أحيوا القلوب بالإيمان

إن الناظر والمتأمِّل لأحوال البشرية ليعجب أشدَّ العجب من وقوف الناس من ربهم ومن إيمانهم به ومن تصديقهم للرسل والأنبياء هذا الموقف، ولقد أشار إلى ذلك الحديث القُدسى الذي يقول فيه ربُّ العزة جلَّ جلاله:”إنى والإنس والجنُّ في نبأ عظيم.. أخلقُ ويُعبَد غيرى، وأرزق ويُشكَر سواي.. خيري إلى العباد نازل وشرُّهم إلىَّ صاعد.. أتحبَّب إليهم بنعمي وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلىَّ بالمعاصي وهم فقراء إلىّ.. أهل طاعتي أهل محبتي.. أهل معصيتي لا أُقنِّطهم من رحمتي”، وفي حديث آخر يقول صلى الله عليه وسلم:”مَنْ تقرب إلىَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا، ومن تقرَّب إلىَّ ذراعًا تقربت إليه باعًا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة”.
أليس هذا بالأمر الغريب جدًّا، إنه موقف مؤلم، موقف الإنسان الذي خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، الذي كرمه وأنعم عليه وأرسل إليه رسله \”رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ ومُنذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ\” (النساء: 165)، ولذلك فالحق ينادي الشارد الذي استهوته الشياطين بقوله سبحانه: \”يَا أَيُّهَا الإنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكَرِيمِ * الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أي فى فى أى صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَك\” (الانفطار: 6- 8). إن موقف البعيد عن الله عز وجل، المنْكَبّ على المعاصي، موقف غريب وعجيب يحتاج إلى نظر من المؤمنين، ويحتاج إلى التأمل والاعتبار والنظر في كل شيء، فكانت منهم هذه الحكمة التي تقررت، لقد قال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه لأبي الدرداء رضي الله عنه: (تعالَ نؤمن ساعة.. إن القلب أسرع تقلبًا من القِدْر إذا استجمعت غليانًا\”.. تعالَ نؤمن ساعة، أيؤمن المسلم ساعة فقط من ساعات حياته؟ إن من يستعرض جيل الصحابة يوقن بأنهم (رهبان بالليل فرسان بالنهار) حملة المنهج الرباني الذي أخرج البشرية بحق من الظلمات إلى النور.
1- \”اجلس بنا نؤمن ساعة\”… كلمة أطلقها الصحابي الجليل معاذ بن جبل رضي الله عنه، فكانت لسان حال أفضل جيل عرفته البشرية، ثم غَدَت مادة في دستور الأجيال اللاحقة من المؤمنين.. ولا أخالني مغاليًا إذا قلت إنها كانت لسان حال ذلك الرعيل، فقد أُثِر عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه مثل هذا القول.. حينما قال لأبي الدرداء رضي الله عنه: (تعالَ نؤمن ساعة.. إن القلب أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا).
تعالَ نؤمن ساعة.. اجلس بنا نؤمن ساعة، أيؤمن المسلم ساعة فقط من ساعات حياته؟ أنفهم من هذه الكلمات ما يفهم اللاهون العابثون من قولهم (ساعة لقلبك وساعة لربك) أم ماذا؟!
إن من يستعرض جيل الصحابة الذي تربَّى على يد الرسول صلى الله عليه وسلم التربية النَّبيلة، وأطلق هذه الكلمات المضيئة، فإنه يجده كما وصفه المؤرخون والعارفون في كلمة موجزة \”إنهم رهبانٌ بالليل وفرسانٌ بالنهار\”. هذه الكلمة تعكس وصف الله البديع لهم \”إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَى اللَّيْلِ ونِصْفَهُ وثُلُثَهُ وطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ…\” (المزمل: 20)، \”رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ ولا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وإقَامِ الصَلاةِ وإيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ والأَبْصَارُ\” (النور: 37)، \”مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ والَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ ورِضْوَانًا سِيمَاهُمْ في وجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ\” (الفتح: 29).
إذن إذا كان كل حياة الصحابة -كما ذكرنا- حياة إيمان وأعمال صالحة فما مدلول هذه المقولة (تعالَ نؤمن ساعة) (اجلس بنا نؤمن ساعة)؟ في الحقيقة ليس لها من مدلول سوى أن حياة المؤمن لا بد لها من وقفات وجلسات إيمانية، يتزود المؤمن منها بزاد التقوى والإيمان والروحانية، فيراجع على ضوئها نفسه فيصلحها ويقيم أعماله، ثم يعمل على تقويمها وترشيدها.
إن زيادة الإيمان في حياة المؤمن مرهونة بممارسة هذه الوقفات الإيمانية، والجلسات الروحانية، وهذه حقيقة اعتمدتها هذه المقولة على أساس الآية الكريمة: \”يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ ورَسُولِهِ والْكِتَابِ الذي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ والْكِتَابِ الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ومَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا\” (النساء: 136).. هكذا نلمس من هذه الآية ومن تلك المقولة أن تعيق الإيمان واستمراريته معلَّقة على عقد مثل هذه الجلسات.
أضف إلى ذلك أن هذه المقولة تعكس عن جيل الصحابة رضوان الله عليهم جميعًا فقههم الواعي لحقيقة النفس والقلب من تقلبات وضعف وفتور، ولحقيقة الحياة وما يصاحبها من ملابسات ومصاعب يشيب منها رأس الحليم.
– أما عن حقيقة النفس والقلب:
أ- فالنفس أمارة بالسوء، كما قال الله تعالى: \”(إنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إلا مَا رَحِمَ ربى ) ولكن النفس اللوَّامة هي التي تزكو عند صاحبها، فتغلب عليها نزعات الخير على نزعات الشر \”لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ القِيَامَةِ * ولا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ\” (القيامة: 1، 2)، وتزكية النفس لا تأتي إلا بالمجاهدة: \”والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ\” (العنكبوت: 69)، ومن عوامل هذه التزكية اللجوء إلى مثل هذه الوقفات والجلسات الإيمانية المُفْعَمة بالروحانية بين الحين والأخرى، وإلا دبَّ الانحراف في النفس، فقادها الشيطان والعياذ بالله إلى إحدى السُّبل التي تنحرف بها وتتفرق بها عن الصراط المستقيم: \”وأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ\” (الأنعام: 153).

