
1- بيان منزلة القلم في المعرفة والحضارة:
أ- روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ ).
ب- جاءت أول رسالة من السماء تنوّه بالقلم وشأنه والقراءة وخطرها، قال تعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الإنسَان مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ) [العلق:1-4]. وهذا الخطاب موجّه إلى نبي أمي وأمّة أميّة لا تقرأ ولا تحسب، وكأنّه إشارة إلى تحوّل عظيم قادم في شأن هذه الأمة، وفيه إيماء إلى الدَّور الذي تؤديه آلة الكتابة، فالقلم من أوسع وأعمق أدوات الفكر أثرًا في حياة الإنسان، ولذلك جاءت الإشارة إليه في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة في حياة البشر، جاءت الإشارة إليه في أول كلمة من القرآن، كما جاء القسم الإلهي العظيم به في أول سورة القلم: ( ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ مَا أنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ ) [القلم:1، 2].
ج- فآلة القلم التي عظمت قيمتها بِقَسَم الله بها هي مَطِيّة الفِكر وأداة العلم وناقلة المعرفة، بها تستطيع الأمة نشر دعوتها وبثّ عقيدتها والإعلان عن منهجها في الحياة ونظرتها للخلق والخالق وتصوّرها للبداية والمصير، ففي القَسَم بالقلم ما يشير إلى الدور الحضاري الفكري الذي ينتظر هذه الأمة، فبأسِنّة الأقلام بلغت دعوة الإسلام بلاد الروم والفرس ومماليك اليمن والأحباش، بلغتها أقلام الإسلام قبل أن تبلغها سيوفها والرماح، وبأسِنّة الأقلام حُفِظ تراثُ الأمة وخُطَّت المصاحف ودواوين السنة ومدونات الفقه واللغة، وبها حُفِظ التاريخ والأدب، بأقلام المسلمين رصدت حركة عصور السلف بكل دقّة وبراعة، فإذا قرأت فيما خطّته الأقلام فكأنما تعيش مع القوم وتسمع حديثهم.وما دام قلم المسلم يكتب باسم ربه الذي خلقه فالكلمة التي يخطها كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكُلَها كل حين بإذن ربها، ما دام قلم المسلمين يكتب باسم ربه فلن تقوم على الإسلام شبهة, ولن يستبدّ بالمسلمين جهل ولا عماية، فالقلم المسلم سيف مشروع في ساحة الجهاد الفكري وميدان المواجهة المعرفية، ولن يُغلَب قلمٌ يكتب باسم الله وينشر كلمة الله. وإذا كان أهل الكفر يغمسون أقلامهم في محابر الشرك وظنون البشر وآرائهم فقلم الإسلام يرتوي من محبرة القرآن والسنة، ثم يكتب باسم الله.
د- ولكن يعظم الخطر على أمة الإسلام إذا أمسك بالأقلام منافقوها وجُهّالها ومخدوعوها والمفسدون، وباتوا يخبطون بأقلامهم في أديم أمّتهم، ويسخرون من أهل الفضل فيها، ثم يصبِّحون مجتمعاتهم بكل بَليّة على صفحات الصحف أو في شبكات المعلومات، وأولئك الكَتَبة الآثمون أصناف عدّة، أشَرّها وأضرّها وأشدّها فتكًا بالأمة المنافقون، وذلك أن الكتابة الصحفية تعتمد على جمال الأسلوب وجاذبية العرض، وتلك مهارة لها سلطان على القلوب، شهد لهم القرآن:( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ) [البقرة:204]، فأقوالهم تعجب السامعين بمسلسل أفكارهم وجمال عباراتها وروغان معانيها، وفي حقيقتها ومحصّلتها النهائية إفساد وزلزلة للثوابت وطعن في أهل الخير من علماء الأمة، يسخرون منهم في حياتهم وبعد مماتهم، مستغلّين في سبيل ذلك كل ظرف مؤلم وحدث حَرِج، فأقوالهم المُنَمّقَة وأفكارهم المصفّفة هي في حقيقتها إفساد في الأمة وبَلْبَلة وفتنة، ورغم ذلك يقولون عن أنفسهم: أهل رؤية ناقدة وروّاد إصلاح، وصدق الله عز وجل:( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ )[البقرة:11، 12]. فأبرز سمة من سماتهم أنهم أوتوا سلطان القول والصورة: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ )[التوبة:55]، فظواهرهم حسنة، ولكنّ حَشْوَهم شرٌ وفساد وحَنَق على المجتمع.
