة ليبيا الحدث التلفزيونية الموالية لحفتر، إن قيادة قوات حفتر “أوصت رئيس مجلس نواب طبرق بعقد جلسة للتباحث حول إمكانية تغير اسم مدينة بنغازي (شرق) بسبب الأصول التركية للاسم، وأيضا التشاور حول تعديل وتجريم أي مسميات أخرى موجودة في كامل التراب الوطني”، وفق قولها.

وبحسب مراقبين، فإن التهديدات التي أطلقها حفتر ضد المصالح التركية في ليبيا، بمثابة حرب بالوكالة يقودها حفتر عن الدول الداعمة لمشروع العسكري في ليبيا على رأسها المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر، وهو ما ساهم في تعقيد العملية السياسية وفاقم من فوضى السلاح والإرهاب وتجارة البشر…

حيث يستهدف المحور الاماراتي المصري السعودي غرس نظام عسكري في ليبيا لتقويض جهود شعوب المغرب العربي الساعية إلى الانتقال الديمقراطي والتخلص من أنظمة ديكتاتورية حكمت المنطقة لعقود عدة دون أن ترتقي بدولها، بل زادت في درجة تخلفها.

رسائل “غريان”

عسكرياً، تكتسب مدينة غريان أهميتها للطرفين من أنها تقع على مرتفع، في سفوح الجبل الغربي، وهي العاصمة الإدارية لتلك الجهة، وتصل بين المنطقة الغربية والجنوب الليبي، وتُشرف على معظم الطرق المؤدّية إلى طرابلس. وتحدّها شمالاً مدينة العزيزية، وشرقاً مدينتا ترهونة ومسلاتة، وجنوباً مدينتا بني وليد ومزدة، ومن الغرب مدينة يفرن. ومن ثمّ، هي مدينة محورية، كاشفة، مهمّة، مطلّة على ما حولها. ولذلك اختارها حفتر لتكون نقطة ارتكاز لقوّاته المتجهة نحو طرابلس، وجعلها مقرّ غرفة العمليّات الرئيسية الموجِّهة لانتشار كتائبه في الغرب   الليبي. ومن خلالها، تمّ تأمين إمداد قوّات “الفتح المبين” بالسلاح، والغذاء، والمال، والرجال. ويبدو أنّ احتدام المعارك على مطار طرابلس الدولي، وعدم القدرة على تأمينه بصفة نهائية، قد استنزف قوّات حفتر وأنهكها، ودفعها إلى استقدام أكبر عدد ممكن من المقاتلين من غريان إلى المطار. وهو ما أضعف جبهة “عمليّة الكرامة” في غريان، ويسّر على القوات الموالية لحكومة فايز السرّاج استعادة السيطرة عليها في هجمةٍ سريعة، خاطفة، لم تؤدّ إلى سقوط ولو مدنيّ واحد. بل أدّت إلى الاستيلاء على عتاد الجماعات الموالية لحفتر، وأسر آخرين منهم، فيما لاذ غيرهم بالفرار من محاور القتال. وأهمية استعادة غريان بالنسبة إلى حكومة الوفاق الوطني، في أنها استعادة زمام المبادرة العسكرية، وانتقال من الدفاع عن العاصمة إلى الهجوم على كتائب حفتر في مواقع تمركزها. كما أنّها تُمكّن من تحصين جانب من البوّابة الجنوبية للعاصمة، وتُمكّن من قطع طرق الإمداد الرافدة قوّات حفتر حول طرابلس.

