مَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ

علَى البَاغِي تدُورُ الدَّوَائِر
الحمدُ للهِ، والصَّلاةُ والسَّلامُ على رسُولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومَنْ والاه.
وبعدُ، فإنَّ للهِ سننًا تعملُ في هذا الكونِ ولا تتخلَّفُ، ومن رحمةِ اللهِ بنا أنْ أوْدعَ هذه السننَ آياتِ كتابِه العزيز، حتى نتلُوَها ونتذكَّرَها صباحَ مساء، وجعلَ مِصداقَها وقائعَ التاريخِ التي تحفظُها ذاكرةُ الإنسانيةِ، فنطقَ بها الحكماءُ وأهلُ الوَعْي ﴿لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾، ومن هذه السنن: سرعةُ عاقبةِ الغدرِ ونقْضِ العهدِ، فالغادرُ الناكثُ يعودُ أثرُ غَدْرَتِه عليه، ويرتدُّ جزاءُ نَكْثِه عليه ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾.
ومع ذلك فكلُّ غادرٍ يتصوَّرُ أنه استثناءٌ من هذه السنَّةِ الإلهيَّة، وتَغُرُّه نفسُه عن الاعتبارِ بمَنْ سبقوه من أهلِ الغَدْرِ الذين كانوا أشدَّ قوةً وأكثرَ جمعًا وأحكمَ رأيًا وأوثقَ خُطَّةً، فلم يُغْنِ عنهم ذلك من أمرِ الله شيئا.
وها نحن أمام نموذجٍ متجدِّدٍ من خائنٍ غادِرٍ نقضَ عهدَه، وحنَث بقسَمِه، وخان رئيسَه الذي ائتمنَه، وانقلبَ على إرادةِ الأمة، ووجَّه سلاحَ جيشِ الأمة إلى صدرِها بدلًا من عدوِّها، وزيَّن له شيطانُه وشياطينُ الإنسِ والجنِّ من حولِه سُوءَ عمَلِه، فهل يظنُّ أن يُفلِتَ هو ومَنْ معه من سُنَّةِ الله في الغادِرين؟.
وفي الحديث: «لَا يُؤَخِّرُ اللَّهُ عُقُوبَةَ الْبَغْي، فَإِنَّ اللَّهَ قَالَ: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾».
وقال الحكماءُ: «الغدرُ يُسْرِعُ إلى الهَلَكِ، ويُفْضِي إلى زوالِ المُلْك» وقالوا: «أربعٌ مَنْ أسرعِ الأعْمالِ عُقوبةً: مَنْ عاهدتَه ورأيُك أن تَفِيَ له ورأيُه الغَدْرُ، ومَنْ سَعَى على مَنْ لم يَسْعَ عليْه (أي تآمر على مَنْ لم يُسِئْ إليه)، ومَنْ قطع رحِمَ مَنْ يُواصِلُه، ومنْ كافأَ الإحسانَ بإِساءَة». وهي أربعٌ ارتكبها قادةُ الانقلابِ الدمويِّ بشكلٍ واضح.
وكان يُقال: «وَالي الغَدْرِ مَعْزُولٌ، وجَيْشُ العُدْوانِ مَفْلُول» أي مهزوم.
وقال حكيمٌ لبعضِ مُلوكِ زمانِه: «إيَّاكَ والغدْرَ؛ فإنَّه أقربُ الأشياءِ صَرْعَة».
وأوصي أحدُ القُوَّاد جيشًا بعثهم إلى مُنَازلةِ عدوٍّ لهم فقال: «احْذَروا من الغَدْرِ، فإن الغادِرَ مَصْرُوع».
وسوف أتناولُ جانبًا من حديثِ القرآنِ والسنة عن الغدْر ونقضِ العهدِ والميثاق، لعلَّ مُوَفَّقًا يتداركُ نفسَه، أو مخذولًا تثبُتُ عليه الحجةُ، لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ.
