وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ

الحمد لله رب العالمين .. خَلَقَ الإِنْسانَ، وخَصَّهُ بِالنُّطْقِ والبَيانِ، وأَحْصَى عَلَيهِ مَا يُخْفِيهِ ومَا يُبْدِيهِ، وتفضل عليه بالإكرام ،فقال تعالي } الرَّحْمَٰنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4){ الرحمن . 
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ …. نهي عن الكلام فيما ليس به علم فقال تعالي }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36){ الإسراء .
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ -صلى الله عليه وعلى آله وسلم … علم الأمة الإشتغال بما ينفعها واعتبر ذلك من أسباب القوة والخيرية ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم }المؤمن القوي خيرٌ وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن (لو) تفتح عمل الشيطان ){ ( رواه مسلم )
فاللهم صل علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا .. 
أما بعـــــــــــد ….فيا أيها المؤمنــــــــــــون
لقد خلق الله تعالي الإنسان وزوده بالنعم والإمكانات فقال تعالي } وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78){ [النحل]
وقال تعالي( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ(22)) الروم. وقال تعالي﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) ﴾البلد. 
فمن النعم العظيمة التي زودنا الله تعالي بها نعمة اللسان،هذا العضو صغيرٌ، ولكنه جليلٌ وخطيرٌ يقود إلى الروح والريحان وعظيم درجات الجنان .. عضوٌ صغير إذا لم يتق العبد فيه ربه هوى، وضل عن سبيل ربه وغوى، إنه اللسان الذي إذا نظرت إليه حارك صنعه، ووقفت أمام بديع صنع الله في خلقته، ولئن سمعت أصواته وأنصت إلى عباراته بهرتك تلك الأصوات وتلك العبارات.
يقف الإنسان حائراً أمام هذا اللسان الذي أخبر الله تبارك وتعالى في كتابه المبين أنه دليلٌ على وحدانية الله رب العالمين، آية آية .. خلق هذا اللسان وخلق صاحبه على صفاتٍ لا يعلمها إلا هو جل جلاله. هذا اللسان ما خلقه الله عبثاً. هذا اللسان أمره عظيمٌ عند الله الواحد الديان! إنه طريقٌ إلى روح وريحان، أو إلى دركات الجحيم والنيران. هذا اللسان الذي إذا استقام لله جل وعلا استقامت من بعده جوارح الإنسان. هذا اللسان الذي إذا حركه قلبٌ يخاف الله ويخشاه لم تسمع منه إلا طيباً. هذا اللسان الذي إذا أُطلق له العنان هوى صاحبه في دركات الجحيم والنيران. ولذلك أوصى الله عز وجل عباده المؤمنين أن يتثبتوا في كل ما ينطقون به وينشرونه بين الناس من أقوال ، وأخبار، ومعلومات وأن يتكلم كل إنسان فيما يخصه ويفهمه ، لذلك كان حديثنا حول قول الله تعالي ((وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)) وذلك من خلال هذه العناصر الرئيسية التالية …
1ـ أمانة الكلمة .
2ـ خطورة الكلام بغير علم .
3ـ خطورة الكلام فيما لا يعني.
4ـ الخاتمة .
العنصر الأول : أمانة الكلمة :ـ
إن الكلمة ليست شيئاً يمكن أن يُلفظ فيُهمل، أو يُودع في عالم النسيان، كلا، بل هي ذات شأن جليل، سلب، أو إيجاب، ولها تبعة دنيوية وأخروية، فإنها مسجلة ومكتوبة لن تضيع أبدا. فالكلمة سلاح خطير، وهي سلاحٌ ذو حدَّين، إما أن يؤدي إلى البناء والإعمار، وإما أن يؤدي إلى الهدم والخراب؛ ذلك لأن الكلمة هي التي تشكِّل التصوُّر، وتوجِّه الفكر، وتحرِّك الوجدان، ومن ثمَّ تحدِّد الموقفَ وتدفع إلى السلوك، فإن كانت الكلمة صادقةً أمينةً صالحةً أدَّت إلى الخير والبناء، وإن كانت كاذبةً باطلةً فاسدةً قادت إلى الشرِّ والدمار. ولقد أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم معاذ بن جبل بوصيته الخالدة التي رواها الإمام الترمذي بسند حسن صحيح وفيها: أنه قال لـمعاذ : (ألا أخبرك برأس الأمر، وعموده، وذروة سنامه؟ قال: بلى يا رسول الله! قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله. ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال: بلى يا رسول الله! فأخذ رسولُ الله بلسانه، ثم قال: كُفَّ عليك هذا. فقال معاذ : أوَإنا مؤاخذون بما تتكلم به ألسنتنا؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو قال: على مناخرهم- إلا حصائدُ ألسنتهم؟!). وقال صلي الله عليه وسلم”إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى، ما يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى، لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم” وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:(إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال وإضاعة المال وكثرة السؤال)). فبكلمة تُشْعَل نار الفتن والحروب! وبكلمة خُرِّبت البيوت، وتألمت القلوب، وبكت العيون! بكلمة خُرِّبت البيوت، وجُرِّحت القلوب، وبكت العيون، وتألمت النفوس! وبكلمة فُرِّق بين زوجين، وبكلمة فُرِّق بين الأخ وأخيه، وبين الوالد وولده، وبين الولد ووالده! كل ذلك بسبب كلمة أيها الكرام. ومن العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام والظلم والزنى والسرقة وشرب الخمر ومن النظر المحرم وغير ذلك ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه ؟!! يا أيها المسئول! ويا من حَمَّلك الله الأمانة أمانة الكلمة !أمانة القلم !أمانة الإعلام ! ويا من منَّ الله عليك بقلم تكتب به! اتق الله! واعلم أنك مسئول بين يدي الله عن هذه الأمانة العظيمة، وأنك مسئول عن كل كلمة سطرها قلمك، وستُسأل هل أردت رضوان الله ورضوان رسول الله أم أردت الدنيا وزينتها ولا حول ولا قوة إلا بالله؟ فاتق الله واعلم أن كل كلمة تتلفظ بها قد سُطِّرت عليك في كتاب عند ربي لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]. يقول الله جل وعلا (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)) ق. وقال جل وعلا: وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابَاً يَلْقَاهُ مَنشُورَاً (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبَاً(14)) الإسراء. 
العنصر الثاني : خطورة الكلام بغير علم :ـ 
يقول الله تعالي }وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36){ الإسراء .
صور الكلام بغير علم :ـ
1ـ نشر الأخبار الكاذبة 
لقد أمر الله تعالي المؤمنين بالتثبت من الأخبار واعتبر ذلك من التعبد فقال تعالي } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6){ الحجرات.
وقال تعالي } وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83){ النساء.
فالتثبت من كل خير ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها هو دعوة القرآن الكريم، ومنهج الإسلام الدقيق.
ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يبق مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. 
ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل. ولم يبق مجال للأحكام السطحية والفروض الوهمية في عالم البحوث والتجارب والعلوم.
والأمانة العلمية التي يشيد بها الناس في العصر الحديث ليست سوى طرف من الأمانة العقلية القلبية التي يعلن القرآن تبعتها الكبرى، ويجعل الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده، أمام واهب السمع والبصر والفؤاد..
إنها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها، وتسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعاً. أمانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها كلما نطق اللسان بكلمة، وكلما روى الإنسان رواية، وكلما أصدر حكماً على شخص أو أمر أو حادثة.
{ولا تقف ما ليس لك به علم}.. ولا تتبع ما لا تعلمه علم اليقين، وما لم تتثبت من صحته: من قول يقال ورواية تروى. من ظاهرة تفسر أو واقعة تعلل. 
وفي الحديث: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». 
وفي سنن أبي داود: «بئس مطية الرجل: زعموا» 
وعن ابن عمررضي الله عنهما أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم قال ” من أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا ” . رواه البخاري .
فالأمر جد خطير يظنه البعض هينا وهو عند الله عظيم يكلف الأفراد والمجتمعات الكثير لذلك قال الله تعالي} إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15){ النور
وهكذا تتضافر الآيات والأحاديث على تقرير ذلك المنهج الكامل المتكامل الذي لا يأخذ العقل وحده بالتحرج في أحكامه، والتثبت في استقرائه: إنما يصل ذلك التحرج بالقلب في خواطره وتصوراته، وفي مشاعره وأحكامه، فلا يقول اللسان كلمة ولا يروي حادثة ولا ينقل رواية، ولا يحكم العقل حكماً ولا يبرم الإنسان أمراً إلا وقد تثبت من كل جزئية ومن كل ملابسة ومن كل نتيجة، فلم يبق هنالك شك ولا شبهة في صحتها. {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} حقاً وصدقاً..
2ـ القول علي الله تعالي بغيرعلم:ـ
إن الناظر إلى حال الأمة يرى تخبطاً في الآراء، وتعارضاً في الأقوال، وتصادماً في الفتوى، وليس ذلك في الأمور التي يسوغ فيها الخلاف؛ بل فيما هو قطعي، أو مجمعٌ عليه عند الصحابة أو كبار الأئمة، وسبب ذلك معلوم عند الكثير وهو القول على الله بغير علم، فهذا يفتي، وهذا يرجح، والآخر يرد، وغيره يتأول!! 