اجتماعيا، بدا واضحاً أنّ قوّات حفتر، على الرغم من نجاحها، ولو نسبيّاً، في استقراب جماعات سلفية مدخلية، وعدد من فلول النظام القديم، وبعض شيوخ القبائل، لتسهيل الدخول إلى غريان، وتركيز غرفة عمليات عسكرية فيها، فإنّها لم تنجح في اكتساب حاضنة شعبية واسعة داخل المدينة، ولم تتمكّن من توفير الخدمات للناس وتأمين حاجاتهم الضرورية. وهو ما جعلها معزولةً إلى حدّ ما، وعزّز من ذلك أنّ جلّ العناصر المكوّنة للكتائب المسلّحة التي دخلت غريان هم من غير الليبيين، وينحدرون من قبائل الجنجويد ودول أفريقية مجاورة (السودان، تشاد..)، الأمر الذي جعلهم لا يجدون القبول المأمول والتعاون المطلوب من الأهالي. وسهّل ذلك على قوّة حماية غريان المحلّية، وقوّات “بركان الغضب” تحرير المدينة من قبضة كتائب حفتر. واللافت أنّ حكومة الوفاق الوطني لم تنخرط بعد سيطرتها، من جديد، على المدينة في عمليات انتقامية ضدّ المشتبه في ولائهم لـ “عملية الكرامة”، بل تركت أمرهم للمتابعة القضائية، فبعثت بذلك برسائل طمأنة للأهالي، وحافظت على انسجام النسيج المجتمعي للمدينة.

سياسياً، تحمل عمليّة استعادة حكومة الوفاق الوطني غريان عدّة رسائل، منها أنّ المنظومة الحاكمة في طرابلس تُخبر الرّأي العام في الداخل والخارج أنّها قادرةٌ على ردّ الهجوم العسكري المباغت لخليفة حفتر، وقادرة على تأمين العاصمة وعموم المنطقة الغربية، وأنّها ماضية في المحافظة على سيادة ليبيا ووحدتها الترابية. كما أنّ هذا التطوّر الميداني النوعي في مجال العمليات العسكرية يلقي تأثيراته على طاولة المفاوضات السياسية بين الفرقاء الليبيين،  ويعزّز عمليّاً من حظوظ حكومة الوفاق الوطني في فرض شروطها، وإقرار الخيار المدني/ الديمقراطي بديلاً عن الخيار الشمولي/ العسكري. وفي المقابل، يمثل تحرير غريان خسارة ميدانية كبرى لكتائب “معسكر الكرامة”، ويؤثّر على مدى جاهزيتها نفسيّاً ولوجيستيّاً للاستمرار في القتال على بقيّة المحاور، ويُؤذن بإمكان حصول انسحاباتٍ أخرى لقوّات حفتر في ترهونة، والأصابعة، وقصر بن غشير، وتراجعها نحو شرق ليبيا. ويساهم ذلك في تأمين المداخل المؤدّية إلى العاصمة طرابلس…

صفعة لمحور الشر

وبجانب الفضائح الدولية حول الاسلحة والامدادات العسكرية الاماراتية، يعد انتصار الوفاق في غريان، ضربة عسكرية وسياسية للدور المصري والاماراتي،  وذلك في ضوء ما توافر من معلومات مؤكدة، كشفتها مصادر رسمية مصرية، مؤخرا، عن التحركات المصرية الإماراتية، لدعم ميلشيات اللواء الليبي خليفة حفتر، في حربه لدخول العاصمة طرابلس عسكرياً، بدعم مالي وعسكري من القاهرة والرياض وأبوظبي. وقالت المصادر إن لقاءً ضمّ شخصيات رفيعة المستوى من مصر والإمارات، استقبلته القاهرة الأسبوع الماضي، بحضور شخصيات وزعماء قبائل من المناطق الخاضعة لسيطرة حكومة الوفاق في غرب ليبيا. وأوضحت المصادر أن الاجتماع كان يهدف لإحداث انشقاقات داخلية كبيرة داخل معسكر الغرب الليبي، الواقع تحت سيطرة حكومة الوفاق، لمساعدة المليشيات التابعة لحفتر على اقتحام العاصمة بسرعة، في ظل التفوق الذي حققته قوات حكومة الوفاق أخيراً.