(2) عهدُ الله مسؤولٌ والوفاءُ به واجبٌ
إنَّ العهدَ ليس مجردَ كلماتٍ يستطيعُ مَنْ أعطاها أنْ يسحبَها متى شاء، بل هو مسؤوليةٌ لا فِكاكَ منها ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾، وقد هدَّدَ اللهُ المنافقين الذين أعطَوْا عهودَهم بالثباتِ ثم نقضُوا العهدَ حين جدَّ الجِدُّ، فقال: ﴿وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾.
وحتى لا يتصوَّرَ الغادرُ أنَّ ما يُضْمِرُه في نفسِه من رغبةٍ في الغدرِ ذكاءٌ ومهارةٌ فإنَّ اللهَ تعالى يُذكِّرُه بأنَّ العهدَ يكونُ معه سبحانه قبلَ أن يكون مع العبادِ، وأنَّ سوءَ العاقبةِ سيكون على الناكثِ بعهْدِه ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.
– النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمرُ بالوفاءِ بالعهْد:
أخرج البخاريُّ في الحوارِ الذي دار بين قيصرَ وبين أبي سُفيان وهو إذ ذاك لا يزال مشركا: قَالَ قيصرُ لأبي سُفيان: «فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ» الحديث.
– ويرفضُ الغدرَ حتى لو كانتْ فيه مصلحةٌ للمسلمين:
فالغدرُ حرامٌ في كلِّ عهد بين المسلمِ وغيره، ولو كان عهدًا مع كافرٍ، وقد أمر اللهُ تعالى بالوفاءِ بعهودِ المشركين ما لم ينقُضُوا منها شيئًا ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾، وأمَّا عهودُ المسلمين فيما بينهم فالوفاءُ بها أشدُّ، ونقضُها أعظمُ إثمًا.
وفي قصةِ صُلحِ الحُدَيْبِيةِ كان من بُنُودِه: «أَنَّهُ مَنْ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَصْحَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهِ رَدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَى قُرَيْشًا مِمَّنْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدُّوهُ عَلَيْه» ولهذا لما جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو فِي الْحَدِيدِ، هاربَا من المشركينَ قام إليهِ أبوه سُهَيْلٌ فَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ، مع أن الاتفاقَ لم يكن قد تمَّ التوقيعُ عليه بعدُ، وَصَرَخَ أَبُو جَنْدَلٍ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ، أَتَرُدُّونَنِي إِلَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَيَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا جَنْدَلٍ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، فَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَأَعْطَوْنَا عَلَيْهِ عَهْدًا، وَإِنَّا لَنْ نَغْدِرَ بِهِمْ» الحديث.
– معاويةُ رضي الله عنه يمتنِعُ من الغدْرِ بالرومِ، عندما سمعَ الحديث:
كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ وَبَيْنَ الرُّومِ عَهْدٌ، وَكَانَ يَسِيرُ نَحْوَ بِلاَدِهِمْ، حَتَّى إِذَا انْقَضَى الْعَهْدُ غَزَاهُمْ، فَجَاءَ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، وَفَاءٌ لاَ غَدْرٌ. فَنَظَرُوا فَإِذَا عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مُعَاوِيَةُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلاَ يَشُدُّ عُقْدَةً وَلاَ يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِىَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ». فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ.
– نقضُ يهودِ بني قُرَيْظةَ للعهدِ استجابةً لِحُيَيِّ بنِ أَخْطَبَ معَ عِلْمِهم بعاقِبةِ الغَدْر:
الغدرُ أحدُ أهمِّ أخلاقِ اليهودِ الذين قال الله عنهم ﴿أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
ومِنْ أوضحِ قصصهم في ذلك: ما جَرَى من نقضِ بني قُرَيْظَةَ لعهدِهم يومَ الأحزابِ، فكان جزاءُ غدْرِهم أنْ سلَّط اللهُ عليهم نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين ﴿وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا. وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا﴾.