ب ــ وأما عن حقيقة القلب؛ فكما قال الصحابي الشهيد عبد الله بن رواحة: \”إن القلب أسرع تقلبًا من القدر إذا استجمعت غليانًا\”، ولكن مع هذه الحقيقة حقيقة كبرى هي أن هذا القلب بين أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء، ومن مشيئة الله وقدره ورحمته أنه يهدي من جاهد فيه، كما جاء في قوله تعالى: \”والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا\” (العنكبوت: 69).
– حقيقة الحياة:
أما عن حقيقة الحياة بخطورتها، فإن انهماك المرء في دوامة العمل والسير في دروب الحياة المتعددة قد ينحرف بمسيرة الفرد والمجتمع عن منهج الله وفطرته، فإذا ما انحرفت المسيرة ولو يسيرًا فإن زاوية الانحراف والانفراج مع مُضِى الوقت واستمرار المسير تكبر وتتسع، فلذلك هذه الوقفات بين الآونة والأخرى إنما هي وقفات للتصحيح.. وقفات للتقييم، ووقفات للترشيد، ووقفات للاستدراك قبل أن يمضي المسير قدمًا في المسار المنحرف، وقبل أن تحدث ضحايا من الأنفس والمال والجهد والوقت.
إن سلبيات الحياة (بلغة العصر)، بل ضلالات الحياة (كما هي بلغة الإسلام) تبدأ بالانحراف الصغير.. حتى إذا ما استمرت في الانحراف اتخذت طابع المسارات والسبل المتفرقة عن الصراط المستقيم، فهي تبدأ بسلبيات أو ضلالات صغيرة يكاد لا يحس بها المرء بادئ ذي بدء، ومنطلقاتها على سبيل المثال.. الأنانية وحبّ الذات.. العُجْب والغرور.. والعناد والمكابرة.. والجحود والنكران.. إلى غير ذلك من السلبيات والضلالات.. هذه السلبيات تجذب المرء أو المجتمع ومن ورائها الشيطان إلى السبل المتفرقة التي أشارت إليها الآية الكريمة \”وأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ\”.
وقد يقول قائل: \”إن مثل هذه الوقفات والجلسات الإيمانية يمكن أن تكون وقفات فردية.. بمعنى أن يجلس الفرد إلى نفسه فيحاسبها ويتأمل أعمالها فيُقوِّمها\”، والإجابة:
إن هذه الوقفات الفردية لا شكَّ في إيجابيتها وجدواها، ولكن للوقفات والجلسات الإيجابية المشتركة التي يجلس فيها الفرد المسلم إلى أخيه أو بعض إخوانه المؤمنين الذين يصطفيهم ويصطفونه.. إيجابيات ليست في تلك الوقفات الفردية.
إن الحكمة من هذه الوقفات والجلسات الإيمانية المشتركة عظيمة والفوائد منها جَمَّة، وضروراتها متعددة، فعلى سبيل المثال:
إن المرء في كثير من الأحيان يرتكب أخطاءً لا يُحِسُّ بها، أو يسلك سلوكًا معينًا أو يتَّخذ موقفًا مُجانبًا للصواب، وهو يعتقد أنه على حق وعلى المنهج الإسلامي، فعَبْر هذه الجلسات والمدارسة الإيمانية وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة تتكشَّف له بعض الجوانب الخاطئة في تفكيره أو فهمه أو سلوكه أو علمه فيقوم على إصلاحها.