هـ- ومن أعظم مصائب الأمة اليوم ظهورهم على ساحات ثقافتها، فإذا ما وقع خطب أو ألمّت نازلة كانوا هم أول من يقول كَلِمَة، وأول من يُصْدِر رأيه وبيانه، فتعليقاتهم على الأحداث وتقسيمهم للمواقف هو أول ما يعلق في نفوس الناس ويثبت في أذهانهم، وقد نبّأنا القرآن أنّ فينا سمّاعين لهم: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ )[التوبة:47]. فلا زالوا يستخفّون بالحجاب ويلمزون المؤمنين والمؤمنات، مستغلّين كل حدث، حتى اضمحلّت الغيرة في نفوس كثير من الرجال، وتخرّقت جلابيب الحياء والعفّة عند بعض النساء، ولا زالت أقلامهم تنهش كل فضيلة وتلدغ كل ذي دين، ولا زال الناس يقرؤون ما يُكتب لهم.ويتبع أولئك المنافقين بعضُ جُهّال الكَتَبَةِ الذين خلب ألبابَهم بريقُ الشُّهرة، فصاروا يسايرون التيّار، ويهذون بما لا يعرفون. ولقد حرّم الله الكذبة العابرة التي تُقال في المجلس العارض، فكيف بكذبة الكاتب وفِرْية القلم التي تخلد على مرِّ العصور وتطير في الآفاق؟! وليُسألُنّ عمّا كتبوا.
وما من كاتب إلا سيفنى ويبقي الدهرَ ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفّك غير شيء يسرّك في القيامة أن تراه
و- فالصحفي الذي ينشر للخلائق خبرًا باطلاً أو تحليلاً مُغْرضًا أو تعليقًا زائفًا ويخدع الناس في القضايا الكبرى والمُغْرض الذي يرمي بالبهتان ويقذف بالتهم وتشيع قالتُه في الناس ذلك متوعّد بأفظع العذاب وأشنعه، فلقد روى البخاري عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي قَالَا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فَكَذَّابٌ يَكْذِبُ بِالْكَذْبَةِ تُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.. ومثل ذلك من يكذب على الناس في شبكات المعلومات أو أي وسيلة ينشر بها كذبته ويبث بها بذاءته، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون.
2-الأخبار الكاذبة والشائعات عبر التاريخ:
أ- والمستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعاتَ وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات،ومنذ فجر التاريخ البشري, وإلي أن يرث الله الارض ومن عليها, وأهل الباطل حريصون كل الحرص على نشر الإشاعات الكاذبة لإيذاء أهل الحق , ولإلحاقِ الضررَ بهم وللتهوين من شأنهم ولعل أكثر الناس تعرضا للإشاعات الكاذبة والأراجيف الباطلة, هم الأنبياء الكرام الذين أرسلهم الله- تعالى – لإخراج الناس من الظلمات إلى النور, ولدعوتهم إلى إخلاص العبادة لخالقهم الواحد القهار, ولحضهم على التحلي بمكارم الأخلاق..ولا شك أن الحقد والحسد والعناد والأنانية والأطماع وما يشبه ذلك من الرذائل, على رأس الأسباب التي تحمل أصحابها على نشر الإشاعات الكاذبة حول غيرهم.
ب- إن تاريخ الإشاعة قديم قِدَم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله عز وجل نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ، وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أنّ كلاً منهم قد أثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه، ثم يبثّونها ويتوارثونها أحيانًا، ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوّقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
1- فهذا نوح عليه السلام اتُّهِم بإشاعة من قومه بأنه: (فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ) [المؤمنون:24]، أي أن نوحاً جاء بما جاء به بقصد الرياسة عليكم فيتزعّم ويتأمّر، وقيل له: ( قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[الأعراف:60].