– الوفاءُ بالعهْدِ للبَرِّ والفاجِر:
قال ميمونَ بنِ مِهْران: «ثلاثٌ تؤدَّي إلى البَرِّ والفاجِرِ: الرحِمُ تصلُها بَرَّةً كانت أو فاجرةً، والأمانةُ تؤدِّيها إلى البرِّ والفاجرِ، والعهدُ تفِي به للبرِّ والفاجِر»، وسُئلَ عطاءٌ عن رجلٍ سَبَتْه (أي أَسَرَتْه) الدَّيْلَمُ، فأخذُوا عليه عهْدًا وميثاقًا على أنْ يُرسلَ إليهم بشيءٍ قد سَمَّوْه، وإلَّا رجع إليهم، فلم يجدْ الذي سَمَّوْه له، فقال لعطاء: أيرجِعُ إليهم أم لا؟ قال: «ارجِعْ إليهم»، قال: إنهم أهلُ شِرْك؟ قال: «تَفِي بالعهد». فأعاد عليه، فأبى عطاءٌ ألَّا يَفِيَ بالعهدِ، وقال الأَوْزَاعِيُّ: يَفِي للعهْد».
– فإذا اجتمع مع العهدِ قَسَمٌ ويمينٌ فجريمةُ الغدْرِ أعظمُ وإثمُه أشدُّ:
فإذا نوَى الغدْرَ وهو يحلِفُ اليمينَ فالإثمُ أدْهَى وأمرُّ، ويمينُه يمينُ غَمُوس تغمِسُه في نارِ جهنَّم إنْ لم يتدارَكْ جُرمَه بتوبةٍ نَصُوحٍ، أو يعفو اللهُ عنه.
فما رأيُكم فيمن حلفَ يمينَ الولاءِ وأقسمَ على احترامِ الدستورِ والقانونِ وضميرُه مُنْطَوٍ على الغدْرِ بالرئيسِ الذي أقسمَ له؛ استجابةً لرؤيا شيطانيةٍ ملكتْ عليه عقلَه؟.
(3) الغدرُ بالحاكمِ أو من الحاكمِ أعظمُ إثما
أعظمُ صُورِ الغدْر: نقضُ عهْدِ الحاكمِ على مَن بايعه ورَضِيَ به، ومبايعتُه بنيَّةِ الغدْرِ به والتآمُرِ عليه، كما فعل قائدُ الانقلاب، وفي الصحيحين: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» ومنهم: «رَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لَا يُبَايِعُهُ إِلَّا لِدُنْيَاهُ، إِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى لَهُ، وَإِلَّا لَمْ يَفِ لَهُ»، وفيهما: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلَا وَلَا غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْرًا مِنْ أَمِيرِ عَامَّةٍ».
ومن معاني هذه العبارةِ الأخيرة: نهيُ الرعيَّةِ عن الغَدْرِ بالحاكِمِ، فلا يشقُّوا عليه العصَا، ولا يتعرَّضُوا لما يُخافُ حصولُ فتنةٍ بسببِه، ومن معانيها أيضا: نهيُ الحاكمِ عن الغدْرِ بما عاهدَ عليه رعيَّتَه، أو بما عاهدَ عليه آحادَ رعيَّتِه.
فما رأيُ الأشياخِ الذين أعلنُوا بيْعتَهم (انتخابهم) للرئيسِ الشرعيِّ، ثم مالَأُوا الغادِرَ الذي نكثَ بَيْعَتَه، وزيَّنُوا له غَدْرَتَه، وبرَّرُوا له خِيانتَه، أو قبِلوا تبريرَه للغدْرِ بالإمامِ الذي بايعتْه الأمةُ في انتخاباتٍ نزيهةٍ، وأقسمَ الغادرُ أمامَه على الملإِ قسَمَ الولاءِ والطاعةِ، وحلَفَ على احترامِ الدستورِ الذي رضيتْه الأمةُ في استفتاءٍ نزيهٍ، ثم غدَر بإمامِه وأهدرَ إرادةَ الشعبِ الحرَّةِ، لغرضٍ في نفسِه؟.
ولكنَّ اللهَ تعالى يكونُ بمعونتِه مع المغْدُورِ به على الغادرِ ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ﴾.