قال تعالي {ولا تقف ما ليس لك به علم} لا تقل قولاً بغير علم لأن من معاصي اللسان التي هي من الكبائر أن يفتي الشخص بغير علم .
وقد صحّ وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سُئل عن بعض الأشياء فقال: “لا أدري” ثم سأل جبريل فقال: “لا أدري أسأل ربّ العزة” ، فسأل الله تعالى فعلّمه جواب ذلك السؤال ، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ماذا علّمه ربه ، وهذا السؤال كان عن خير البقاع وشر البقاع ، وفي لفظ عن خير البلاد وشرها. فقال جبريل عليه السلام: “خير البلاد المساجد” وفي لفظ: “خير البقاع المساجد وشرّ البقاع الأسواق” . روى ابن حبان في صحيحه.
فاعتبر العلماء أن يقول الرجل في المسألة التي لا يعلمها لا أدري فهذا نصف العلم ،قال علي رضي الله عنه: ولا يستحي من يعلم إذا سئل عما لا يعلم أن يقول الله أعلم. 
وقال مالك: من فقه العالم أن يقول لا أعلم. وقال الشعبي: لا أدري نصف العلم.
وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: “العلم ثلاثة كتاب ناطق وسنّة محكمة ولا أدري” .
أـ مكانة الفتوي :ـ
لعظم الفتوي ومكانتها ،نجد أن الله تعالي بعظمته وكبريائه ،تولاها الله بنفسه في قوله تعالى: }يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ(176){ [النساء]. 
وقال تعالى: }وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ(127){﴾ [النساء]. 
وتولاها الرسول صلى الله عليه وسلـم فكان المسلمون يسألونه صلى الله عليه وسلـم ويفتيهم ثم بعد ذلك تولاها العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بعد الرسول صلى الله عليه وسلـم.
وكان عمر بن الخطاب إذا عرضت مشكلة، جمع لها المهاجرين والأنصار يستشيرهم فيها، فبعد الرسول صلى الله عليه وسلـم يرجع إلى أهل العلم الصحيح ولا يرجع إلي من ليس من أهل الفتوى. 
فالذي يتولَّى الفتوى ويصدرها هو العالم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلـم المطلع على أقوال العلماء ليختار منها ما قام عليه الدليل، ولا يفتي إلا عند الحاجة.
لذلك ينبغي علي المؤمن أن يحتاط لدينه، فإذا أُشْكِلَ عليه شيء سأل العالم الذي يثق به في دينه، ولا يسأل من هب ودب ممن لا تبرأ الذمة بسؤالهم، فإن الأمر دين، وكما قال محمد بن سيرين: إن هذا الأمر دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. 
قال تعالى: }فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُون(43){ [النحل]. وأهل الذكر هم العلماء، والذكر هو الوحي».
لذلك أمرنا الله تعالي أن نتحري الدقة في هذا الأمر فقال تعالي } الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59){ الفرقان .
لذلك قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالي: «ليس لأحد أن يقول في شيء حلال ولا حرام إلا من جهة العلم، وجهة العلم ما نص في الكتاب، أو في السنة، أو في الإجماع، أو القياس على هذه الأصول، وما في معناها، قال تعالى}قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُون (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُون(60){ [يونس].
وقال الإمام ابن كثير: «وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم، بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها، ولا دليل عليها، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة» 
ولكن نجد البعض من الناس اليوم يتساهلون في تلقي الفتوى، فنري الكل يفتي ، البقال يفتي والتاجر يفتي ، والزارع يفتي والصحفي يفتي وكل من قرأ آية من كتاب الله تعالي أو حديث من كلام النبي صلي الله عليه وسلم اعتبر نفسه مفتيا ، وصار يحدث عن الله تعالي ،حتي رأينا من يقدح في الأئمة والعلماء المجتهدين ويقول هم رجال ونحن رجال ، ويشكك في أصول الدين وثوابته ، وظهر علينا من يفتي بإباحة الربا ، ويفتي بإباحة الغناء الماجن ، والتبرج والسفور، وإباحة القتل ، وأشياء أخري ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وهذا بداية نزع العلم .
ولذلك حذر من النبي صلي الله عليه وسلم من هؤلاء فعن ثوبان رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم «إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ » أخرجه مسلم وابن ماجة.
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا»
ب ـ أسباب التساهل في أمر الفتوي والقول علي الله ورسوله بغير علم :ـ 
1ـ حب الظهور وبريق الشهرة.