2- وهذا نبي الله هود عليه السلام – وينتهي نسب هود إلى نوح – عليهما السلام – يُشاع عنه الطَّيْش وخِفّة العقل والكذب، كما قال تعالى: (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [الأعراف:66]، بل وتزداد الشائعات عليه، فبعد أن اتهم بالسفه، يُتَّهم بالجنون:( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ )[هود:54]. أي أن حالتك التي نراها بأعيننا تجعلنا نقول لك: إن سبك لآلهتنا جعل بعضها – لا كلها – يتسلط عليك، ويوجه قدرته نحوك، فيصيبك بالجنون والهذيان والأمراض.ولم يقولوا: ” اعتراك آلهتنا بسوء ” بل قالوا: { بَعْضُ آلِهَتِنَا } تهديداً له وإشارة إلى أنه لو تصدت له جميع الآلهة لأهلكته إهلاكا.
3- والكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24]. نجد في تفسير هذه الآية تفسيرات من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافي كل التنافي مع أخلاق عباد الله المخلصين، الذين على رأسهم يوسف – عليه السلام. ألهّم: المقاربة من الفعل من غير دخول فيه، تقول هممت على فعل هذا الشئ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله.وقال: بعض العلماء: الهم نوعان: همّ ثابت معه عزم وعقد ورضا، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه، لأن خطور المناهي في الصدور، وتصورها في الأذهان، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان.روى الشيخان وأهل السنن عن أبي هريرة، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ” إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به، أو تعمل به “.وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد، بدليل المراودة وتغليق الأبواب، وقولها ” هيْت لك “.كما أجمعوا على أن يوسف – عليه السلام – لم يأت بفاحشة، وأن همّه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية: من غير جزم وعزم…وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف، ولا يخل بمقام النبوّة، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة، فتميل نفسه إليه، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه، فلا يؤاخذ بهذا الميل. { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أي: ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعي لهذا الميل…ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية، وخوفه لمقام ربه، وعون الله – تعالى – له على مقاومة شهوته… كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل، وصرفه عنه صرفا كليا، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة. والسؤال لماذا جاء الحق: بأنه همَّ بها لولا أن رأى برهان ربه؟ جاء الحق بتلك الحكاية ليدلنا على احكمة في امتناع يوسف عن موافقته على المراودة، فلم يكن ذلك عن وجود نقص طبعي جسدي فيه، ولولا برهان ربه لكان من الممكن أن يحدث بينهما كل شيء. وأراد الحق أن يخبرنا أن رجولته كاملة وفحولته غير ناقصة واستعداده الجنسي موجود تماماً، والذي منعه من الإتيان لها هو برهان ربه، إنه امتناع ديني. لا امتناع طبيعي. وبذلك يكون إشكال الفهم لمسألة الهم عند امرأة العزيز ويوسف قد وضح تماماً.
4- ثم هذا موسى عليه السلام يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملئه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر، ويُسمّم الأجواء من حوله بما يطلق عليه من شائعات فيقول: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ)[الشعراء:34، 35]، ويتّهمه بالإفساد في مشهد يضحك منه التاريخ:( وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ)[غافر:26].
5- فهذا المسيح عليه السلام تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصديقة: (يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا )[مريم:28].
6- وأما في عهد النبي وأصحابه ومن بعدهم فبدأت حينما أشيع على الصادق الأمين.. قال تعالى (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ * أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ) – الطور 29: 31 -.
7- وحين أُشِيع بأن مشركي مكة قد أسلموا رجع من رجع من المهاجرين هجرة الحبشة الأولى، وقبل دخولهم علموا أن الخبر كذب، فدخل منهم من دخل، وعاد من عاد، فأما الذين دخلوا فأصاب بعضهم من عذاب قريش ما كان هو فارًّا بدينه منه.
8- وفي معركة أحد عندما أشاع الكفارُ أن الرسول قُتِل فَتّ ذلك في عَضُد كثير من المسلمين، حتى إن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال قال ابن إسحاق: انتهى أنس بن النضر عم أنس بن مالك إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم فقال: فما يجلسكم ؟ قالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال: فما تصنعون بالحياة بعده ! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.ثم استقبل فقاتل حتى قتل، وبه سمي أنس بن مالك.