(4) طبيعةُ الغادرِ في ضوْءِ القرآنِ والسنَّة
إنَّ نظرةً سريعةً في نصوصِ القرآنِ والسُّنَّةِ تكشِفُ عن دناءةِ الطبيعةِ النفسيَّةِ للغادرِ الذي لا يُتْقِنُ إلا الخداعَ والدَّسائسَ، ولهذا قالت الحكماء: «لمْ يَغْدِرْ غادِرٌ قطُّ إلَّا لِصِغَرِ هِمَّتِه عن الوفاءِ، واتِّضاعِ قَدْرِه عن احتمالِ المكارِه في جنْبِ نيْلِ المكارِم». وتأمَّلوا أوصافَ الغادرِ في القرآنِ والسنَّة، وناظِرُوها بواقعِ الغادرين:
– الغدْرُ من خِصالِ النِّفاق:
ففي الحديث الصحيح: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذا خَاصَمَ فَجَرَ»، والغادِرُ يتحلَّى بالخصالِ الأربع.
وقد ذمَّ اللهُ المنافقين الذين نقضوا العهدَ أشدَّ الذمِّ وأقبحّه، فقال ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾.
– الغدْرُ علامةٌ على ضعفَ الدِّين:
ففي الحديث: «لَا إيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ». وكيفَ يكونُ صاحبَ دينٍ قويٍّ وهو يُخْلِفُ اللهَ ما وعدَه، ويجحد بآيات الله؟ ففي معنى ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ قَالَ قَتَادَةُ: «الَّذِي يَغْدِرُ بِعَهْدِهِ»، وغايةُ ما عنده: أنْ يتظاهرَ ببعضِ الشكليَّاتِ ويتلفَّظَ ببعضِ العباراتِ أمامَ الخلقِ ليغُرَّهم ويخدعَهم؟.
– الغَدْرُ علامةٌ على قسْوةِ القلبِ:
لأن غيابَ الخوفِ من الله يُحِيلُ الإنسانَ وحشًا في مِسْلاخِ آدميٍّ، ولذلك تهونُ عليه دماءُ الآلافِ، ولا تؤثِّرُ في مشاعرِه آهاتُ الملايينِ من المعذَّبين، بل ربما يتلذَّذُ بتعذيبِ مَنْ يخدعُهم بأنهم نورُ عينيْه، ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾، بل القرآنُ يصفُ الغادرَ بأنه شَرُّ الدوابِّ ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ﴾.
– الغدْرُ فسقٌ:
وصف اللهُ الغادرَ بالفسقِ في آياتٍ كثيرةٍ ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ. الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾، ﴿وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ﴾.
فهل مثلُ هذا الموصوفِ في القرآنِ والسُّنَّةِ بالنِّفاقِ وضعفِ الدينِ وقسوةِ القلب والفِسْقِ يمكنُ أنْ تَسْعدَ أمةٌ تُسْلِمُ إليه أمرَها، أو تُكْتَبَ في سِجلِّ التقدُّمِ والخُلودِ أمةٌ تُعْطِي له قيادَها؟.
(5) آثارُ الغدرِ ونقضِ العهدِ والميثاقِ في الدُّنيا
الآثارُ الوخيمةُ للغدْرِ على الغادِرين منها ما يكون في الدُّنْيا، وأهمُّها:
1 – الخُسْرانُ التامُّ ماديًّا ومعنويًّا:
مع أنَّ الغادرَ يحرصُ على الظُّهورِ بمظْهرِ المتديِّنِ أحيانًا، فإنَّ القرآنَ يفضَحُ حقيقتَه، ويهدده بأنَّ الخسرانَ عاقبةُ نكثِه بعهْدِه ومِيثاقَه ﴿الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ)، والخُسرانُ هنا مطلقٌ يشملُ الماديَّ والمعنويَّ في الدُّنيا وفي الآخرة ﴿أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ﴾.