2ـ الجهل وعدم دراسة الأحكام الشرعية دراسة منهجية مؤصلة: وإنما الاعتماد على الثقافة العامة، والدراسة السطحية للمسائل.
3ـ عدم استشعار مسؤولية الفتوى وما يترتب عليها.
4ـ العجلة وعدم التأني والنظر والتأمل.
5ـ إرضاء الناس من ذوي الوجاهة والسلطان ، وذلك لأجل الحصول على شيء من متاع الدنيا وحطامها الفاني، إما منصب، أو مال، أو غير ذلك، وهذا حال علماء السوء، قال تعالى} يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِين(62){ [التوبة].
ج ـ خطورة الفتوي بغيرعلم :ـ
ليعلم الجميع أن الكلام في دين الله عز وجل ما هو إلا إخبار عن الله تعالي وعن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، 
فليتحري كل منا النجاة لنفسه وتخليصها بين يدي الله تعالي، فالأمر جد خطير لما يلي ..
1ـ كذب علي الله تعالي :ـ القول على الله بغير علم من الكذب على الله تعالى: }قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون(23){ [الأعراف].
وقال تعالى: }وّلا تّقٍولٍوا لٌمّا تّصٌفٍ أّلًسٌنّتٍكٍمٍ الًكّذٌبّ هّذّا حّلالِ وّهّذّا حّرّامِ لٌَتّفًتّرٍوا عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ إنَّ الَّذٌينّ يّفًتّرٍونّ عّلّى اللَّهٌ الًكّذٌبّ لا يٍفًلٌحٍونّ(116) مّتّاعِ قّلٌيلِ وّلّهٍمً عّذّابِ أّلٌيمِ(117)} [النحل].
2ـ من كبائر الإثم :ـ 
لأنه جرأة وافتراء على الله، وإغواء وإضلال للناس،قال تعالي } قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}. [الأعراف]. 
نجد أن الله قرن الله ـ تعالى ـ القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم والبغي والشرك، للدلالة على عظم هذا الذنب، وقبح هذا الفعل.
قال ابن القيم: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، وبعد أن ساق الآية التي أوردناها قال: فرتب المحرمات أربع مراتب:ــ 
– بدأ بأسهلها وهو الفواحش. 
– ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم. 
– ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منها وهو الشرك به سبحانه .
ـ ثم ربَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
4ـ تضليل الناس :ـ 
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، قَالَ : خَرَجْنَا فِي سَفَرٍ ، فَأَصَابَ رَجُلا مِنَّا حَجَرٌ فَشَجَّهُ فِي رَأْسِهِ ، فَاحْتَلَمَ ، فَسَأَلَ أَصْحَابَهُ : هَلْ تَجِدُونَ لِي رُخْصَةً فِي التَّيَمُّمِ ؟ قَالُوا : مَا نَجِدُ لَكَ رُخْصَةً وَأَنْتَ تَقْدِرُ عَلَى الْمَاءِ . فَاغْتَسَلَ فَمَاتَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : ” قَتَلُوهُ قَتَلَهُمُ اللَّهُ ، أَلا سَأَلُوا إِذَا لَمْ يَعْلَمُوا ، فَإِنَّمَا شَفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ ، إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَعْصِرَ أَوْ يَعْصِبَ ” ، شَكَّ الرَّاوِي ، ” عَلَى جُرْحِهِ خِرْقَةً ، ثُمَّ يَمْسَحَ عَلَيْهَا وَيَغْسِلَ سَائِرَ جَسَدِهِ ” أخرجه أبوداود.
وما حديث الرجل قتل تسعة وتسعون نفساعنا ببعيد، لما سأل الراهب فأفتي له بغيرعلم كانت النتيجة أن أهلك الراهب نفسه بسبب فتواه وأضل غيره ، من هنا نعرف أهمية العلم وشرف أهله ، وفضل العالم على العابد فالعلماء هم ورثة الأنبياء جعلهم الله بمنزلة النجوم يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر .
5ـ يحمل اثمه واثم غيره :ـ
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلي الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم (من أفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه) رواه أبوداود وابن ماجه وغيرهما 
6ـ إصابة اللعنة :ـ
قال عليه الصلاة والسلام: “من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض” .رواه الدارمي .
6ـ المصير النار والعياذ بالله تعالي :ـ
عن عبيد الله بن أبى جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار ) . رواه الدارمي في سننه ، ضعفه كل من الحافظ ابن رجب في ” شرح حديث ما ذئبان جائعان “، والعجلوني في “كشف الخفاء”، وضعفه الشيخ الألباني في ” السلسلة الضعيفة “.