9- وفي حمراء الأسد بعد غزوة أحد مباشرة تأتي الشائعة: ( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ )[آل عمران:173]. قال الفخر الرازى ما ملخصه: نزلت هذه الآية في غزوة بدر الصغرى، وذلك أن أبا سفيان لما عزم على الانصراف إلى مكة في أعقاب غزوة أحد نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرة فنقتتل بها إن شئت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: قل له بيننا وبينك ذلك إن شاء الله.فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل بمر الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه، فبدا له أن يرجع. فلقي نعيم بن مسعود وقد قدم معتمرا فقال له: يا نعيم: إني وعدت محمداً أن نلتقي بموسم بدر. وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر، ونشرب فيه اللبن. وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاد بذلك جراءة علينا، فاذهب إلى المدينة فثبطهم ولك عندي عشرة من الإبل.فخرج نعيم إلى المدينة فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي. أتوكم في دياركم وقتلوا أكثركم فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد.فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك قال ” والذي نفسي بيده لأخرجن إليهم ولو وحدي “.ثم خرج صلى الله عليه وسلم في جمع من أصحابه، وذهبوا إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى – وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام – ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين.ووافقوا السوق وكانت معهم نفقات وتجارات فباعوا واشتروا أدما وزبيباً. وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين.أما أبو سفيان ومن معه فقد عادوا إلى مكة بعد أن وصلوا إلى مر الظهران. ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) [آل عمران:173].
10- ومن أعظم الشائعات التي هَزّت المجتمع الإسلامي بأكمله وجعلته يصطلي بنارها شهرًا كاملاً إضافة إلى أنها كلّفت أطهر النفوس البشرية على الإطلاق وأطهر البيوت رسول الله وبيوته آلامًا الله يعلم قدرها، إنها شائعة الإفك التي أطلقها رأس النفاق عبد الله بن أُبيّ بن سلول لعنه الله، فراجت وماجت في المجتمع المدني؛ فمنهم من تلقّاها بلسانه، ومنهم من سكت، ومنهم من ردّها وقال:( مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ) [النور:16].
11- قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) – النور 11: 19 – قال صاحب الظلال: إن ترك الألسنة تلقي التهم على المحصنات وهن العفيفات الحرائر ثيبات أو أبكاراً بدون دليل قاطع، يترك المجال فسيحاً لكل من شاء أن يقذف بريئة او بريئاً بتلك التهمة النكراء؛ ثم يمضي آمناً! فتصبح الجماعة وتمسي، وإذا أعراضها مجرحة، وسمعتها ملوثة؛ وإذا كل فرد فيها متهم أو مهدد بالاتهام؛ وإذا كل زوج فيها شاك في زوجه، وكل رجل فيها شاك في أصله، وكل بيت فيها مهدد بالانهيار. ذلك إلى أن اطراد سماع التهم يوحي إلى النفوس المتحرجة من ارتكاب الفعلة أن جو الجماعة كله ملوث؛ وأن الفعلة فيها شائعة؛ فيقدم عليها من كان يتحرج منها، وتهون في حسه بشاعتها بكثرة تردادها، وشعوره بأن كثيرين غيره يأتونها!ومن ثم لا تجدي عقوبة الزنا في منع وقوعه؛ والجماعة تمسي وتصبح وهي تتنفس في ذلك الجو الملوث الموحي بارتكاب الفحشاء.لهذا، وصيانة للأعراض من التهجم، وحماية لأصحابها من الآلام الفظيعة التي تصب عليهم.. شدَّد القرآن الكريم في عقوبة القذف، فجعلها قريبة من عقوبة الزنا.. ثمانين جلدة.. مع إسقاط الشهادة، والوصم بالفسق.. والعقوبة الأولى جسدية. والثانية أدبية في وسط الجماعة؛ ويكفي أن يهدر قول القاذف فلا يؤخذ له بشهادة، وأن يسقط اعتباره بين الناس ويمشي بينهم متهماً لا يوثق له بكلام! والثالثة دينية فهو منحرف عن الإيمان خارج عن طريقه المستقيم.. ذلك إلا أن يأتي القاذف بأربعة يشهدون برؤية الفعل، أو بثلاثة معه إن كان قد رآه. فيكون قوله إذن صحيحاً. ويوقع حد الزنا على صاحب الفعلة.