هذا بجانب أن استعداد المرء لتقبُّل التضحية لا ينمو في ذاته إلا من خلال مثل هذه الممارسات، وهذه الحقيقة ملموسة لدى أولئك المؤمنين الذين يحيون هذه السُّنَّة، وعكس هذه الحقيقة ما هو ملموس في واقعنا الراهن حكامًا ومحكومين، فمن لم يتعوَّد على مثل هذه الجلسات نجده إذا ما قدَّمت له النَّصيحة أخذته العزة بالإثم، وأخذته الرَّجفة، وغَلَت دماؤه في عروقه وانتفخت أوْداجُه مستنكرًا أو مستنكفًا، ولسان حاله يقول: (كيف يجرؤ على انتقادي.. وأنا كذا.. وكذا؟!)، بل تجد بعض الأحيان إذا ما تعرَّض الشخص إلى حديث موضوعي غير مباشر تأخذه العزة بالإثم فينتفض قائمًا وقائلًا: (أنت تعنيني بهذه المقالة). فعلى أثر هذه الاستجابة السلبية ينزع الناس إلى عدم إبداء النصيحة المخلصة، طالما أن الكثير لا يُحِبّ أن يستمع إلا إلى ما يسُرُّه، وهكذا ينشأ النِّفَاق وطبقة المنافقين، وتكثر الأخطاء والانحرافات في المجتمع، ويستفحل المرض، ويتمكن من المجتمع فيُدمِّره.
ومن ناحية أخرى حين تَقِلُّ أو تنعدم هذه الوقفات وهذه الممارسة الإيمانية تموت في الناس روح الشجاعة، وتنعدم فيهم السِّمَة المميِّزة للجماعة المؤمنة، فتموت فيهم روح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
حقًّا.. إن هذه الجلسات الإيمانية لهي صورة من صور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي صورة التَّماسُك الاجتماعى في المجتمع المسلم الذي حرص الإسلام على ترسيخه.
\”إنما يأكلُ الذئبُ من الغَنَمِ القاصية\” كما قال صلى الله عليه وسلم.
فهلا انصرف المسلمون إلى إحياء هذه السُّنَّة التي تكاد تنقرض؟ فهلا يجلسون للإيمان ساعة من كل يوم أو من كل أسبوع بدلًا من ضياع الكثير من الساعات وراء المفاسد، مثل مشاهدة الإذاعة المرئية التي لا تبُثُّ إلا الفساد، أو ارتياد مجالس اللهو والعبث، مثل لعب الورق أو النَّرْد أو الجلوس مع الأصدقاء أو المعارف في حديث لاهٍ غير مسئول لا يمُتُّ إلى الإسلام أو المسلمين ومصالحهم وشئونهم بشىء \”ومن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم\”.

x

‎قد يُعجبك أيضاً

لا مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلّا إِلَيهِ

خمسة توكل!قال الإمام القشيري:“لما صدَق منهم الالتجاء تداركهم بالشِّفاء، وأسقط عنهم البلاء، وكذلك الحقُّ يكوّر ...