والحديث وإن كان ضعيفاً غير أن معناه صحيح ، فمن أقدم على الفتوى من غير تثبت ولا بحث في الأدلة فقد تسبب في إدخال نفسه النار .
والقول بغيرعلم كذب علي الله وعلي رسوله صلي الله عليه وسلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَذَبَ عَلَي مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ. رواه البخاري ومسلم.
7ـ الفتوي بغير علم تؤدي بصاحبها إلي أن يقع في تكفير المخالفين … لقد حذر الله تعالي من إيذاء المؤمنين بالسب أو الرمي بالكفر فقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا(58)} [الأحزاب].
وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: «لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ إِلاَّ ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ».
وقال صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم أيضًا «لَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ»، فإذا كان تكفير المعيّن على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل لأخيه ياكافر فقد باء بها أحدهما». رواه البخاري .
وقد نهى الله عباده المؤمنين أن ينفوا مسمى الإيمان عن من أظهر ه واتصف به قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(94)} [النساء].
يقول ابن تيمية: “فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين، وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة، وتبين له المحجة، ومن ثبت إيمانه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزال إلا بعد إقامة الحجة، وإزالة الشبهة “
لا يجوز أن نكفِّر مسلمًا أقر بالشهادتين وعمل بمقتضاهما وأدى الفرائض برأي أو بمعصية إلا أن أقر بكلمة الكفر، أو أنكر معلومًا من الدين بالضرورة، أو كذب صريح القرآن، أو فسره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر”.
وقال أبو حامد الغزالي: “والذي ينبغي أن يميل المسلم إليه الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلاً، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم”.( المحجمة: ما يحجم به وقيل: قارورته)
د ـ حال السلف مع الفتوي :ـ
كان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم والعلماء والفقهاء الأجلاء يتوارثون مقولة: “من قال الله أعلم فقد أفتى”،
فأهون على المرء عند الله أن يقول: “الله أعلم” من أن يفتي بغير علم، ويورث بغير دراية، فيضل ويضل.
ولخطورة القول علي الله تعالي ورسوله صلي الله عليه وسلم، لذلك كان السلف يكرهون الجرأة على الفتيا والحرص عليها والمسارعة إليها، والإكثار منها.
قال عبد الرحمن بن أبي ليلى: «أدركت مئة وعشرين من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلـم يُسْأَلُ أحدهم عن المسألة، ما منهم من أحد إلا ودَّ أن أخاه كفاه. وفي رواية: فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى يرجع إلى الأول» 
وَرَوَى أَيُّوبُ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَهْ قَالَ : سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ آيَةٍ ، فَقَالَ : أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي ؟ وَأَيْنَ أَذْهَبُ ؟ وَكَيْفَ أَصْنَعُ إذَا أَنَا قُلْت فِي كِتَابِ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَا ؟ 
وقال الإمام أحمد: «من عرض نفسه للفتيا، فقد عرضها لأمر عظيم إلا أنه قد تلجئ إليها الضرورة، قيل له: فأيما أفضل الكلام أو السكوت؟ قال: الإمساك أحبُّ إليَّ، قيل له: فإذا كانت ضرورة؟ فجعل يقول: الضرورة الضرورة، وقال: الإمساك أسلم له.
وليعلم المفتي أنه يوقِّع عن الله أمره، ونهيه، وأنه موقوف، ومسؤول عن ذلك، وكان الإمام مالك إذا سُئل عن مسألة كأنه واقف بين الجنة والنار، «وجاءه رجل مسافر فسأله عن أربعين مسألة، فأجابه عن خمس مسائل، وقال عن البقية: (لا أدري)، فقال الرجل: جئتك من كذا وكذا، وتقول: (لا أدري)، قال: نعم، اركب راحلتك، وقل للناس: سألت مالكًا؟ وقال: (لا أدري)». 
وَقَالَ بَعضُ العُلَمَاءِ لِبَعضِ المُفتِينَ: «إِذَا سُئِلتَ عَن مَسأَلَةٍ، فَلَا يَكُنْ هَمُّكَ تَخلِيصَ السَّائِلِ، وَلَكِنْ تَخلِيصَ نَفسِكَ أَوَّلًا».
وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين بفتح الحاء قالوا: «إن أحدكم ليفتي في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر».
– وقال ابن مسعود: من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86)} [ص] 
– وقال عبد الرحمن بن مهدي: «جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن شيء أياماً ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أريد الخروج، وقد طال التردد إليك، قال: فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: ما شاء الله يا هذا! إني إنما أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه. 
– وعن أبي بكر الأثرم قال: «سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه».