12- وبعد عهد النبي كانت الشائعة السبب الأول والرئيس في قتل الخليفة الراشد المهدي عثمان بن عفان. تجمّع أخلاط من المنافقين ودَهْمَاء الناس وجَهَلَتِهم، وأصبحت لهم شوكة، وقُتِل على إثْرها خليفة المسلمين بعد حصاره في بيته وقطع الماء عنه، بل كان من آثار هذه الفتنة أن قامت حروب بين الصحابة الكرام كمعركة الجمل وصِفِّين، فمن كان يتصوّر أن الإشاعة تفعل كل هذا؟! بل خرجت على إثرها الخوارج، وتزندقت الشيعة، وترتب عليها ظهور المرجئة والقدرية الأولى، ثم انتشرت البدع بكثرة، وظهرت فتن وبدع وقلاقل كثيرة، ما تزال الأمة الإسلامية تعاني من آثارها إلى اليوم.
3- الشائعات والحرب النفسية:
ولقد تطوّرت الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصرًا ذهبيًا لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لكثرة وسائل الاتصالات التي جعلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية والقنوات الفضائية والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها وثوابتها وقيمها.وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة وكأنها حقائق مسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بالإنترنت عبر مواقعه المشبوهة فيلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.ومن أشهر الأمثلة التاريخية:
– جوزيف جوبلز، مدير الدعاية السياسية للحكم النازي إبان حكم هتلر في الحرب العالمية الثانية.فقد قام جوبلز بعمل لا يقل خطورة عن غزو القوات الألمانية لأوروبا ألا وهو ترويج الفكر النازي للشعب الالماني وجعلهم يؤمنون به إيمانا مطلقا وكان هذا هو سر علو كعب ألمانيا في السنوات الأولى للحرب، إنه نجح في ترسيخ شعار ( ألمانيا فوق الجميع ) داخل وجدان كل ألماني من الطفل الصغير إلى الشيخ العجوز، إنه قد أعطاهم الإحساس بالقوة وعلو الجنس الآري على باقي أجناس الأرض بفضل خطبه الرنانة وكلامه الذي لعب بمشاعر الملايين، وهذا ما جعل اأضا أعداء اأمانيا يرتعدون خوفا من أي شئ يمس ألمانيا بصلة !
– الإسكندر الأكبر يعتبر من أقدم مَن استخدموا الحرب النفسية وقد استخدمها في حروبه كثيرا.حيث كان من أساليبه صنع عدد كبير جداً من الدروع والخوذات الضخمة وكان يتركها خلفه في أى مكان يعبره بجيشه، ليجدها عدوه ويعتقد أن جيش الإسكندر به عمالقة من الرجال فيرتعد العدو رعباً قبل أن يلتقي بجيش الإسكندر ويمتنع عن ملاحقته !
– جنكيز خان.. كان من عادة القائد المغولي جنكيز خان أن يبعث أمام جيشه بمن ينشر وسط البلد المستهدفة كلاما يدل على أعداد المغوليين الكبيرة وأفعالهم الوحشية من أجل بث الرعب في النفوس..! كما أنه كان يقوم بخداع جيش عدوه، فيجعلهم يعتقدون أن جيشه أكبر من الواقع عن طريق مجموعة مدربة من الفرسان الذين كانوا يتحركون من مكان لآخر بسرعة كبيرة.
– الولايات المتحدة الأمريكية.. كثيرا ما استخدمت الولايات المتحدة الحرب النفسية في تحدياتها الدولية، فقد استخدمتها في حروبها مع بنما وفيتنام، وتجلت هذه الحرب النفسية أثناء حرب الخليج … حيث استخدمت إحدى الوحدات الصغيرة للقوات الأمريكية مكبرات الصوت والتي أخذت تطلق أصوات الهليكوبتر والدبابات من خلا شرائط مسجلة من أجل إيحاء الجيش العراقي بأن إمكانيات الوحدة أكبر بكثير من حقيقة الأمر !