ومهما حاول الغادرُ الخاسرُ أنْ يُقدِّم من خُططٍ للإصلاحِ فلن ينجحَ في ذلك ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
2 – الغادِرُ يذوقُ السوءَ بفعلِه، ويبطلُ اللهُ ما يصنعُه، خُصوصًا إن كان أقسمَ على العهدِ:
فمهما ظنَّ الغادِرُ بنفسِه، ومهما خَيَّل له غُرورُه من الذكاءِ والقدرةِ على تحقيقِ طُموحاتِه فإنه لنْ يَهْنأَ بغَدْرتِه، بل سيفشلُ وسيشربُ من كأْسِ الغَدْرِ التي مَلأَها للآخرِين، قال تعالى ﴿وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ. وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ. وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (النحل 91-95).
والمعنى: ولا تنقضُوا الأيمانَ بعد أنْ جعلتُم اللهَ كفيلًا وضامِنًا ورقيبًا على أنفسِكم إذْ أقسمتُم باسمه، فتُفْسِدُوا هذه الأيمانَ إذْ تجعلونها وسيلةً للغَدْرِ والمكْرِ، وذَريعةً إلى غِشِّ الناسِ وخِداعِهم، بدعْوَى أنَّ ذلك يُحَقِّقُ مصلحةً أفضلَ للأمة، ويجعلُ أُمةً أحسنَ مِنْ أُمة، مستغلِّين ما جرَتْ به عادةُ الناسِ من الاطمئنانِ إلى صِدْقِ مَنْ يُقسِمُ باللهِ تعالى وبخاصةٍ إذا أظهر النُّسُكَ والتديُّنَ، ثم رتَّب سبحانَه على هذا الغدْرِ أنْ يُعامِلَ الغادِرين بنقيضِ قصْدِهم، وأنْ تَزِلَّ أقدامُهم عن طريقِ الإِسلامِ بعدَ ثُبوتِها عليها، وأنْ يَذُوقوا السُّوءَ بغَدْرِهم الأثيمِ، وقد يُسلِّطُ اللهُ علي الغادرِين أمثالَهم، ومَا مِنْ ظَالِمٍ إِلَّا سَيُبْلَى بِأَظْلَمِ.
3 – الغادِرُ تَحِيقُ به اللَّعْنة:
إنَّ اللهَ الذي يطَّلعُ على خفِيَّاتِ الضَّمائرِ يرى ما أضمرَتْ نفوسُ الغادرِين من الغدْر، ولهذا يُحِلُّ عليهم لَعْنتَه ويَطردُهم من رحمتِه ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾، ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
وفي الصحيحين قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا (أي غدَر به) فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا».
ولذلك يشمَتُ النَّاسُ بالغادِرِ حين ينزِلُ به عقابُ الله، ولا يتعاطَفُون معَه ولا يرحمون موقفَه، حتى قيل: «لِكُلِّ عاثرٍ راحِمٌ، إلا الغادرَ فإنَّ القُلوبَ مُجمِعَةٌ على الشماتةِ بمصرَعِه». وهذا مشاهَدٌ معلوم.
4 – الإِغْراءُ بالعداوةِ والبغضاءِ بين الغادِرين:
فإنَّ بعضَ النصارى لما نقضوا الميثاقَ والعهودَ أوْرثَهم اللهُ العداوةَ والبغضاءَ بين طوائفِهم المختلفةِ، وبينهم وبينَ اليهودِ، إلى يومِ القيامةِ ﴿وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ﴾.
وهكذا كلُّ الغادرين، لا يأْمَنُ بعضُهم بعضًا، ولا يأمَنُون غيرَهم؛ خوفًا من أنْ يغْدِروا مثلَهم، فحياتُهم قلقٌ واضطرابٌ وهَمٌّ مُقيمٌ، ولهذا ما أسرعَ ما يسقُطون.
ورُبَّما سلَّط اللهُ بعضَ الغادِرين على بعضٍ فقتلَ بعضُهم بعضًا، ففي الحديث: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ إِلاَّ كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ».