– وعن الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري».
– وقد سئل الإمام مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله ـ جل ثناؤه {إنَّا سّنٍلًقٌي عّلّيًكّ قّوًلاْ ثّقٌيلاْ(5)} [المزمل]
فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يسأل عنه يوم القيامة. 
وسئل سيدنا علي رضي الله عنه وهو على المنبر، فقال: لا أدري، فقيل: ليس هذا مكان الجهال… فقال: هذا مكان الذي يعلم شيئاً ويجهل شيئاً… وأما الذي يعلم ولا يجهل فليس له مكان.
وسئل الشعبي: فقال: لا أعلم.. فقيل: ألا تستحي وأنت فقيه العراقين “البصرة والكوفة”؟ فقال: لا أستحي مما لا تستحي منه الملائكة حين قالت: لا علم لنا إلا ما علمتنا (البقرة:32).
– وقال: إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من السداد والتوفيق، مع الطهارة؛ فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا»
العنصر الثالث : خطورة الكلام فيما لا يعني:ـ
إن من أخطر الأشياء التي يقع فيها الإنسان ، الكلام فيما لا يعني: فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ). أخرجه الترمذيُّ وابن ماجه .
قال ابن رجبٍ رحمه الله :هذا الحديثُ أصلٌ عظيمٌ من أصولِ الأدب.
وهذا الحديث قد ورد معناه في الكتاب والسُّنة من غير وجه.
قال الله جل وعلا{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا(36)}الإسراء [
وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت). متفقٌ عليه.
وكذا قوله جل وعلا{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ(18)} ] ق[
من مظاهر حُسنِ إسلامِ المرء ومن أدلةِ كماله، وصِدقِ إيمان صاحبه، والتزامهِ بدينِ ربِّه -جلَّ وعلا- قولًا وعملًا، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ).
وقد عدَّ حمزةُ الكنانيُّ هذا الحديث العظيم ثُلُثَ الإسلام.
كما عدَّه أبو داوود أحدَ أحاديث أربعة يدورُ عليها العلم.
وذكر ابن القيم أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَمَعَ الورعَ كله في هذا الحديث.
وعدَّ بعضُ العلماءِ هذا الحديث من جوامعِ كَلِمِ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم التي لم يَصح نظيرها عن أحدٍ قبله؛ لأنه جمع نِصفَ الدين؛ لأن الدين فعلٌ وتَرْك، وقد نص على التَرْك، وقال بعضهم لقد جمع الدين كله؛ لأنه نصَّ على التَرْك ودلَّ على الفعل.
وقال ابن القيم: (فهذا يعمُّ التَرْكَ لِمَا لا يعني من الكلام، والنظر، والاستماع، والبطش، والمشي، والفكر، وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه كلمةٌ كافية في الورع: (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ).
ومعني قول النبي صلى الله عليه وسلم (مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يَعْنِيهِ) أنَّ مَن حَسُنَ إسلامُه؛ تَرَكَ ما لا يعنيه من قولٍ وفِعل، واقتصر على ما يعنيه من الأقوال والأفعال؛ ومعنى يعنيه: أنْ تتعلقَ عنايته به، ويكون من مقصده ومطلوبه.
وإذا حَسُنَ الإسلام، اقتضى تَرْكُ ما لا يعني كله من المحرمات والمشتبهات والمكروهات، وفضولِ المباحات التي لا يحتاج إليها، فإنَّ هذا كله لا يعني المسلمَ إذا كَمُل إسلامه، وبلغ إلى درجةِ الإحسان، وهو أنْ يعبدَ اللهَ تعالى كأنه يراه، فإنْ لم يكن يراه، فإنَّ اللهَ يراه.
فمن عَبَدَ الله على استحضار قُربهِ ومشاهدته بقلبه، أوعلى استحضار قُرِبِ اللهِ منه واطلاعه عليه؛ فقد حَسُنَ إسلامُه، ولَزِمَ من ذلك أن يترك كل ما لا يعنيه في الإسلام، ويشتغل بما يعنيه فيه، فإنه يتولد من هذين المقامين: الاستحياء من الله وترْك كل ما يُستحيا منه.
قال بعضهم: (استحي من الله على قدر قُربِه منك، وخَف اللهَ على قدْرِ قدرته عليك).
وقال بعض المحققين:(إذا تكلمتَ، فاذكر سمعَ الله لك، وإذا سكتَ، فاذكر نظرَهُ إليك).