– كما قامت قوات التحالف في هذه الحرب بإسقاط 29 مليون منشور على جميع وحدات الجيش العراقي، يقوم بعضها بتهديد الجيش العراقي وتتوعده في حالة عدم الاستسلام وبعضها الآخر يذكر الجنود العراقيين بالأهل الذين ينتظرون عودتهم !
– نابليون بونابرت كان يقول ( إنني أرهب صرير القلم أكثر من دوي المدافع ) وذلك في معرض تعبيره عن قوة الكلمة وخشيته منها وإيمانه القوي بما للكلمة من مفعول.
4- منهج المسلم في التعامل مع الأخبار والشائعات:
لما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته. وقد عالج الإسلام قضية الإشاعة عن طريق عدة طرق. وقبل البدء في تفصيل هذه الطرق لابد من التنبيه على أمر مهم جدا، ألا وهو: أن الله سبحانه وتعالى جعل العلاج لقضية الإشاعة من خلال الناقلين لها من المؤمنين أنفسهم دون التركيز على مصدر الإشاعة وذلك لأن مصدر الإشاعة قد يكون من أهل النفاق أو من الكفار أو من الأعداء، وهؤلاء لا حيلة معهم، فإن من دأبهم نشر الإشاعة لإضعاف المسلمين. نعم قد ورد تحذير للمسلمين أن يكذبوا الكذبة ثم يبثوها.. لكن هذه الإشاعات ما كان لها أن تنتشر لو قابلها المؤمنون بالمنهج الرباني لتلقي الأخبار وتلقي الإشاعات.
أولا: التثبت:
يقول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) – الحجرات 6 – وفي قراءة حمزة والكسائى ( فتثبتوا ) ومعناهما واحد، إذ هما بمعنى التأني وعدم التعجل في الأمور حتى تظهر الحقيقة فيما أخبر به الفاسق. وقد ذكر المفسرون في سبب نزول هذه الآيات روايات منها ما روي عن ابن عباس قال: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قد بعث الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق من خزاعة ليأخذ منهم الصدقات، وإنهم لما أتاهم الخبر فرحوا وخرجوا يتلقون رسولَ رسولِ الله – صلى الله عليه وسلم -. فرجع الوليد – ظنا منه أنهم يريدون قتله – فقال يا رسول الله: إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من ذلك غضبا شديدا، فبينا هو يحدث نفسه أن يغزوهم إذا أتاه الوفد فقالوا: يا رسول الله، إنا بلغنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإن خشينا أن ما رده كتاب جاء منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله. فأنزل الله – تعالى – الآية.فأمر الله بالتبين والتثبت، لأنه لا يحل للمسلم أن يبث خبرا دون أن يكون متأكدا من صحته. فلا بد أن يطلب المسلم الدليل البرهاني على أية شائعة يسمعها، قال الله تعالى: لَّوْلاَ جَآءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فَأُوْلَائِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13].
ثانيا: إرجاع الأمر لأهل الاختصاص:
القرآن الكريم يرسم لنا ما ينبغي تجاه الشائعات بوجه خاص وتجاه وسائل الإعلام بوجه عام. – يحكي القرآن عن مسلك من المسالك الذميمة التي عرفت عن المنافقين وضعفاء النفوس بقول الحق تبارك وتعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ } – النساء 83. وإذا اطَّلَعَت هذه الطائفة المنافقة على أمر يتعلق بقوة المسلمين أو ضعفهم أفشوه ونشروه، جاهرين به للتغرير بالمسلمين أو إلقاء الرعب في قلوبهم، أو توصيل أبنائهم إلى أعدائهم، ولو أن هؤلاء المنافقين المذيعين ردوا أمر الأمن والخوف إلى الرسول وإلى أولي الأمر من القواد وكبار الصحابة، وطلبوا معرفة الحقيقة من جهتهم لعلم أولئك الذين يحاولون استخراج الوقائع وإذاعتها الحق من جانب الرسول والقادة، ولولا فضل اللَّه عليكم بتثبيت قلوبكم على الإيمان، ومنع الفتنة، ورحمته بتمكينكم من أسباب الظفر والانتصار، لاتبع أكثركم إغواء الشيطان، ولم ينج من إغوائه إلا القليل.