وأضافت المصادر أن اللقاء حضره إلى جانب 6 من القيادات القبلية، شخصية عسكرية من مدينة مصراتة، التي تعد المعقل الأقوى في قوات غرب ليبيا، وبحضور شخصية أمنية مصرية بارزة، وممثل عن مستشار الأمن الوطني الإماراتي طحنون بن زايد، المسؤول الأول في الإمارات عن متابعة ملف ليبيا، بتكليف من شقيقه ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد. وبحسب المصادر، فإن اللقاء تناول إمكانية قيام الشخصيات الليبية، المدعوّة إلى اللقاء، بتحركات داعمة لحفتر من داخل معسكر الغرب، بشكل يربك قوات حكومة الوفاق، وذلك مقابل دور مستقبلي لهم في حال تغير الأوضاع لصالح حفتر، وسيطرته على العاصمة، إضافة إلى رصد مبالغ مالية ضخمة لتمويل تلك التحركات.

يأتي هذا في الوقت الذي تحدثت فيه مصادر من داخل معسكر حفتر عن شحنات من المساعدات العسكرية الجديدة التي بدأت تتدفق مجدداً من خلال الحدود مع مصر، كاشفة عن مطالبات قدمها حفتر للمسؤولين في مصر والإمارات لمساعدته بضربات جوية من سلاحي الجو المصري والإماراتي لدعم مليشياته، في ظل تراجع قدرات سلاح الجو التابع له. وكانت مصادر مصرية وليبية كشفت، في وقت سابق لـ”العربي الجديد”، عن إمداد الإمارات لحفتر بشحنات كبيرة من الأسلحة لمواجهة التفوق الأخير لقوات حكومة الوفاق، قائلة إن “تلك الآليات، مصحوبة بعسكريين مصريين وخبراء إماراتيين، تم الدفع بها إلى محاور القتال حول العاصمة طرابلس، في المعركة الدائرة هناك”. وقالت المصادر إن تلك الشحنات تضمنت صواريخ محمولة على الكتف مضادة للطائرات، وذخائر مدفعية، وأنظمة رؤية ليلية، لافتة إلى أن أهم ما تضمنته تلك الشحنات هي منظومة “بانتسير أس1” الصاروخية.

نتائج استراتيجية

كما أنه على ما يبدو قإن محاولات حفتر لم تنجح في إقناع شركائه الدوليين، ومن بينهم روسيا، وكذلك فرنسا التي غيرت وسائل إعلامها بسرعة توصيف مليشيات حفتر من “الجيش الوطني” إلى “قوات حفتر” في تقاريرها وتغطياتها منذ يوم السبت الماضي، في إشارة قد تعكس تغيراً قريباً في سياسات هذه الدول في التعاطي مع مشروع حفتر العسكري.

وأيضا انطلقت مساعيَ اجتماعية تقودها شخصيات ليبية فاعلة تجري من أجل إقناع مناطق بغرب ليبيا عقد حفتر صفقات معها، لتتخلى عنه.

وهو ما أكدته مصادر سياسية، بأن التفاوض وصل إلى مناطق  صرمان وصبراتة والأصابعة ومدن أخرى غير مباشرة مع ترهونة، من أجل تخليها عنه…بجانب ما تملكه حكومة “الوفاق” من خطط بديلة، كالاتفاق مع مجموعات مسلحة من داخل هذه المناطق، أسوة بما حدث في غريان، لقلب الأوضاع.

إلى ذلك، تجري الهيئة البرقاوية، المكونة من أعيان ونشطاء من النازحين من شرق ليبيا الرافضين لمشروع حفتر العسكري، اتصالات مع مكونات قبلية واجتماعية، من أجل تشكيل تيار سياسي، ليكون مشاركاً في أي عملية تفاوض سياسي جديدة، لكسر احتكار حفتر وحلفائه للمشهد في شرق ليبيا.