وقوله جل وعلا :{وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ(61)}) يونس)
وأكثر ما يُراد بتَرْكِ ما لا يعني حفظ اللسان من لغو الكلام كما أشير إلى ذلك في قوله تعالي{ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد}. ق
وقال الحسن: (من علامةِ إعراضِ اللهِ تعالى عن العبد؛ أن يجعلَ شُغلَهُ فيما لا يعنيه).
وقال سهل بن عبد الله التُّستري :(من تكلمَ فيما لا يعنيه، حُرِمَ الصدق).
والضابطُ في تحديدِ ما يعني وما لا يعني: هو الشرع المُطَهَّر، وقد ذكر الشاطبي رحمه الله قاعدةً في ضابط ذلك فقال: (كلُّ مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوضُ فيها خوضٌ فيما لم يدلَّ على استحسانِه دليلٌ شرعي).
وما لا يعني الإنسان جزءان:
*جزءٌ في أمور لا تعنيه ولا تهمه من أصلها؛ كشئونِ الآخرين وخصوصياتهم في كيفياتِ معايشِهم، وجهاتِ تحرُّكِهم، ومقدار تحصيلهم من الدنيا.
*وجزءٌ في حاجاتٍ تَهُم الإنسان في أصلها كشئون المعايشِ من الطعامِ والشراب وغيرها، وما لا يعني فيها هو الزيادةُ فيها على قدرِ الحاجة وهو ما يُعرف بفضولِ المُباحات.
أثر ترك ما لايعني علي الفرد…
فعن زيد بن أسلم قال:(دُخل على أبي دجانة وهو مريض، ووجهه يتهلل، فقالوا علاما وجهك يتهلل يا أبا دجانة ؟ فقال: ما من عمل شيءٌ أوثقَ عندي من اثنتين: لم أتكلم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
إِنَّ طُولَ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَهُمُّ الإنسانَ ولاَ يَعنِيهِ يَبلُغُ بِالإِنْسانِ رِفْعَةَ المَكانَةِ وعُلُوَّ الدَّرَجَةِ وسُمُوَّ المَنزِلَةِ، قَالَ رَجُلٌ لِلقمان: مَا بَلغَ بِكَ مَا أَرَى؟ قَالَ: (صِدْقُ الحَدِيثِ، وطُولُ السُّكوتِ عَمَّا لاَ يَعنِينِي). 
إِنَّ حِفْظَ اللِّسانِ مِمَّا لاَ يَعنِي الإِنْسانَ يُجَنِّبُهُ الكَثِيرَ مِنَ الآثامِ، ويَدفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ، ويَقِيهِ مِنْ مَواطِنِ الخَطَرِ، بِهِ يَسلَمُ مِنَ العَطَبِ والزَّلَلِ، ويَنْجُو مِنَ الزَّيْغِ والخَلَلِ، وبِهذا يَسلُكُ طَرِيقَ النَّجاةِ، وخِلاَفُ ذَلِكَ شُرودٌ وتَخَبُّطٌ فِي كُلِّ اتِّجاهٍ.
فَعَنْ عُقبةَ بِنِ عَامرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسولَ اللهِ مَا النَّجاةُ؟ قَالَ: (امْسِكْ عَلَيكَ لِسانَكَ، ولْيَسَعْكَ بَيتُكَ، وابكِ عَلَى خَطِيئتِكَ). 
أثر عدم ترك ما لايعني علي الفرد …
ترك ما لا يعني يُمكِّنُنَا من راحةٍ نفسيةٍ تامةٍ, ننام ونحن نتمتع باطمئنانٍ تام, ونأكلُ ونشربُ بانشراحٍ وحيوية, في حينَ أن الفضولي المتطلع إلى ما لا يعنيه من قريبٍ أو بعيد يعيش في قلقٍ دائمٍ, وحَيْرةٍ قاتلةٍ, واستفساراتٍ لا يَجِدُ لها جوابًا.
تُرَى ما سِرُّ علاقة فلانٍ الفلاني بفلان؟!
وما هي أحوالُ فلانٍ المالية؟! ومن أين اكتسبَ هذه الأموال؟! وما سرُِّ هذا السرورُ البادِي على وجهِ فلانٍ هذا اليوم؟!
والمسكين لا يَجِدُ لتساؤلاتِه أجوبةً شافيةً!!
والذي يتكلم فيما لايعنيه يعرض نفسه للحرمان من علو القدرِ والدرجة عند الله عزَّ وجَلَّ…
قال مالك بن دينار:( إذا رأيت قساوةً في قلبك, ووَهنًا في بدنِك, وحِرمانًا في رزقِك؛ فاعلم أنك تكلمت بما لا يعنيك).