قال الشيخ السعدي: ( هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة؛ ما يتعلق بسرور المؤمنين أو الخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم؛ أهل الرأي والعلم والعقل الذين يعرفون المصالح وضدها. فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا لهم وتحرزا من أعدائهم: فعلوا ذلك.
ثالثا: التفكر في محتوى الإشاعة:
إن كثيراً من المسلمين لا يفكر في مضمون الإشاعة الذي قد يحمل في طياته كذب تلك الإشاعة، بل تراه يستسلم لها وينقاد لها وكأنها من المسلمات. ولو أعطينا أنفسنا ولو للحظات في التفكر في تلك الإشاعات لما انتشرت إشاعة أبدا. لقد بين الله حال المؤمنين الذين تكلموا في حادثة الإفك فقال سبحانه: ( إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) – النور 15-. انظر يا أخي ( إذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ )أنه من البديهي أن الإنسان يتلقى الأخبار بسمعه لا بلسانه، ولكن أولئك النفر لم يستعملوا التفكير، لم يمروا ذلك الخبر على عقولهم ليتدبرا فيه، بل قال الله عنهم أنهم يتلقون حادثة الإفك بألسنتهم ثم يتكلمون بها بأفواههم من شدة سرعتهم في نقل الخبر وعدم التفكر فيه. فالواجب أن لا يتحدث المسلم بما سمعه ولا ينشره؛ فإن المسلمين لو لم يتكلموا بأية شائعة لماتت في مهدها. الثقافة الشفهية !
رابعا: تقديم حسن الظن:
قال الله تعالى: (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)[النور:12]. أى: هلا وقت أن سمعتم – أيها المؤمنون والمؤمنات – حديث الإفك هذا ظننتم ” بأنفسكم “. أي: بإخوانكم وبأخواتكم ظنا حسنا جميلا، وقلتم: هذا الحديث الذي أذاعه المنافقون كذب شنيع وبهتان واضح لا يصدقه عقل أو نقل.وفي التعبير عن إخوانهم وأخواتهم في الدين بأنفسهم، أسمى ألوان الدعوة إلى غرس روح المحبة والمودة والإخاء الصادق بين المؤمنين، حتى لكأن الذي يظن السوء بغيره إنما ظنه بنفسه.
خامساً: ترك اللغو في الكلام وكثرة المسائل بلا حاجة:
في سنن أبى داود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: { بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا } قال صاحب عون المعبود: ” الْمَطِيَّة بِفَتْحِ الْمِيم وَكَسْر الطَّاء الْمُهْمَلَة وَتَشْدِيد التَّحْتِيَّة بِمَعْنَى الْمَرْكُوب( زَعَمُوا ): فِي النِّهَايَة: الزَّعْم بِالضَّمِّ وَالْفَتْح قَرِيب مِنْ الظَّنّ أَيْ أَسْوَأ عَادَة لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَّخِذ لَفْظ زَعَمُوا مَرْكَبًا إِلَى مَقَاصِده فَيُخْبِر عَنْ أَمْر تَقْلِيدًا مِنْ غَيْر تَثَبُّت فَيُخْطِئ وَيُجَرَّب عَلَيْهِ الْكَذِب قَالَهُ الْمَنَاوِيُّ. وَفِي اللُّمَعَاتِ يَعْنِي أَنَّ مَا زَعَمُوا بِئْسَ مَطِيَّته يَجْعَل الْمُتَكَلِّم مُقَدِّمَة كَلَامه وَالْمَقْصُود أَنَّ الْإِخْبَار بِخَبَرٍ مَبْنَاهُ عَلَى الشَّكِّ وَالتَّخْمِين دُون الْجَزْم وَالْيَقِين قَبِيح بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُون لِخَبَرِهِ سَنَد وَثُبُوت وَيَكُون عَلَى ثِقَة مِنْ ذَلِكَ لَا مُجَرَّد حِكَايَة عَلَى ظَنٍّ وَحُسْبَان. وَفِي الْمَثَل زَعَمُوا مَطِيَّة الْكَذِب اِنْتَهي.قَالَ الْخَطَّابِيُّ فِي الْمَعَالِم: أَصْل هَذَا أَنَّ الرَّجُل إِذَا أَرَادَ الْمَسِير إِلَى بَلَد رَكْب مَطِيَّة وَسَارَ حَتَّى يَبْلُغ حَاجَته فَشَبَّهَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُقَدِّمهُ الرَّجُل أَمَام كَلَامه وَيَتَوَصَّل بِهِ إِلَى حَاجَته مِنْ قَوْلهمْ زَعَمُوا كَذَا وَكَذَا بِالْمَطِيَّةِ الَّتِي يُتَوَصَّل بِهَا إِلَى الْمَوْضِع الَّذِي يَقْصِدهُ ” اهـ . ودائماً أسانيد الناس: زعموا، وسمعنا، ويقولون، وقالوا، ونحو ذلك من الألفاظ التي هي صيغ تمريض.روى مسلم عن الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلَاثًا قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. قَالَ مَالِكٌ هُوَ الْإِكْثَارُ مِنْ الْكَلَامِ وَالْإِرْجَافُ نَحْوُ قَوْلِ النَّاسِ قَالَ فُلَانٌ وَفَعَلَ فُلَانٌ وَالْخَوْضُ فِيمَا لَا يَنْبَغِي.