– غَدْرُ الخليفةِ العبَّاسيِّ محمدِ الأمينِ ابن هارون الرَّشيدِ بأخيهِ المأمونِ وعاقبةُ الغدْر:
لما تولَّى الأمينُ الخلافةَ رغبَ في نقْضِ العهدِ الذي عَهِدَه أبوه الرشيدُ (عندَ الكعبة) بأنْ يكونَ أخوه المأمونُ وليَّ العهْدِ له والخليفةَ مِنْ بعدِه، وأراد توْلِيةَ العهدِ لابنه الصغير (موسى) بدلًا من أخيه، ولما استشارَ رجالَه في ذلك أشار بعضُهم عليه بما أراد واشتهَى مجاملةً ونِفاقًا، فتكلم خازم بن خزيمة، فقال: «يا أميرَ المؤمنينَ لنْ ينصحَك مَنْ كَذَبَكَ، ولنْ يَغُشَّكَ مَنْ صَدَقَكَ، لا تحمِلْ قُوَّادَك وجُنُودَك علَى الغَدْرِ فيَغْدِرُوا بكَ، ولا تحمِلْهُم على نَكْثِ العهْدِ فينْكُثوا ببَيْعَتِكَ، ولا يَرَوْنَ منكَ نقْضَ العهْدِ فينْقُضُوا عهْدَك، فإنَّ الغادِرَ مَفْلُول (أي مهزوم)، والناكِثَ مَخْذُول».
ولكنَّ الأمينَ مضى في خُطَّةِ نقْضِ العهْدِ، وسَيَّرَ نُخْبَة جُيوشِه للقبضِ على أخيه، وهو واثقٌ تمامًا مِنْ قُوَّتِه، ومِنْ ضعفِ أخيه وعدمِ قُدْرتِه على الامتناعِ، فدارَتْ عليه الدائرةُ، وانتهى الأمرُ بغَلَبَةِ المأمونِ، وقتلِ الأمين، مع أنَّ الجيوشَ والأموالَ كانت تحت يد الأمين. فاعتبِروا يا أُولي الأبصار!.
5 – تَسْليطُ العدُوِّ على الغادرين:
فلا يَدَعُهُم اللهُ يَهْنَؤُون بغَدْرِهم، بلْ يُسلِّطُ عليهم أعداءَهم من حيثُ لا يحتسِبُون، وفي الحديث: «مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ قَطُّ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ»، وفي حديث آخر: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ، وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ» منها: «وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِى أَيْدِيهِمْ».
6 – الحيْرَةُ والاضطرابُ والعجزُ عن مواجهةِ المشاكل:
فيكون الناقضُ للعهدِ أشدَّ قلقًا وحيرةً واضطرابًا، بما خانَ مواثيقَه، ومن ذلك: أنَّ اللهُ يفتح على الغادرِ من أبوابِ الشرِّ وأصنافِ المشاكلِ ما لم يكنْ بحُسبانِه، وما لا طاقةَ له به، ولا قُدرةَ له على مُواجهتِه، مما يكون سببًا في التعجيلِ بسقوطِه، فقد قال ابن عباس: «مَا وُلِّيَ أَحَدٌ وِلَايَةً (أي وظيفة) إِلَّا بُسِطَتْ لَهُ العَافِيَةُ، فَإِنْ قَبِلَهَا (أي نفَّذ ما عاهد عليه في تولِّيها) تَمَّتْ لَهُ، وَإِنْ خَفَرَ عَنْهَا (أى نقض العهدَ الذي أُخِذَ عليه فيها) فُتِحَ لَهُ مَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِه».
فهل تنتظرُ الأمةُ حتى يحلَّ بها كلُّ هذا الخرابِ والدَّمارِ بسببِ الغادرينَ الذين نقضُوا العهودَ، ويُصِرُّون على جرِّ الأمةِ رغمًا عنها إلى الهاويةِ؛ إرضاءً لرغباتِهم، وتحقيقًا لما أطمَعهم به الشيطانُ في مناماتهم؟ أم تنتفضُ الأمةُ وتستردُّ قِياَدها من يدِ الغاصبين الغادرين، لتنجوَ من سوء المصير؟.