قال شيخ الإسلام رحمه الله (فإذا خاضَ فيما لا يعنيه نَقَصَ من حُسْنِ إسلامه فكان هذا عليه؛ إذ ليس من شرطِ ما هو عليه أنْ يكونَ مستحقًا لعذاب جهنم وغضبِ الله، بل نقْصُ قدره ودرجته عليه)، وكفى بهذا خسرانًا.
وفي منثور الحكم: (أكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيهم).
إِنَّ التَّدخُّلَ فِيما لاَ يَهُمُّ الإِنْسانَ ولاَ يَعنِيهِ رُبَّما يُبعِدُهُ عَنِ الجَنَّةِ ويُقْصِيهِ، فَالأَمْرُ إذاً جِدُّ خَطِيرٍ وشَرٌّ مستَطِيرٌ، وبِقَدْرِ تَنزُّهِ المَرءِ عَنْ هَذا التَّصرُّفِ المَعِيبِ تَكُونُ مَكانَتُهُ ودَرجَتُهُ عِنْدَ اللهِ القَرِيبِ المُجِيبِ، فَعَنْ أَنسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (تُوفِّيَ رَجُلٌ فَقالَ رَجُلٌ آخَرُ ورَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْمَعُ أَبْشِرْ بِالجَنَّةِ، فَقالَ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم- : أَولاَ تَدْرِي؟ فَلَعلَّهُ تَكلَّمَ فِيما لاَ يَعنِيهِ، أَو بَخِلَ بِما لا يُنقِصُهُ).
حال المسلم مع هذا الأمر :ـ 
الأمر يحتاج منا إلي محاسبة ومجاهدة ومعاقبة جادة مع النفس
إِنَّ العَاقِلَ هُوَ الذِي يَتَحرَّى قَبْلَ الإِقْدامِ عَلَى القَولِ أَو العَملِ؛ فيُوَجِّهُ السُّؤالَ إِلى نَفْسِهِ: هَلْ هَذا القَولُ أَو هَذا العَملُ يَهُمُّهُ ويَعنِيهِ، فَإِنْ رأَى ذَلِكَ أَقْدَمَ، وإِنْ رأَى غَيْرَ ذَلِكَ امتَنَعَ وأَحْجَمَ، فَمِنَ الأَقوالِ والأَفْعالِ مَا هُوَ ضَروريٌّ، بَلْ مِنْهُ مَا هُوَ طَاعَةٌ وعِبادَةٌ، ومِنْهُ كَذلِكَ مَا هُوَ فَضلٌ وزِيادَةٌ، وصَاحِبُ الوَعْيِ اليَقِظِ والفِكْرِ العَمِيقِ يُخْضِعُ كَلاَمَهُ وعَملَهُ قَبلَ الصُّدورِ لِلْفَحْصِ والتَّحقِيقِ، فَإِذا كَانَ الأَمْرُ يَهُمُّهُ تَكلَّمَ أَو عَمِلَ، مُلاَحِظاً الوَقْتَ المُناسِبَ لِكَلاَمِهِ أَو عَملِهِ.. 
فعن مجاهد قال:(سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: لا تتكلم فيما لا يعنيك؛ فإنه فَضْل ولا آمن عليك الوِزر، ولا تتكلم فيما يعنيك؛ حتى تجد له موضعًا، فإنه رُبَّ مُتكلمٍ في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فيعنت)
فالأمرُ يحتاج منا إلى معاقبةِ النفس, كما فعل حسَّان بن أبي سنان عندما مرَّ بغرفةٍ فسأل: متى بُنيت هذه؟فأدّبَ نفسه بصيامٍ لأنها تسأل عن ما لا يعنيها.
فعلي كل منا أن يجتهد كل في مجاله ويبدع ويتميز حتي تنهض الأمة كما فعلت من قبل لما تخصص رجالها في كل المجالات فصار عندهم نوابغ في كل مجال كما رأينا في عصر الصحابة ….
إن تميّز المجتمع الذي أقامه الرسول صلى الله عليه وسلم – في المدينة المنوّرة بالحيوية العجيبة رغم بساطة الحياة آنذاك، لم يكن ساكنا بل اسم بالنشاط الديني والدنيوي الحثيث الذي امتدّ في مدة وجيزة إلى جزيرة العرب ثم تجاوزها ليعمّ القارات، وما حدث ذلك طفرة وإنما بإتقان النبيّ عليه الصلاة والسلام لتوظيف جميع الطاقات البشرية والمادية توظيفا علميا منهجيا جعلها تؤتي أقصى ما يمكن نصرة للدين وخدمة للمسلمين… فأين نحن من ذلك؟
أسأل الله تعالي أن يحفظ بلادنا من كل مكروه وسوء…………… آمين يا رب العالمين .


x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...