إذا رأيت الرجل يحدث بكل قصة يسمعها، وكل مقالة تنمى إلى أذنه؛ فاعلم أنه سوف يكذب لا محالة، أي إذا لم يتثبت لأنه يسمع عادة الصدق والكذب، فإذا حدث بكل ما سمع لا محالة يكذب، والكذب الإخبار عن الشئ على غير ما هو عليه وإن لم يتعمد، لكن التعمد شرط الإثم. قال الإمام مالك [[لا يكون المرء إماماً إذا حدث بكل ما سمع ]] وقال الإمام مالك رحمه الله أيضاً: [[ليس كل ما يُعلم يقال ]]. فإنك تعلم معلومات ولكنك لا تستطيع أن تقولها.
سادسا: التفكر في عواقب الإشاعة:
يقول الله تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) – الحجرات 6 – فجعل الله من نقل الخبر دون تثبت من الفاسقين. فمجرد نقل الأخبار دون التأكد من صحتها موجب للفسق؛ وذلك لأن هذه الأخبار ليس كلها صحيحاً، بل فيها الصحيح والكاذب، فكان من نقل كل خبر وأشاعه؛ داخل في نقل الكذب، لذا جعله الله من الفاسقين. وقد صرح النبي بذلك فقد روى مسلم عن حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفي بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ. فالمؤمن لابد له من الحذر في أن يكون عند الله من الفاسقين.فالعاقل يعلم أنه ليس كل ما يسمع يقال. ولا كل ما يعلم يصلح للإشاعة والنشر. بل قد يكون الخبر صحيحا ولكن لا مصلحة في نشره أبدا، كما مر معنا في كلام الشيخ السعدي. وتكون خاتمة الإشاعة في الدنيا والآخرة (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ) والندم: غم يلحق الإِنسان لأمور وقعت منه، ثم صار يتمنى بعد فوات الأوان عدم وقوعها. هلا تفكرت في نتائج الإشاعة.
روى الترمذى عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنْ النَّارِ قَالَ لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ وَتَصُومُ رَمَضَانَ وَتَحُجُّ الْبَيْتَ ثُمَّ قَالَ أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ الصَّوْمُ جُنَّةٌ وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ قَالَ ثُمَّ تَلَا { تَتَجَافي جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ… حَتَّى بَلَغَ يَعْمَلُونَ } ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ ثُمَّ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمَلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ قُلْتُ بَلَى يَا نَبِيَّ اللَّهِ فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ قَالَ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا فَقُلْتُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ فَقَالَ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ
فإذا حوصرت الشائعات بهذه الأمور الستة، فإنه يمكن أن تتفادى آثارها السيئة المترتبة عليها بإذن الله عز وجل.
نشكو إلى الله أحزابا مضللة كم أوسعونا إشاعات وبهتانا
ما زال فينا ألوف من أبي لهب يؤذون أهل الهدى بغيا ونكرانا
ما زال لابن سلول شيعة كثروا أضحى النفاق لهم وسما وعنوانا
يا رب إنا ظلمنا، فانتصر، وأنر طريقنا، واحبنا بالحق سلطانا