(6) آثارُ الغَدْرِ يومَ القِيامة
إضافةً إلى ما سبق من آثارٍ كارثيةٍ في الدُّنيا؛ فإنَّ عاقبةَ وآثارَ الغدْرِ يومَ القيامةِ أخْزَى وأشدُّ وأبْقَى، وهاك أهمَّها:
1 – اللهُ تعالى خصمُ الغادرِ يومَ القيامة:
ففي الحديثِ القدُسيِّ الصحيح: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ غَدَرَ» الحديث (أي عاهَدَ وأقسمَ باللهِ على الوفاءِ بما عاهدَ عليه، ثم غَدَر) فيا ويْلَ منْ خاصمَه ربُّ العبادِ يوم المعاد!.
2 – لا نصيبَ للغادرين في الآخرةِ إلَّا سُوءَ الدارِ والخِزْيَ والعذابَ الشديد:
فمن البدَهِيِّ لمن خاصمَه اللهُ أن يُخْزِيَه ويفضحَه على رُؤوسِ الأشْهادِ، فلا خَلاقَ ولا حُجَّةَ ولا نصيبَ للغادرين في الآخرةِ، ولا يكلِّمُهم اللهُ كلامًا يسرُّهم، ولا ينظرُ إليهم نظرَ رحمةٍ وعطفٍ، بل ولا يُطَهِّرُهم من ذنوبِهم وسيئاتِهم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، فمآلُهمْ لعنةُ الله، ومُسْتَقُّرهم سوءُ الدَّار والعِياذُ بالله ﴿وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾.
3 – التَّشْهِيرُ بالغادرِ يومَ القيامَةِ:
من الخزي: التشهيرُ والفضيحةُ للغادرِ، إِذْ يُنَادَى يومَ القيامةِ على رُؤوسِ الأشْهادِ باسمِه واسمِ أبيه، وتُجعَلُ غَدْرَتُه لواءً يُوضَع عند مؤخِّرتِه، استهزاءً به وتقبيحًا له، ففي الحديث الصحيح: «إِنَّ الْغَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ بْنِ فُلاَنٍ»، وفيه أيضا: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُنْصَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ»، وفيه كذلك: «لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». وإنما رُفع اللواءُ عليه؛ لإظهارِ شُهْرتِه، بعقوبةٍ يشهدُها الأوَّلُون والآخِرُون، ويُنْصَبُ عند السُّفْلِ عند مَقْعدتِه، بحيثُ لا يقدِرُ على مُفارقتِه؛ لِيَمُرَّ به الناسُ فيَرَوْه، ويعرِفُوه، فيزدادَ خَجلًا وفضيحةً وخِزْيا عند كلِّ من مَرَّ به.
4 – الغادِرُ يلقَى اللهَ أجذَمَ مقطوعَ اليد:
وذلك من جملة الخزيِ والتشهيرِ بالغادرِ يوم القيامةِ: أنْ تُقْطَعَ يدُه التي بايَعَ بها ثم لم يَفِ بِبَيْعَتِه، ففي الحديث: «إِنَّ الجَنَّةَ لَا تَحِلُّ لِعَاصٍ، إِنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ نَاكِثٌ بَيْعَتَهُ لَقِيَهُ وَهُوَ أَجْذَمُ» الحديث.
فهل يقبلُ عاقلٌ بعد كلِّ ما سبق أنْ يستمرَّ في غَيِّهِ، وأن يَبْقَى على غدْرِه، وألَّا يعتبرَ بغيره، حتى يصبحَ هو عبرةً لغيره؟!
اللَّهُمَّ أَعِنّا وَلا تُعِنْ عَلَيْنا، وَانْصُرْنا وَلا تَنْصُرْ عَلَينا، وَامْكُرْ لنا وَلا تَمْكُرْ بنا، وَلا تَمْكُرْ عَلَينا، وَانْصُرْنا عَلَى مَنْ غَدَرَ بِنَا وبَغَى عَلَيْنا، واجْعَلْ بَأْسَ الغَادِرِينَ بيْنَهُمْ شَدِيدًا، واجْزِهِمْ بِبَغْيِهِمْ، واجْعَلْ دائِرَةَ السَّوْءِ تدُورُ عَلَيْهِمْ، واجْعَلْ مَكْرَ السَّوْءِ يَحِيقُ بِهِمْ، وشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ، وأَنْزِلْ عَلَيْهِمْ بَأْسَكَ الَّذِي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...