وكانت الهيئة قد رحبت الخميس الماضي بتحرير غريان، مطالبة زعماء قبائل الشرق بسحب أبنائهم من الحرب التي وصفتها بـ”الخاسرة”، ومؤكدة استعدادها للمبادرة والتدخل من أجل المساهمة في عودة هذه القبائل والمناطق إلى نسيجها الاجتماعي الليبي حتى يتحقق السلم الأهلي في كامل البلاد.​

محاولات السيسي انقاذ حفتر خلال قمة العشرين

وفي محاولة لمعالجة فقدان اطراف اقليمية ودولية الثقة بحفتر، سعى عبد الفتاح السيسي على هامش قمة العشرين باوساكا اليابانية،  للطلب من الرئيس الروسي بوتين دعماً أكبر للتحركات المصرية الإماراتية لإعادة تفوق مليشيات حفتر ميدانياً والضغط على الدول الأوروبية المعنية، لاستبعاد جماعة الإخوان والتيارات الإسلامية بشكل عام من الحلول السياسية المستقبلية في ليبيا…

بل طالب السيسي بضرورة رفع الحظر المفروض على مليشيات حفتر، باعتباره الجيش الوطني الليبي. الأمر الذي أكد بوتين أنه سيكون محل بحث في الفترة المقبلة، مشيراً في الوقت نفسه إلى صعوبة إعلان موسكو دعم أي طرف ليبي في الفترة الحالية بشكل علني. ويبدو أن هذا بسبب العلاقات الجيدة التي تربط موسكو بداعمين إقليميين كبار لحكومة الوفاق في طرابلس، على رأسهم تركيا والجزائر…

وعلى الرغم من أن استقبال بوتين لحفتر مطلع الشهر الماضي تم تفسيره على نحو واسع بأنه انحياز لطرف على حساب آخر، إلا أن المصادر الدبلوماسية أكدت أن “هذا اللقاء كان للسيسي دور كبير في عقده، ولكن الدعم الذي يمكن أن يحصل عليه حفتر في الخفاء من روسيا، من خلال مصر أو أطراف أخرى، لم يحن الوقت بعد للإفصاح عنه رسمياً، وأن موسكو تحاول الحفاظ على هذه الشعرة الدبلوماسية التي عبرت عنها في موقفها في إبريل الماضي عندما استخدمت حق النقض لمنع إصدار بيان من مجلس الأمن لحث مليشيات حفتر على وقف الزحف نحو طرابلس، وأصرت على أن يكون البيان موجهاً لجميع القوى المتحاربة في ليبيا“.

وبحسب المصادر، فإن السيسي يحاول انتزاع “موقف واضح من بوتين مستغلاً سعي موسكو الحثيث للاستفادة من حقول النفط الليبية مستقبلاً ومزاحمة باريس وروما في حربهما على الثروات الطبيعية هناك، آخذاً في الاعتبار سيطرة حفتر على حقول النفط حتى الآن”، وهي السيطرة التي ربما تكون محل شك مستقبلاً، بعد تلقيه هزيمة موجعة في غريان تهدد بشكل داهم نجاح حملته على طرابلس.

من روسيا إلى أمريكا..السيسي لا يتوقف

وسبق أن حاول السيسي إقناع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب باتخاذ خطوات أكثر فعالية في الملف الليبي، وتحديداً لدعم حفتر، والبناء على التواصل الأخير الذي جرى بينه وبين ترامب، بوساطة مصرية، قبيل بدء حملته على طرابلس، وذلك لأن السيسي بات يشعر بعدة مستجدات تدفعه إلى التوجّه نحو واشنطن لانتزاع مواقف صريحة تجاه الأزمة. المستجد الأول، هو فتور وخفوت الدعم الفرنسي لحفتر بعد بدء عملية طرابلس، إذ يحاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تهدئة حلفائه الأوروبيين، الذين يمتلكون معلومات عن دعم غير مباشر وتعاون استخباراتي بين القوات الفرنسية، المتواجدة في تشاد، ومليشيات حفتر منذ المواجهات مع تنظيم “داعش” في العامين الماضيين، فضلاً عن محاولة التصدي للهجوم الإعلامي المحلي، فارتفعت وتيرة الخطاب الرسمي الداعم لحكومة الوفاق والمطالبة بالعودة للحل السياسي ودعم مهمة المبعوث الأممي غسان سلامة.

والمستجد الثاني أن روما تأخرت في اتخاذ موقف أكثر مرونة حيال حفتر، الأمر الذي كان السيسي يراهن عليه من خلال اتصالاته، من ناحية، وعبر إثبات تقدّم حفتر ميدانياً من ناحية أخرى، إذ مر أكثر من شهر على استقبال حفتر في روما من قبل رئيس الوزراء جوسيبي كونتي، من دون أي حلحلة بين الطرفين. والنقطة الثالثة، بحسب المصادر المصرية، هي حاجة القاهرة والإمارات، أبرز دولتين داعمتين لحفتر، إلى سرعة حسم الأوضاع حول طرابلس، ارتباطاً بتغيرات وتطورات عديدة، منها الضغوط الأوروبية على الدول المساندة لحفتر، وعلى فرنسا، لوقف إطلاق نار بأسرع وقت والعودة للمسار التفاوضي، وكذلك بسبب تكبّد الحكومات الداعمة لحفتر عسكرياً، وعلى رأسها الإمارات ومصر، العديد من الخسائر المالية والانعكاسات السياسية السلبية بسبب استمرار المعارك وعدم تحقيق نصر سريع في طرابلس، كما كان يعِد حفتر في بداية عمليته.

أما الأمر الرابع فهو أن المعلومات الاستخباراتية المتداولة في الأوساط الأوروبية والأميركية لا تصب في مصلحة حفتر على عكس الرؤية المصرية. فالسيسي يحاول الترويج لثنائية “حفتر ضد مليشيات الإرهاب الإسلامي الداعمة لحكومة الوفاق”، ويحاول تصوير أن حفتر يتحكم في ثلثي مساحة ليبيا، لكن المعلومات التي يبرزها المفاوضون الأوروبيون والأميركيون، في إطار حديثهم مع الدبلوماسيين المصريين، تقلل من أهمية وقيمة وسيطرة حفتر الميدانية، وتفيد بوجود قوى أخرى على الأرض يمكن أن تصبح أكثر قوة وتحكماً إذا حظيت بدعم مناسب، فضلاً عن وجود شكوك غربية في مدى قدرة حفتر على قيادة دولة كليبيا، بكل ما تحمله من اختلافات سياسية وقبلية.

وأشارت المصادر إلى أن التحركات المصرية الساعية لدعم ترامب الصريح لحفتر، قبل قمة الدول السبع التي ستحضرها مصر ودول أفريقية أخرى كضيوف، ستتزاوج مع إعادة طرح مقترح السيسي استضافة ترامب في مؤتمر بالقاهرة سيركز في الأساس على الشأن الليبي، ويلتقي خلاله الرئيس الأميركي بالزعماء الأفارقة، تعبيراً عن مركزية العاصمة المصرية في القارة ومجتمعها، في العام الذي ترأس فيه مصر الاتحاد الأفريقي. وكانت مصادر دبلوماسية، مصرية وأخرى أوروبية خارج مصر، قالت، ، في مايو الماضي، إن السيسي في زيارته الأخيرة لواشنطن طرح الأمر بشكل مبدئي على ترامب، الذي لم يبد قبولاً أو رفضاً للعرض، ووعد بالتفكير فيه على ضوء التزاماته المختلفة.

ولكن على ما يبدو فإن هزيمة حفتر المدوية في غريان، ستحيل الرهان عليه مصريا وعربيا واقليميا إلى سراب…ولعل ذلك ما يدفع مصر والامارات والسعودية لدعم الهجمات الجوية  الموجعة لمناطق الوفاق، في الوقت الذي تضطلع فيه فرنسا بدعم الوصول لاقناع الوفاق للجلوس مجددا على طاولة المفاوضات السياسية….

العملية الجوية هل تنقذ حفتر؟

وطانت قوات حفتر ، قد أعلنت ، بعد خسارتها لأكثر مواقعها جنوب طرابلس وفي مدينة غريان، عن إطلاق عملية جوية تحت مسمى “عاقبة الغدر”، مشيرة إلى أن أولى عملياتها بدأت الأحد بقصف طائرة مسيرة داخل مطار امعيتيقة ، مطالبين أهالي العاصمة بـ”الابتعاد عن المواقع العسكرية“.

وشن طيران حفتر في محاولة للتغطية على الهزيمة على الأرض في غريان وعلى أطراف ترهونة، غارات على معسكر اليرموك داخل طرابلس ، الذي يتمركز فيه “لواء الصمود” التابع لقوات الحكومة.، وأوقعت قتلى وجرحى. وأعلنت إدارة الملاحة الجوية بمطار امعيتيقة عن تعليق رحالات المطار، بعد تعرض المطار لقصف جوي، قبل أن يتكرر القصف مرتين أخريين ليلاً.

وبحسب الخبير العسكري الليبي، محيي الدين زكري، فإن العملية الجوية “اعتراف ضمني بخسارة حفتر المعركة على الأرض، ومحاولة منه للقول إنه لا يزال قويا“.، و أن مسمى العملية بــ”عملية عاقبة الغدر” يشير إلى أنها موجهة في الأصل لمدينة غريان، التي اتهم أهلها بـ”الخيانة”، وذلك في محاولة لمحو آثار أدلة تكشف تورط حفتر في جرائم حرب كبيرة، وتؤكد انخراط دول أجنبية في دعمه…

وتابع: “قصف حفتر المتوالي لمعسكر الثامنة الذي يمثل إدارته الرئيسية يعني أنه يحاول إخفاء شيء ما بتدميره، وليست محاولة لمنع قوات الحكومة الاستفادة من الذخائر والأسلحة التي تركها خلفه”، مشيراً إلى أن العثور على أسلحة صنعتها الولايات المتحدة الأميركية لصالح الإمارات “ليس الدليل الوحيد“.

ورجح زكري أن تتوفر مواقع حفتر على أدلة عن تورط دول أخرى، ربما من بينها فرنسا، التي غيرت من سياساتها تجاه ليبيا، مشيرا إلى أن “تلك الدول يبدو أنها تشارك في تلك الهجمات، بدليل أن الغارات أغلبها ليلي”. ويتساءل الخبير العسكري: “هل الغارات الحالية يمكن أن تمكن حفتر من دخول طرابلس وغريان؟”، قبل أن يوضح: “من المؤكد أن وراءها أهدافا أخرى، أهمها إخفاء أدلة وآثار قد تثبت تورط داعميه بشكل أكيد“.

ووفق مراقبين، فإن حفتر يسعى من خلال غاراته إلى إخفاء كل الآثار التي تدل على ارتباط قواته بضباط أجانب ومقاتلين مرتزقة، كانوا يقاتلون في صفوفه.

العودة للحل السياسي مناورة من حفتر؟ أم تسليم بالهزيمة؟

وبجانب التصعيد الجوي المدعوم بالطيران الاماراتي والمصري، الدائر حاليا ردا على الهزيمة على أرض غريان، لم يتوانى حفتر في المناورة السياسية، ونظرا صعوبة العودة لغريان، دعا حفتر –من باب المناورة السياسية -مجددا بدعم اقليمي، نحو الحلول الياسية وذلك لانقاذه في مرحلة الانكسار حاليا..معلنا تقديم مبادرة لحل الأزمة سياسياً.

وهو ما أكده المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة، في تصريح لوكالة الأنباء الكويتية عقب اجتماعه بوزير الخارجية الإيطالية إنزو ميلانيزي في روما، مؤخرا، بقوله : ” البعثة تسلمت مبادرة من خليفة حفتر”.

وأعرب سلامة عن ترحيبه بمبادرة حفتر للحل السياسي، معتبراً أنها “بداية للحديث عن حل سياسي، بعد أن كان محرماً حتى وقت قريب“.

مستقبل الصراع في ليبيا

ومن خلال استقراء الواقع الاستراتيجي وموازين القوى بعد معركة “غريان”،  يأتي القصف الجوي للتغطية  على الفشل السياسي والعسكري الذي مني به حفتر وداعميه،  ووصول قوات الوفاق لتخوم مدينة ترهونة، ما يفتح الطريق أمام قوات “الوفاق” لمواصلة مطاردة حفتر بعيدا عن الغرب الليبي، وما يحمله ذلك من احتمالية انتهاء دور حفتر نهائيا، أو التخلص منه من قبل الفصائل والعشائر الليبية التي فقدت الثقة في مشروعه، والذي يبدو أنه قرار مؤجل اقليميا، في ضوء غياب البديل أمام مصر والامارات وفرنسا…

وهو ما يدركه السيسي  -صاحب الدعم العسكري الأكبر لحفتر على أرض الميدان – أن حملة طرابلس إذا فشلت فلا يمكن الرهان على حفتر مجدداً، وسيكون على القاهرة إعادة إنتاج بديل يحظى بقبول أولاً من الأطراف المعادية لحكومة الوفاق، ثم من الأطراف الأوروبية المراقبة وعلى رأسها باريس وروما، وهو أمر غير مقبول للسيسي حتى الآن.. يذكر أن حفتر قد أعلن في الـ4 من أبريل الماضي، وقبل أكثر من شهر، بداية حملة عسكرية تستهدف العاصمة طرابلس التي توجد فيها حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليًا، فضلاً عن سفارات وبعثات الدول الأجنبية وهيئة الأمم المتحدة، وقال حينها إن احتلال العاصمة لن يستغرق أكثر من 48 ساعة إلا أنه فشل في ذلك، حيث لم يتمكن إلى الآن…

ويزيد انتصار قوات “الوفاق” عمليّاً من عزلة الجنرال المتقاعد خليفة حفتر، في الداخل والخارج، ويعزّز من احتمال تحييده من العملية السياسية بشأن مستقبل ليبيا أو من احتمال إقدامه على تنازلاتٍ معتبَرة لصالح خصومه.

يمكن القول، ختاماً، إنّ تحرير غريان منعرجٌ فاصل في مسار الصراع على العاصمة الليبية، انتقلت معه حكومة الوفاق من طور الدفاع إلى طور الهجوم، وأربكت معه خطوط إمداد حفتر، وخطط استيلائه على المدينة، وهو بالإضافة إلى ذلك، هزيمة ظاهرة لقوى الثورة المضادّة ودعاة الحلّ العسكري في ليبيا. وستكون له تداعياتٌ سياسيةٌ واجتماعيةٌ جمّة. ومن المهمّ استثمار تراجعات العسكر لتجميع الناس حول مشروع الدولة المدنية، والانتقال بهم من حقبة الصراع المسلّح على السلطة إلى عصر التأسيس الديمقراطي للدولة، والتنافس النزيه على الحكم في ليبيا جديدة، ممكنة.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

السيسي يُطعم المصريين الخبز المصاب بـ”الإرجوت” السام لإرضاء الروس!

رصد تقرير استقصائي لموقع “أريج” كيف يُطعم السيسي المصريين الخبز المصاب بفطر قمح “الإرجوت” لإرضاء ...